بواكير التعليم الديني الحديث في العراق ..المدرسة الجعفرية

بواكير التعليم الديني الحديث في العراق ..المدرسة الجعفرية

د نجاح هادي كبة

استورد الحاج سلمان ابو آلتمن سنة ١٩٠٦ ميلادية سماورات (السماور هو جهاز لغلي ماء للشاي، ويصنع من صفائح الفضة والبرونز الاصفر والابيض)، وكلمة سماور فارسية معناها (ثلاث معطيات)، اذ انه يتألف من ثلاثة اقسام، اعلى لوضع الفحم، وسط للماء،

اسفل يتجمع فيه الرماد، متقنة الصنع، جميلة الشكل، حلوة المنظر، نالت اعجاب الناس في ذلك الزمان، وخلال فترة قصيرة نفدت من السوق، ولما علم سلمان بذلك أمر كاتبه اليهودي (شمّيل سوميخ) بان يكتب برقية بطلب كمية اخرى منها، فمرر اليهودي برقية ووقعها سلمان ابو التمن، وذهب بها الكاتب الى البريد ليبرقها. وبعد اكثر من شهر ظهرت السماورات في حانوت عباس محبوب اغا، تبين بعد ذلك ان (شمّيل) طلب من أحد تجار اليهود استيرادها، فدهش ابو التمن من خيانة كاتبه، وقال له احدهم لو كان كاتبك مسلما لما حدث ذلك.

من هذه الحادثة تولدت فكرة فتح مدرسة لتعليم اللغة الانكليزية والالمانية والفرنسية. في اول الامر تردد ابو التمن معتبرا ان الفكرة من الكفر، لكن اصحاب الفكرة ألحوا عليه فطلب منهم أخذ فتوى من السيد محمد سعيد الحبوبي، وفي اليوم التالي جاء ابو التمن مع احد اصحاب الفكرة وذهبا الى محطة الترامواي الذي نقلهم الى الكاظمية حيث منزل الحبوبي، وبعد النقاش معه وسرد قصة السماوارات وان اليهود والنصارى يحتكرون المحاماة واللغات الاجنبية، فهل بالامكان فتح مدرسة، فقال الحبوبي انكم تشكرون على الفكرة لانها ضرورية وقال (من تعلم لسان قوم أمن مكرهم).

اجتمع الحبوبي في دار ابي التمن للترويج للفكرة بحضور السيد عبدالكريم السيد حيدر، والشيخ جواد تويج، وبعد فترة اجتمع كل من مهدي الخاصكي، عبدالكريم حيدر، علي السيد مهدي البغدادي، جعفر السيد هاشم، امين الجرجفجي، داود ابو التمن، سلمان ابو التمن، الشيخ شكر الله في مسجد الحاج ابي التمن، وتم تقديم طلب الى الوالي باللغة التركية لاستحصال موافقة باجازة المدرسة، وحصلت الموافقة.

تم اختيار الشيخ شكر الله مديرا للمدرسة، لكن الشيخ المذكور لا يملك اية شهادة مدرسية وانما درس على يد العلامة محمود شكري افندي الآلوسي، وكان الاقتراح ان يحصل على اجازة للتدريس من محمود شكري، وحرر الاخير له الشهادة وقدمت الى مدير المعارف، لكن جواب المعارف (ان هذه الشهادة لا تخول صاحبها ان يكون مديراً لمدرسة رشدية واعدادية)، بعدها تمت الموافقة عن طريق الوالي، وبعد فترة جاء كتاب من مديرية المعارف وجاء فيه (بناء على الطلب المتقدم بالعريضة المرقمة (1324) من قبل الشيخ شكر الله والسيد علي البغدادي، قد سمحت الولاية بفتح وتأسيس مكتب (الترقي الجعفري العثماني)، فنرجو تبليغ المستدعين بمراجعة مديرية المعارف لتلقي التعليمات اللازمة ودمتم).

بعد وصول كتاب مديرية المعارف، استأجرت هيئة المدرسة الدار التي كان يسكنها (ارستو) الطبيب المشهور، وهي مجاورة لمسجد الحاج داود ابي التمن بعشرين ليرة عثمانية ذهب في السنة والمتبرعون للمدرسة الجعفرية اول مرة هم: السيد جعفر السيد هاشم (30) ليرة ذهب. الحاج داود ابو التمن (50) ليرة ذهب. أمين الجرجغجي (40) ليرة ذهب. الحاج مهدي الخاصكي (20) ليرة ذهب. في 8 / 7 / 1921 زار الامير فيصل الذي أصبح أول ملوك العراق بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثه (1921_1933)المدرسة الجعفرية، وقد اعدت المدرسة احتفالاً فخماً دعت اليه كثيراً من الزعماء والعلماء والادباء والشعراء وعلية القوم منهم نوري الياسري، علوان الياسري، محمد الصدر، محمد بحر العلوم، عبد الكريم الحيدري، عبد الواحد سكر، سالم الخيون، جعفر العسكري، باقر الشبيبي، احمد الداود، عبد المجيد الشاوي، ابراهيم ناجي، الشاعر عبد الحسين الازوي، الشاعر جميل صدفي الزهاوي، محمد مهدي البصير، كامل الدجيلي، وغيرهم، وتبرع عدد من الحاضرين للمدرسة، اما الشاعر جميل صدقي الزهاوي فليس لديه ما يتبرع به فقال:

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فاليسعد النطق ان لم تسعد الحال فصفق له الجميع وقام جعفر العسكري متبرعاً بداله.

وبالرجوع إلى عام ١٩٠٨م أتت موافقة السلطات العثمانية ممثلة بوالي الولاية تم فتح المدرسة عام 1908م وكان كادرها الإداري مؤلفاً من الشيخ شكر الله مديراً للمدرسة وعلى البازركان معاونا ورؤوف القطان مفتشاً .. وقد توسع كادرها الإداري عام 1909م، وصارت بعد ذلك مدرسة مسائية لتعليم الأميين، وكانت تدعى في العهد العثماني مدرسة الترقي الجعفري العثماني.ولابد من الإشارة إلى ان المدرسة الجعفرية الأهلية منذ افتتاحها قد فتحت ذراعيها للطلاب والمدرسين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب وإنما سميت بالجعفرية ليس نسبة إلى (( طائفة الجعفرية الإسلامية )) وإنما نسبة إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لذي أسس اول جامعة إسلامية علمية في أبان العصر العباسي وهذا ماوضّحه القائمون للعثمانيين حين تقدموا بالطلب لفتحها . وضع العثمانيون علامة استفهام على اسم المدرسة، لكن سرعان ما وافقوا على التسمية وفتح المدرسة وكان النظام المعمول به في مدرسة الجعفرية الأهلية هو النظام الذي وضعته الهيأة التأسيسية للمدرسة سنة 1922، وظل معمولا به حتى سنة 1929م، حيث قررت الهيأة التأسيسية لهذه السنة وضع نظام خاص تصادق عليه وزارة الداخلية، وقد وافقت الوزارة عليه وطبع بمطبعة المعارف سنة 1930م .

من النشاط الوطني للمدرسة في عهد الاحتلال البريطاني امتدّ نشاط المدرسة الوطني طوال الحكم الملكي 1920ــ 1958 ، ومن نشاط هذه المدرسة قصيدة أعدها الشاعر محمد مهدي البصير بمناسبة إقامة المدرسة الجعفرية حفلة لتوزيع الجوائز على المتفوقين عام 1920م وقد عدت الأوساط الوطنية هذه القصيدة في حينها جواباً على تصريحات حاكم بغداد العسكري الذي كان استدعى البصير وثلاثة من رفاقه، بينهم المرحوم جعفرچلبي أبو التمن إلى مكتبه وقال لهم أنه يعدهم مسؤولين عن حوادث الليلة الماضية يريد تظاهرة 7 رمضان سنة 1920م … ان هذه القصيدة كانت بين المستمسكات التي أبرزها القاضي البريطاني المنفرد الذي تولّى مقاضاة البصير في ربيع سنة 1920م الذي كان يتمتع بسلطة مدع عام وقاضٍ في وقت واحد، وقد حكم هذا القاضي على البصير بالحبس الشديد لمدة سنتين، وبدفع غرامه قدرها ثلاث آلاف روبية .. إلاّ أن المندوب السامي الذي أحيل إليه هذا الحكم للمصادقة استبدل به بالحبس الشديد مدة سنة واحدة، ومما جاء في قصيدة البصير

إن عُدْتَ غربياً فلعلّك ذاكرٌ

فيَّأتَ أهلَ الغربِ ظِلَّ حضارةٍ

لكنهم كفرُوا بنعمتكِ التي

عهداً نَعِمْتَ به وأنتَ عراقي

ضَرَبَتْ على العيّوقِ أيَّ رواقِ

جلّتْ فلحُّوا في عمى وشقاق

من الأساتذة المربين الرواد في المدرسة الجعفرية

منهم على البازركان الباحث والشخصية الوطنية والمربي الشهير، وصادق الملائكة والد رائدة الشعر العربي الحر الحديث نازك الملائكة ويوسف سلمان كبه باحث وأديب وحقوقي وإداري له كتاب الحياة في لندن سنة 1950م، ونوري ثابت صاحب جريدة حبزبوز الفكاهية وكان ناقدا اجتماعيا وسياسياً من طراز متفرد، وغيرهم كثير كثير..

شكر الله بن احمد أول مدير للمدرسة الجعفرية عام 1918م

هو الشيخ شكر الله بن احمد بن شكر البغدادي من علماء الإمامية الأجلاء بالكرخ ولد عام 1856م، وأتم دراسته العلمية على علماء الكاظمية والنجف، وعاش على موارد أمواله الواسعة، ولمّا أُسّست المدرسة الجعفرية في بغداد 1908م في العهد العثماني بهمة الغيارى وفي مقدمتهم علي البازركان كان الشيخ شكر أول مدير لإدارتها ومدرس فيها، والبازركان معاونه لها، تولّى الشيخ شكر هيأتها المؤسسة لها سنة 1918، إذ اختاره الحاكم الملكي العام أرنولد ويلسون لتولي القضاء الجعفري ببغداد بجانبيه الرصافة والكرخ بصفة النائب الأول لقاضي بغداد وكان خير من نهض بها، وكان موضع ثقة واعتماد على الانضمام لهيئتها التدريسية المسائية، وفي أول نيسان عام 1920م تبرع بالتدريس في المدرسة مجاناً وبكل اعتزاز توفى عام 1938م