من تاريخ الاوبئة في العراق..مرض الكوليرا يغزو العراق في القرن التاسع عشر

من تاريخ الاوبئة في العراق..مرض الكوليرا يغزو العراق في القرن التاسع عشر

.د . كمال رشيد العكيلي

مرض الكوليرا « الهيضة « وهومن الأمراض المعوية المعدية التي تسببها سلالات جرثوم ضمة الكوليرا ، التي كشفها « البكتريولوجي» الألماني « روبرت كوخ عام 1883 في مدينة الأسكندرية . وتنتقل الجرثومة إلى البشر عن طريق براز المريض أو بولهِ أو قيئه إلى غيرهِ من الناس ، مع الطعام أو الشراب من مياه ملوثة ، حتى إذا وصلت الجرثومة إلى الأمعاءتحدث إلتهاﺑﺎً ببطانة الأمعاء ويمتلىء المسلك الهضمي بسائل رقيق مائي .

ولأجل الوقاية من هذا الوﺑﺎء لابد من التخلص من براز المرضى وبولهم وإفرازاﺗﻬم الآخرى بعد تعقيمها بعناية ، وكذلك تعقيم جميع الأوعية والأدوات التي يلامسوها . ولابد من تنقية جميع منابع مياه الشرب في المنطقة كلها وتطهيرها ﺑﺎلكلورين بكمية أكبر من المعتاد ، لضمان قتل جرثومة الكوليرا ، بينما أعراض المرض ،يظهر بعد العدوى بمدة تختلف ، فإذا بلغ المرض أوجهُ فإن الأسهال والقيء يتعاقبان في سرعة وكثرة تفقد المريض مابجسمهِ من الماء فيصبح مسلوب الماء ، عطشان ، غائر العينين ، ضعيف الصوت ، أزرق الجلد ، كما قد تحدث لهُ تقلصات حادة في عضلات الأطراف ، مؤلمة في جميع جسمهِ ، قصور كلوي حاد وكبت البول ، تسارع في نبضات القلب ، كبت الصوت ، وإنخفاض حرارة الجسم وضعف عام .أما علاج المرض لابد من عزل المريض عن غيرهِ من الناس ثم علاجه .

للكوليرا دور مميز في التاريخ الوﺑﺎئي للعراق الحديث . فقد كان النصف الأول من القرن التاسع عشر حافلاً ﺑﺎلموجات الوﺑﺎئية لهذا المرض ، فبينما كانت الكوليرا متفشية في أجزاء عديدة من الهند في عام 1817 ، جرى توريدها إلى مناطق واسعة من العالم ، بضمن ذلك أورﺑﺎ . وآثر الوﺑﺎء بعنف على بومباي في المدة

بين 1818 و 1820 . ومن هناك جُلبت الكوليرا بواسطة السفن إلى مسقط ، في عُمان ، وبوشهر في إيران ، وإلى البصرة في شهر تموز عام1821حيث ساد الوﺑﺎء فيها لمدة أربعة عشر يوماً ، مهلكاً مابين 15,000 إلى 18,000 نسمة ، أو مايقارب ربع السكان ، منهم 14,000 ألف لقوا حتفهم في غضون أسبوعين . وقد تكدست في تلك الأثناء الجثث في المساجد والشوارع ، فيما لاذ معظم أهالي المدينة ﺑﺎلفرار إلى الصحراء . ونقلت خلال السنة ذاﺗﻬا قوارب كانت تبحر في دجلة جرثومة الكوليرا إلى بغداد .مات تقريباً ثلث السكان بسبب التفشي الوﺑﺎئي وهناك إعتقاد ﺑﺄن الزوار الهنود الزائرين إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وبغداد هم الوكلاء لنقل تلك العدوى .

لم تكن الكوليرا على مايبدو معروفة على نطاق واسع في العراق خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر . فقد وصف المؤرخ العراقي رسول الكركوكلي في كتابهِ « دوحة الوزراء في ﺗﺎريخ وقائع بغداد الزوراء « « الكوليرا التي ضربت البصرة في عام 1821 با نه مرض خبيث ليس لهُ أسم أو علاج معرف . على أي حال تعرض العراق تكراراً إلى وﺑﺎء الكوليرا لمرات عدة منذُ عام1851 ولغاية عام 1917 . وكانت عدوى الوﺑﺎء تُجلب في الغالب من الهند ، ومكة وأيران وأماكن آخرى وبوسائط متنوعة .

وعلاوةً على ذلك إندلعت الكوليرا مرةً آخرى في العراق بعد تحركها من إيران في عام 1822 ضاربة الموصل في الربيع وبغداد في الخريف ، ووردت من أيران أيضاً مرةً آخرى في عام 1846 ووصلت إلى بغداد في 18 أيلول ، وقد إستمر التفشي الوﺑﺎئي أربعين يوماً ، وكذلك عاودت الكوليرا ﺑﺎلتفشي ﺑﺎلعراق مرة آخرى في عام 1847 عندما إنفجر الوﺑﺎء في البصرة ووصل إلى بغداد في 10 أيلول ، حيث سجلت ألف إصابة و 150 حالة وفاة .

و عاودت الكوليرا ﺑﺎلإجتياح لمدينة بغداد بتاريخ 11 أيلول عام 1851 وأستمرت هناك لخمسين يوماً . وعاودت مرةً آخرى ظهورها في بغداد في شهر تشرين الثاني عام 1851 وأنتشرت منها إلى منطقتي كفري

وكركوك ، ومن ثم إلى تبريز في أيران . وكان التحول اللاحق لهذا التفشي تحولها إلى وﺑﺎء عالمي ، التطور الأكثر إﺛﺎرة آنذاك . فبعد توقف مؤقت في أيران ، غزا الوﺑﺎء أجزاء واسعة من القارة الأوربية ، بضمن ذلك جنوبي روسيا ، وشمالي المانيا وهولندا ، وأنكلترا وأقطار آخرى .

ولقد سجلت حالات متفرقة للإصابة بمرض الكوليرا في بغداد بتاريخ 14 تشرين الأول 1869 . ومنذُ إنفجار الوﺑﺎء في ولاية بغداد في شهر تشرين الأول ولغاية إنقراضهِ في شهر كانون الأول من العام نفسه ، حيثُ بلغت الوفيات في مدينة بغداد 39 شخصاً ، والكاظمية 18 شخصاً . وشهد العراق مرةً آخرى حصول إندلاعات خفيفة ومحدودة النطاق والأثر للكوليرا في مناطق متفرقة عام 1870 . ومنذُ ذلك التاريخ لم تُلاحظ حالات إصابة آخرى ﺑﺎلكوليرا في العراق لغاية ربيع العام التالي . ومع إن الهجوم الوﺑﺎئي للكوليرا غطى

منطقة واسعة من العراق عام 1871 1872 إلاّ إن خسائرهِ ﺑﺎلأرواح كانت نوعاً ما معتدلة . كان المصدر للعدوى الوﺑﺎئية هذه المرة مدينة «بوشهر» في أيران ، حيث إنتشرت الكوليرا هناك في بداية عام 1871 . وقد توقفت الكوليرا تماماً في ولاية بغداد والمناطق العراقية الآخرى في شهر كانون الثاني عام 1872 .

وفي عام 1889 إجتاحت العراق واحدة من أعنف موجات مرض الكوليرا في ﺗﺎريخهِ الحديث . وكان يُعتقد ﺑﺄن عدوى المرض قد جُلبت من مدينة بومباي في الهند ، وفي العام نفسه إخترقت الكوليرا كل النطاقات الصحية الصارمة التي أُقيمت لحماية بغداد التي وصلتها العدوى يوم 14 آب عام 1889 ، وقد شخص الدكتور « أدلر « المفتش الصحي المؤقت لبغداد ،الإصابة الأولى للكوليرا التي حدثت في المدينة ، وكانت لجندي توفي بعدما أدخل المستشفى لمدة ست ساعات فقط . وقد أستمرت هذه الموجة للكوليرا ﺑﺎجتياح بغداد لمد ثلاثين يوماً ، وقد وجد قاطنوها والأعيان وآخرين بضمنهم اليهود طرقاً ملائمة لمغادرة المدينة إلى القرى المحيطة . وقد قدرت مجلة أمريكية تعني ﺑﺎلشؤون الصحية الخسائر ﺑﺎلأرواح في بغداد للمدة من 20ـ 30 آب من عام 1889 بين 100 200 حالة وفاة يومياً.

وقد وصف القنصل الروسي في بغداد الخسائر البشرية والرعب الذي سببهُ الوﺑﺎء ﺑﺎلقول:

« غالباً ماكنا نسمع بعد الظهر عن جنازة شخص سبق إن رأيناه في الصباح بصحة ﺗﺎمة ، ولهذا لايعجب المرء من الذعر الذي حلّ ﺑﺎلمدينة والذي جعل كل واحد منهم يفكر ﺑﺎلفرار « وقد بلغت وفيات مدينة بغداد من مرض الكوليرا 924 « شخصاً « ا للفترة من 14 آب ألى 26 أيلول من عام1889 .ووفقاً لصحيفة الزوراء العراقية ، فقد ظهرت الكوليرا في بغداد بتاريخ 13 آب 1893 وإن الوﺑﺎء بلغ ذروتهُ يوم 24 آب عندما تقشى في ثكنات الجنود . وأنتشر المرض في اليوم التالي سريعاً بين السكان المدنيين . وقد قدرت الخسائر ﺑﺎلأرواح المسجلة رسمياً في بغداد من جراء الوﺑﺎء منذُ إندلاعهِ في منتصف شهر آب ولغاية 28 تشرين الأول

نحو « 693 « حالة وفاة .

وحلت في بغداد عام 1894 فاجعتان وهما فيضان دجلة فجأة في ربيع عام 1894 ، وحالما بدأت بغداد تتعافى من كارثة الفيضان ، إندلع مرض غامض فيها فمات منهم ﺑﺎلمئات . إلا أن السلطات الصحية الرسمية رفضت الأعتراف ﺑﺄن المرض كان كوليرا . ومن الملاحظ ان إنحسرت الكوليرا لاحقاً في العراق ليدخل البلد بعد ذلك في هدنة وﺑﺎئية قصيرة لغاية منتصف عام 1911 ، عندما أستأنفت الكوليرا هجماﺗﻬا ﺛﺎنية.

عن بحث ( الأمراض الإنتقالية في مدينة بغداد) . مجلة لارك ، /34العدد/ 2019