«تحوّلات الفينومينولوجيا”: الإقامة في مرايا ميرلو بونتي

«تحوّلات الفينومينولوجيا”: الإقامة في مرايا ميرلو بونتي

شوقي بن حسن

الفلسفة بمعنىً ما هي تاريخُها؛ إنها ذلك الجدل المستمر بين المتداخلين فيها ضمن تراكم فكري لا يستقر على ثبات. ينسحب هذا المنظور على فروع الفلسفة أيضاً، كالفينومينولوجيا، رغم تاريخها القصير.

في كتابه “تحوّلات الفينومينولوجيا المعاصرة.. ميرلوبونتي في مناظرة هوسرل وهايدغر”، الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” (2015)، ينقل لنا الباحث الجزائري محمد بن سباع (1980) قطعة من سجال الفلسفة. سجال ثلاثة فلاسفة يلتقون في دائرة الفينومينولوجيا، غير أن منطلقاتهم المختلفة جعلتهم يصلون إلى مقاربات متنوّعة للعالم، وحتى للفينومينولوجيا ذاتها.

تبدأ قصّة هذا المجال من نهايات القرن التاسع عشر. فلحل ما أسماه “أزمة العلوم الأوروبية”، ومن ورائها أزمة الفكر عموماً، طوّر الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 - 1938) منهجاً سماه بالفينومينولوجيا، حيث فكّر في العودة إلى الأساس الأول والمطلق الذي تقوم عليه معارفنا، والذي أجمله في “خبرة الأنا المتعالي».

رأى هوسرل بأن “العالم قد جرى تهميشه بإحلال عالم الطبيعة محلّه (..) وتم إحلال الحدس الهندسي محل الحدس الأصلي الكامن فيه. وبالتالي، أصبحت الصيغ الرياضية غطاءً يحجب عالم المعيش بكل ما يحمله هذا العالم من تجارب وحقائق».

جاء تلميذه مارتن هايدغر (1889 - 1976) بمطمح أكبر حين حاول توظيف مقاربة هوسرل لحل “معضلة الوجود”، محوّلاً الفينومينولوجيا من دراسة ماهية الظواهر إلى دراسة ظاهرة الماهية (مبحث الوجود).

حين وصلت الفينومينولوجيا إلى فرنسا، انقسم المهتمّون بين توجّهَي هوسرل وهايدغر: بعضهم ولّى وجهه صوب دراسة المشكلات المعرفية (الفينومينولوجيا المتعالية) وبعضهم الآخر اتجه بأدواتها للبحث في مسألة الوجود (الوجوديون).

موريس ميرلوبوتي (1908 - 1961) وقف بعيداً عن هذا الاستقطاب الثنائي، إذ اعتبر أن الفصل الذي حدث بين المعرفة والوجود غير ممكن، وستُفضي مقارباته الى تطويره تعريفاً جديداً للفينومينولوجيا يسعى مؤلّف الكتاب، الذي نحن بصدده، إلى إظهار معالمه، وهو الذي يعتبر بأن ميرلوبونتي “حوّل الفينومينولوجيا من سؤال الفلسفة إلى فلسفة السؤال».

من أجل جَسر الهوّة بين المقاربتين، قال ميرلوبونتي بأنه ينبغي العودة إلى “الجسد” والنظر إلى كل القضايا من خلاله. الجسد الذي هو “وسيلة وجودنا في العالم والذي يربط بين الوعي والعالم”. بغياب هذه النظرة إلى “أداة الإدراك”، كانت الفلسفات ترى العالم في “انفصالنا عنه وليس باتصالنا به”. هكذا حاول الفيلسوف الفرنسي إنهاء “التعالي على الأشياء” وافتتاح تجربة “الإقامة فيها».»

على مدى الكتاب، ينقلنا المؤلّف من قضية فلسفية إلى أخرى (اللغة، الحرية، الميتافيزيقا، الجسد، التقنية، التاريخ... ) ضمن نفس اللعبة الثلاثية التي ترصد اختلاف كل فيلسوف مع البقية.

فحين ينفي هوسرل وجود الإدراك الخارجي مقابل الإدراك الداخلي، فإن ميرلوبونتي يوضّح أن الادراك الحسي هو رابط بين الداخل والخارج (الوعي والعالم)، وإذا كان هايدغر ينظر إلى الأشياء على أنها وسائل أو أدوات يستخدمها الدزاين (الوجود الآن/ هنا)، فإن ميرلوبونتي ينظر إليها كموجودات معنا في العالم ولا يمكن أن يكتمل معنى الوجود إلا معها.

يعرض بن سباع في آخر فصول الكتاب “آفاق الفينومنولوجيا الجديدة” تطبيقاتٍ لأفكار ميرلوبونتي في معارف متنوّعة، لعل أهمها ما يسمّيه المؤلف “استئناف القول الفلسفي للحداثة” أو “الكوجيطو الجديد”؛ حيث أن طرحه يقدّم إمكانيات للتأويل والتفكيك غير ممكنة استناداً للكوجيطو الديكارتي، وهو ما يبرزه ميرلوبونتي بتساؤله في كتاب له بعنوان “نثر العالم” يقول فيه “لماذا نضع حدوداً بين ما يجري التفكير فيه وما به يتم التفكير؟” جاعلاً من الأنا الشهير في عبارة “أنا أفكر إذن أنا موجود” أنا متجسّداً.

يخرج بن سباع أيضاً بتطبيقات الفينومنولوجيا الجديدة بعيداً عن الفلسفة، اذ يبيّن كيف ساهمت مقولات ميرلوبونتي حول الإدراك في فهم بنية السلوك من خلال تحليله “خبرتنا كما هي”. أما في علم الاجتماع، فيركّز على دعوته للنظر إلى الفلسفة وعلم الاجتماع في تكاملهما وتداخلهما لا في انفصالهما، لأن هذا الانفصال لا يقدّم خدمة إلى أي منهما، بل “إن الفلسفة وعلم الاجتماع سيقضي كل واحد منهما على الآخر”، كما ورد في كتابه “علامات».

يعرّج بنا المؤلف أيضاً على مواقف ميرلوبونتي السياسية ومرتكزاتها الفلسفية، حيث يستفيد صاحب كتاب “تقريظ الحكمة” من مقاربته الفينومينولوجية للحرية، ليقر بأن صيغتها المسوّق لها في الغرب ليست حرية كاملة، لأن الحرية ليست منفصلة عن العالم وإنما متّصلة به، وهي التي تثبت وجودنا الفعلي مع الأشياء والآخرين في العالم. ويلاحظ ميرلوبونتي بأن ثمّة انفصالاً بين السياسة والفلسفة هو نتيجة لسوء فهم للفلسفة، وصولاً إلى قوله بأن “الثورات صادقة كحركات، لكنها باطلة كأنظمة».

تكاد هذه المواقف تجسّد فكرة الاتصال بالعالم المحورية في فينومينولوجيا ميرلوبونتي، وبذلك فهي تتناغم مع تنظيرات الفيلسوف الفرنسي الذي هدف لوضع “فلسفة تنظر إلى العالم على أنه دائماً هنا”، وتدعو إلى العودة إليه وإلى الاتصال به كما قال في كتابه “فينومينولوجيا الإدراك»

عن العربي الجديد