عزيز السماوي.. بانوراما عراقية

عزيز السماوي.. بانوراما عراقية

كاظم غيلان

منذ حركة التجديد في شعر العامية العراقية على يد الشاعر الكبير مظفر النواب دأب عدد من روادها على انهماكات واشتغالات عديدة مغايرة للسائد الشعري ومواكبة الأشكال التي عرف بها الشعر العربي بمجمل تاريخه وتحولاته بدءاً من الملعقات الشعرية التي راهنت على البقاء ليومنا هذا .

ولعل الفتح النوابي مهد الطريق لنخبة من شعراء الريادة التي تلت تجربته ومن خلال قصائده الشائعة ذات المنحى الملحمي كـ( حجام البريس- أنموذجاً) لكل ماتعنيه الملحمة الشعرية من خصائص فنية الى جانب قصائده الأخرى ممثلة بـ( حسن الشموس، حرز، ابن ديرتنه حمد ، أيام المزبن) فكان لها انعكاسها الواضح في قصائد كريم محمد حمزة لاسيما ( الطوفان، مواسم حزن أو- شجرة الأسماء والفصول كما أسماها بداية) وعزيز السماوي في(أغاني الدرويش رقم1، لون الورد والثلج بالليل، النهر الأعمى، بانوراما عراقية) وطارق ياسين في(حلب بن غريبة) وهذه القصائد لم تكن بمستساغة في حركة شعر العامية العراقية، فضلاً عن وجود مطولات شعرية لشعراء بارزين كعلي الشباني، كاظم الركابي، يعرب الزبيدي وآخرين ، ولربما هذه واحدة من أبرز ما يواجهه المتلقي أو حتى الباحث في شأن هذا اللون الابداعي الذي افتقر للتمييز بين الملحمة كفن شعري والمطولات في القصائد.

غادر عزيز مع الذين غادروا العراق قسراً الى حيث أصقاع المنافي المترامية في بقاع العالم بفعل الهجمة الشرسة التي طالت اليسار العراقي نهاية سبعينيات القرن الماضي حتى رحل عن الدنيا في منفاه الثلجي اللندني أواخر 2001. المتتبع لتجربة السماوي الشعرية يكتشف شغفه الدائم بالإطالة الشعرية لاسيما في شوط الوعي والتجربة الأنضج التي لخصها عبر القصائد التي أشرت لها فكانت خاتمتها(بانوراما عراقية التي أصدرها في لندن 1999 والتي ثبت إهداؤها لرفيق تجربته التشكيلي العراقي الرائد الصديق(فيصل لعيبي) بوصفها- تكويناً لغويا- حسب اشارته المثبتة في الإهداء . البانوراما هذه صراخ في نفق ليل العراق العميق الطويل عبر تكوناته في شخصياتها( تومان، مهدي محمد علي،صلاح جياد، لعيبي، هندال، أبو سرحان، سعدي يوسف، سالم المرزوك، أم سامر) والتكونات هذه امتازت بذلك الانتماء المشع للبصرة وتاريخها الثري بدءاً من ثورة الزنج وطقوسهم، فضلاً عن غنائيات الوجد المرتبطة بجذور التاريخ الأول اللاهب المستمر باحتجاجه الغاضب الذي شحنته تجربة المنفى المغلفة بعنف حزنها القاتم في محاولة لاستدعاء الثورة- الضوء وعبر أفعال الحياة التي استخدمها(هايم، يغني، يتلون، يتلكه، يتلفت):

منفي الجرح والنهر..

وين الوطن..

مالاح البصرة صلاح يحلم أبذاك الصبح هيبة زلم

وأرماح غضب جوع الفقير أوذلة الفلاح هايم..

جنونه سفن تدوي العمر كله..

ظلام ..

أولانجم يلمض حنين أو للأبد..

مالاح عواصف تدوي باللوحه صهيل أخيول وأرماح

واذ أشرت لخصوصية(البصرة) بمختلف دلالاتها المتشابكة والمتداخلة إذ وردت كبداية لأبيات شعرية بلغ عددها(50) مرة في هذه البانوراما ماهو الا تأكيد يشتمل على أبعاد روحية – تاريخية – سياسية متمثلة برموزها الآنفة الذكر: البصره.. صبر هندال البصره.. ليلوه أوركص أطفال البصره.. جمره أوحجي أو موال البصره.. يوم الغضب هيبة اسيوف أطوال )فيصل) تلمض اجفوفه حزن واسرار تزخر البانوراما هذه بذات الايقاع الذي اعتمده السماوي في قصيدته الشهيرة(أغاني الدرويش رقم1) المكتوبة أواسط سبعينيات القرن الماضي : البصره فانوس أنطفه ابليل الصرايف

كلش تحد الروح للروح هيوه وركص حزن(الوصايف)

في اشارة منه للقمع الوحشي الذي نال إنسان العراق الذي عانى من انسحاقه الطبقي جراء سياسات معادية لحلمه وتوقه الدائم لحريته ، ولذا نجده شاعراً متشبثاً بماض ظل يلاحق ذاكرته المفجوعة بالحنين.. بالماضي ورموزه:

ياسالم المرزوك ..

يمته النهر كله أيفيض غيض أو يعلن الطوفان ياسالم المرزوك..

فهمني أحنه أبحلم لو ليل المنافي دهر حلمان ياسالم المرزوك..

ما أدري أحنه الخطأ لو هذا الزمن خطآن

(بانوراما عراقية)،

العمل الذي يصرخ دونما نهاية لم يجد حيزه في الانتشار بسبب الظرف السياسي العراقي الملتبس مثلما بقي بمنأى عن الدراسة الحقة الا بحدود اشارات عابرة لاتمت للنقد بصلة وكما هو معروف في مجال شعر العامية العراقية المبتلى بأشباه المثقفين.