ميرلو بونتي .. البحث عن وجودية كلها أمل

ميرلو بونتي .. البحث عن وجودية كلها أمل

علي حسين

ماذا اعرف عن موريس ميرلو بونتي ؟ حين سمعت باسمه للمرة الاولى عام 1979 كنت في العقد الثاني من عمري ، كان هو قد رحل عن عالمنا قبل ثمانية عشر عاما – توفي 1961 – وبفضل الدكتورة سعاد محمد خضر ، عرفت ان هذا الفيلسوف الذي لم يعش سوى “ 53 “ عاما لم يكن مجهولا مثلما توقعت ، بل أن اسمه لا يزال يوضع بين اسماء كبار فلاسفة القرن العشرين ، وكتبه تحتل واجهات المكتبات ، ومازال المعجبون بافكاره يبحثون عن مؤلفاته ،

لكن رغم كل المقدمة التي قدمتها لي الدكتورة سعاد في ذلك اليوم المشمس من صباح شهر تموز عام 1979 في مقر مجلة الثقافة ، عن ميرلوبونتي وكتابه “ المرئي واللامرئي “ الذي كانت تترجم فصوله آنذاك - سيصدر بعد اعوام عن دار الشؤون الثقافية ضمن سلسلة المائة كتاب - إلا انني كنت اقول لنفسي : وماذا يكون هذا الفيلسوف إلى جانب جان بول سارتر او البير كامو او سيمون دي بوفوار مثلا ؟ واذا كان فيلسوفا وجوديا كما تقول الدكتورة سعاد فلماذا لايعرفه القراء العرب الذين كانوا منشغلين جدا بالفلسفة الوجودية وما جاء بعدها من البنيوية ولا منتمي كولن ويلسون ؟ .

في حزيران من عام 1927 سيلتقي الشاب ميرلو بونتي بالفتاة سيمون دي بوفوار التي كانت آنذاك في التاسعة عشر من عمرها ، وكان هو ايضا قد دخل عامه التاسع عشر قبل ايام ، فهما من مواليد 1908 ، يكبرها ميرلوبونتي بشهرين فقط ، ولد هو في شهر اذار من عام 1908 ، وولدت هي في شهر آيار من نفس العام ..سارتر يكبرهما بثلاثة اعوام – مواليد 1905 – كانت سيمون دي بوفوار تَدرس في السوربون ، وميرلو بونتي طالبا في مدرسة المعلمين العالية ، جاء ترتيبها الثانية في الامتحانات المشتركة في الفلسفة ، بينما جاء ترتيبه الثالث ، في تلك الايام قرر ميرلوبونتي التعرف على سيمون دي بوفوار ، اراد أن يرى تلك الفتاة التي تفوقت عليه فلسفيا . في روايتها “ المثقفون “ – ترجمها الى العربية جورج طرابيشي ، ثم اعادت ترجمتها ماري طوق - “ ستطلق بوفوار في الرواية اسم “ براديل “ على مرلوبونتي حيث تصفه بانه يمتلك :” وجها صافيا جميلاً ، ونظرات مخملية ، وله ضحكة تلميذ ، وذو مزاج لطيف “ ، وستقع في حبه منذ النظرة الاولى وهي تجد الأمر طبيعيا ، فما من احد يشاهد هذا الفتى الوسيم والمرح دون ان يقع في غرامه ، اما اللقاء مع سارتر فقد تم اثناء الدراسة في دار المعلمين العالية ، في المقال الذي كتبه سارتر بعد رحيل ميرلوبونتي يخبرنا :” كنا نعرف بعضنا البعض من غير ان نتعاشر او نتصاحب ، وفي الجيش اصبحت انا عريفا واصبح هو ضابط صف ، وغاب كل منا عن انظار الآخر . لكننا كنا نستعد من غير علم منا ، للتلاقي ، فقد كان كل منا يحاول ان يفهم العالم ما استطاع الى ذلك سبيلا عن طريق الوسائل الموجودة تحت متناوله . وكانت وسائلنا واحدة ، كانت تدعى هوسرل وهايدغر ، لاننا كنا من وسط واحد “ . لم يذكر سارتر ان سيمون دي بوفوار دخلت ذات يوم الى المقهى بصحبة فتى مظهره انيق ، يبدو مزهوا بشخصيته ..في ذلك اليوم سيسمع سارتر هذه الجملة المحيرة من ميرلو بونتي الشاب :” ان قدرتنا على السعادة تتعلق بتوازن معين بين ما أنكرته علينا طفولتنا ، وبين ما سلمت لنا به “ ، سيخبر ميرلو بونتي الاصدقاء الذين تعرف عليهم في المقهى أن الدهشة هي التي اخذته الى الفلسفة ، وسيحدثهم عن غرامه بالفيلسوف بليز باسكال ، يتذكر انه عثر على هذا الفيلسوف عندما كان في الخامسة عشر من عمره حين وقع بيده كتابه “ الخواطر “ ، وستنطبع هذه العبارة التي كتبها باسكال في ذهن ميرلو بونتي :” إن ربحت تربح كل شيء ، وإن خسرت لا تخسر أي شيء ، راهن إذا دون تردد على انه موجود “ . كان باسكال يصف حياة الانسان اليومية بانها تتقلب بين الملل والقلق ، والعبثية قبل كل شيء وهو يكتب :” إن لم تستطع أن ترى كم هو العالم عبث ، عليك إذا أن تكون انت نفسك عبثيا جدا “.

كان بليز باسكال المولود في سنة 1623 لعائلة يعمل معظم ابنائها في سلك القضاء اوالعمل في التجارة ، شغوفا بالرياضيات منذ صغره ، وعندما بلغ الثامنة قرر الاب ان يمنع ابنه الصغير ان يتحدث اي حديث عن الرياضيات ، فمنع عنه معظم الكتب إلا بعد أن يتقن اللغتين اليونانية واللاتينية ، في العاشرة من عمره استطاع باسكال ان يتوصل الى معرفة 32 مسألة من كتاب اقليدس في الهندسة، وفي الثانية عشر من عمره سيخبر والده انه قرأ في الخفاء الكتب الستة الاولى لاقليدس ، ولما بلغ السادسة عشر من عمره وضع كتابا في الهندسة اثار اعجاب رينيه ديكارت الذي كان يكبره بسبعة وعشرين عاما ، في تلك الفترة توجه الى دراسة الفيزياء والمنطق والفلسفة ، وكان والده يعمل محاسبا ويجد في بعض الاوقات مشقة في جمع الارقام وتنظيمها ، فقام الفتى بليز باختراع آلة حاسبة تجري ايه عملية حسابية . وسيتعرض باسكال الى تجربة مثيرة في العشرين من عمره حيث تعرض الى كسر في الساق ، فتولى علاجه طبيب كان يعتنق مذهب جانسيينيوس ، وهو مذهب يقترب من الصوفية المسيحية ، في شبابه يسعى باسكال الى وضع الاسلوب الاختباري من اجل اصلاح طريقة ديكارت النظرية ، فديكارت يعتقد ان التفكير المنظم يقود الى المعرفة المثلى وان العلم الرياضي هو مفتاح العالم . اما باسكال فيرى ان الحقيقة تتعدى شتى الجوانب عقلنا القاصر وانه يتحتم علينا ان نتوجه دوما الى الطبيعة ونستنطقها ، فنعيش تجربة الاختبار . وهكذا فان باسكال بعد ان يرفض اخضاع التفكير الى السلطة الدينية ، وبعد ان يسخر من نفوذ القدماء وسلطتهم ، نراه يقف امام حوادث الكون المختلفة يناقشها استنادا الى اسرار الطبيعة وقوانينها . وبهذا يعارض ارسطو وتلامذته ويخالف ديكارت الذي يريد ان يقيم فلسفته على مجرد التفكير ، وبرغم ان باسكال كان متدينا إلا انه اثار الكثير من المناقشات التي ازعجت الكنيسة حيث طالب بان يشارك عامة الناس بمناقشة المسائل الدينية حتى الصعبة منها مؤمنا ان العقل الانساني يستطيع بحث معظم المشاكل الدينية ، وبهذا كانت افكاره تمهد لظهور فلسفة فولتير ..توفي باسكال وهو في التاسعة والثلاثين من عمره ، وقد اصيب بمرض سرطان المعدة ، ويقال انه عندما مات وجدت بعض صفحات من خواطره مخيطة داخل بطانة معطفه . في مقدمة الترجمة الانكليزية لكتاب الخواطر يكتب الشاعر ت.س .اليوت :” معظم البشر كسالى ولا مبالون وعبثيون ولديهم عواطف فاترة . وهم بالتالي عاجزون عن الشك والايمان “ . يكتب باسكال :” يجب ان نعرف انفسنا ، وإذا لم يفدنا ذلك في معرفة الحقيقية ، فهو على الاقل يساعدنا على تنظيم حياتنا ، وليس ما هو اكثر صوابا من هذا . ما السبب في ان الاعرج لا يزعجنا ، فيما العقل الاعرج يثير حفيظتنا . السبب هو ان الاعرج يعترف باننا نسير في استقامة ، اماالعقل الاعرج فإنه يقول بأننا نحن الذين نعرج « .

يقول سارتر ان ميرلوبونتي عاش خلال حياته القصيرة ، مثل باسكال :” يبحث عن فردوسه المفقود ، كان يريد أن يفهم نفسه ، فهو يؤمن بان وجود الانسان لايتم إلا بالتوافق مع العالم وتفهمه :” المراقبة والفهم الدقيق للطريقة التي يشتغل بها هذا التوافق « .

ولد موريس جان جاك ميرلو بونتي في الرابع عشر من اذار عام 1908 ومثل سارتر وكامو ، يموت والده الضابط في فيلق الشرف وهو في الخامسة من عمره ، وستتولى امه تربيته ، يتعلق بها ويغار عليها مثلما كان سارتر الطفل يفعل مع امه التي كانت تسميه “ زوجي الصغير “ ، كانت والدة ميرلو بونتي من عائلة غنية ، عاش طفولة سعيدة ، لكنها خجولة ، كان يتجنب الاسئلة التي تتعلق بحياته الجنسية ، فقد كان كتوما ، حتى قصة اعجاب سيمون دي بوفوار به اعتبرها مجرد مزحة :” فلا يمكن ان يلتقيا عقلين فلسفيين في فراش واحد “ ، لكن هذا التحفظ والكتمان لم يمنع ميرلو بونتي من الارتبط ببعض الفتيات ، على الرغم من حرصه على ان يعيش حالة زوجية مستقرة ، فمن بين مغامراته كانت علاقته بسونيا براونيل ، لكن العلاقة لم تستمر طويلا ، اذ سرعان ما احبت سونيا رجلا يعاني من المرض لتتزوجه عام 1949 ، وكان هذا الرجل اسمه جورج أورويل .

انهى دراسته الثانوية متفوقا ، ليلتحق بمدرسة المعلمين العالية والتي تخرج منها عام 1930 ، يتم تعينه مدرسا للفلسفة في بعض المدارس الثانوية ، يلتحق بالجيش عام 1939 ، وللفترة من 1940 الى 1944 ينضم الى صفوف المقاومة الفرنسية الى جانب كامو وسارتر وساهم بتحرير مطبوعات المقاومة ، ما ان تنهي الحرب العالمية الثانية حتى يتقدم لنيل شهادة الدكتوراة تحت اشراف استاذه اميل برهييه ، وكانت اطروحته بعنوان “ ظاهراتية الادراك الحسي “ والتي نشرت في كتاب عام 1947 – ترجمه الى العربية فؤاد شاهين بعنوان ظواهرية الادراك - ، في هذا الكتاب سيمزج بين الفلسفة وعلم النفس ، حيث يصف لنا العناصر الاولى في الادراك : الاحاسيس ، البصر ، السمع وغيرها ، وصفا جديدا ، فهو يؤكد اننا حين ندرك ، انما نضفي المعاني على الاشياء ، وكل معنى يضطرب بين اللامعنى والمطلق ، وكان بهذا الكتاب متاثر جدا بفلسفة ادموند هوسرل “ الظاهراتية “ الذي حدد فيها الفيلسوف الالماني الشهير ان كل تفكير ينبغي ان يبدأ بالعودة الى وصف العالم الذي نعيش فيه ، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتبين وحدة اجسادنا التي نعيش بها دون ان نتبين وحدة الاشياء، وتتضح لنا حقيقة حواسنا في اللمس والنظر ابتداء من الاشياء، ويطلق هوسرل نداء فلسفيا :” لا تضيعوا الوقت في التساؤل عما اذا كانت هذه الاشياء حقيقية اذهبوا الى الاشياء نفسها « .

ويضرب موريس ميرلوبونتي مثلاً لذلك من أعمال الرسام الفرنسي بول سيزان ، فقد كان يبدو من لوحات سيزان في شبابه انه يسعى لتصوير التعبيراولاً . كانت اللوحات التي رسمها في بدء حياته الفنية نوعاً من التسجيل للتعبيرات مباشرة متخطياً الأشياء ذاتها . ولذلك فشل دائماً في محاولة التقاط هذه التعبيرات، وتعلم سيزان من هذه التجارب شيئاً فشيئاً ان التعبير هو لغة الشيء نفسه وانه يولد مع رسومه ومعالمه، لذلك اصبح التصوير عند سيزان محاولة مستمرة لبلوغ علامات الاشياء والوجوه عن طريق الاحياء المتكامل لرسومها ومعالمها الحسية، وهذا هو ما تؤديه الطبيعة ذاتها في كل لحظة، ولهذا يصح ان يقال ان المناظر التي صورها سيزان انما تنتمي إلى عالم سابق على هذا العالم حيث لم تظهر الناس بعد.

وهايدغر حاول ان يحدد المعنى الاشتقاقي لكلمة الظاهراتية فاشار إلى ان الظاهراتية تعني البحث عن معنى ما يظهر .

والمثير ان معظم فلاسفة الوجودية المعاصرين حاولوا التقرب من فلسفة هوسرل ، حتى ان سيمون دي بوفوار تكتب عام 1931 انها عجزت هي وسارتر آنذاك عن معرفة الفائدة الفلسفية لكلمة فينومينولوجيا – علم الظواهر . لكن سارتر سيلتهم فيما بعد مجلدا صغيرا لهوسرل ، ثم يقرر السفر الى برلين حيث يتعرف على الظاهراتية عن قرب ، وسيعود بعد عام وهو يحمل زادا جديدا ، ظاهراتية هوسرل مخلوط معها افكار فيلسوف دنماركي اسمه سورين كيركغارد ، مع احساس جديد بالعدم ، ليخرج لنا بفلسفة جديدة ستسمى وجودية سارتر .

بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ، انضم ميرلو بونتي إلى سارتر ومجموعة من الكتاب لتأسيس مجلة فكرية وفلسفية اطلق عليها اسم “ الأزمنة الحديثة “ وهو الاسم الذي اقتبسه سارتر من فيلم شارلي شابلن الشهيرالذي كان سارتر وبوفوار يستمتعان بمشاهدته ، وقد كتب سارتر افتتاحية العدد الاول الصادر في ايلول عام 1945 شرح فيها هدف المجلة :” باختصار، نيتنا هي العمل على إحراز تغييرات معينة في المجتمع المحيط بنا “ ، ورغم ان سارتر كان يكتب معظم الافتتاحيات إلا ان ميرلو بونتي كان الاكثر نشاطا إذ كتب العديد من المقالات البعض منها من دون اسم .

ذات يوم من عام 1945 يلقي سارتر محاضرة بعنوان “ الوجودية نزعة انسانية “ ، سرعان ما اصبحت اشبه ببيان تأسيسي للوجودية الفرنسية ، كانت محاضرة سارتر حدثا ثقافيا حيث خرجت الصحف صبيحة اليوم التالي بقصص عن هذه الفلسفة الجديدة التي اعلن من خلالها سارتر الوجودية تضع الانسان في مركز اهتماماتها .

في يوم 15 كانون الثاني عام 1953 ، حضر جان بول سارتر محاضره لصديقه ميرلوبونتي كان يلقيها في الكوليج دي فرانس ، كانت هذه اول محاضرة له بعد وظيفته الجديدة مدرس للفلسفة ، في تلك المحاضرة اشار ميرلوبونتي الى ما يجري في العالم من احداث وطالب بان يبقى الفلاسفة يقظين .. عندما انتهت المحاضرة لم يقدم سارتر التهنئة لصديقة فقط قال له عبارة واحدة “ كانت المحاضرة ظريفة “ عاش سارتر ضد العمل في المؤسسات الرسمية ووجد في قبول ميرلوبونتي للمنصب الاستعداد لان يكون مدجنا داخل المؤسسة الحكومية . رفض سارتر من قبل التدريس في الكوليج دي فرانس .سينشر ميرلو بونتي محاضرته تحت عنوان “ الصراع من أجل الوجودية “ صاغ فيه اشبه بالرد على محاضرة سارتر “ الوجودية فلسفة انسانية “ فالوجودية بالنسبة لميرلو بونتي تحاول أن تبرهن أن الإنسان أكثر من مجموع القوى الاجتماعية والنفسية والجسدية. وميزتها بالتحديد أنها تحاول، من منطلق وجودي، أن تجد أسلوبًا للتفكير في وضعنا. أو بالمعنى أدفق ، فإن “الوجود” هو تلك الحركة التي عن طريقها يوجد الإنسان في العالم ويدمج نفسه في موقف اجتماعي وجسدي يتحول بعد ذلك إلى وجهة نظره عن العالم.

بعد اشهر ستندلع اول مواجهة بين الصديقين ، فقد نشرت الازمنة الحديثة مقالا مؤيدا للسوفيت ، وقد اصر ميرلوبونتي ان يكتب هامش تؤكد فيه المجلة أن الاراء الواردة في المقال لا تعبر عن راي هيئة التحرير ، إلا أن سارتر رفض الهامش وحذفه من المقال ، وتتذكر سيمون دي بوفوار ان ميرلو بونتي قال بحدة “ اذن هذه هي النهاية “.انزعج سارتر من موقف صديقه وصرح ان تاريخ ميرلو بونتي الفلسفي والشخصي يكمن في الازمنة الحديثة ، ولا وجود له خارجها .

عام 1953 يصدر كتابه “ تقريظ الفلسفة “ - ترجم الى العربية باكثر من ترجمة واحدة منها بعنوان تقريظ الحكمة – وفيه يتساءل ميرلوبونتي : ما هي مهمة الفلسفة ،إذا كانت قد بقيت لها مهمة ؟ فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يتميز بسيطرة العلوم الطبيعية ، وامتداد مناهج البحث العلمي إلى العلوم الانسانية ايضا ، وهذا ما يسلب الفلسفة اهميتها في نتاول ومناقشة المشكلات ، وينتزع منها الدور الرئيسي الذي كانت تؤديه في الفكر البشري ، فهل انتهت الفلسفة ؟ يجيب ميرلو بونتي بالنفي ، فالفلسفة اصبحت في كل مكان ، حتى امتدت الى اعمالنا اليومية ، ومن الخطا القول بانها اصبحت معزولة عن الحياة ، لانها في الواقع تعيش في حياتنا . صحيح ان العلم اصبح المجال المهيمن ، ولكن الحياة نفسها ، الحياة المباشرة ، اصبحت فلسفية .ويحلل ميرلو بونتي وضع العالم الممزق بين عدة اتجاهات ومظاهر ، ليؤكد ان في هذا العالم بالذات تبرز اهمية الفلسفة في سعيها الى ان تعيد الوحدة الى هذا التشتت ـ وان ترمم كل صدع في الوجود ، يمكن ان ينشا عن هذا الضياع :” ان رسالة الفلسفة أن تضع معنى للعالم ، ولا نعني بذلك أن نكتشف هذا المعنى او نتخيله في مذهب معين ، على غرار التجارب الفلسفية السابقة ، بل أن نبدع معنىً جديداً ، يكون الوحدة الجديدة للعالم “ ويشرح ميرلو بونتي معنى الفلسفة بالنسبة إلى الانسان المعاصر فيكتب :” ليست مهمة الفلسفة ان تحلل لنا المشاكل او تفسرها ، او ان تبني العالم على اساس فكري معين ، بل ان وظيفتها الاساسية ، هي ان تعمق اندماجنا في الوجود ، وبذلك يتسع وعينا للكون ويصبح اكثر شموليا « .

سيشعر ميرلو بونتي باليتم للمرة الاولى وهو في الخامسة والاربعين من عمرة عندما ماتت والدته عام 1953 وسيتذكر خواطر باسكال :” ان العيش في هذه الدنيا هو مسلك يؤدي الى سفر ابدي وانها لا تملك من الوقت للتأهب له من غير زمن وجيز مدة عيشها في هذا الوجود « .

العام 1955 سيكون عام الصدام الكبير مع سارتر ، حيث نشر ميرلو بونتي كتابة “ مغامرات الجدل “ والذي خصص فيه فصلا طويلا عن صديقه بعنوان “ سارتر والبلشفية المتطرفة “ تناول فيه كتابات سارتر السياسية ودفاعه عن الاتحاد السوفيتي ، وقد كان موقف ميرلوبونتي مطابقا لموقف البير كامو الذي كان قد اعلن القطيعة مع سارتر ، قبل هذا التاريخ كان ميرلوبنتي مؤيدا للسوفييت ، وفي كتابه الفلسفة الانسانية والارهاب الذي صدر عام 1947 دافع عن ضرورة العنف لبناء دولة شيوعية والحفاظ عليها ضد أعداء يحدِقون بها ومصممون على تدميرها. المثير في الامر أن سارتر لم يرد وانما ردت سيمون دي بوفوار بمقال حمل عنوان “ ميرلوبونتي والسارترية الزائفة” . لكن سارتر سيكتب بعد رحيل ميرلو بونتي :” كان يعتقد انه ظل صادقا مع نفسه وانني خنته « .

عاش ميرلوبونتي حياة فيلسوف وجودي ، لكنه فيلسوف عنيد ، ملتزم باليسار ، مدافعا عن قضايا السلام العالمي ، وعن حقوق العمال ، اضافة الى ادانته للاستعمار بشتى صوره والوانه ، ولهذا تبدو وجودية ميرلو بونتي ، وجودية ملتزمة ، اصرت على تخليص الوجودية من نزعاتها الفردية ، استخدمت الادراك الحسي كوسيلة يتعرف من خلالها الانسان على عالمه المعاش ، إلا انها في الوقت نفسه لم تستبعد دور العقل في التحليل والتامل ، كما ان ميرلو بونتي ينفرد عن الفلاسفة الوجوديين باحتلال موضوعة الغير مكانة متميزة لديه . كان سارتر يرى ان العلاقة مع الاخرين هي في كوني اجعل من الآخر موضوعا ، على ان احيل من نفسي ذات ، ويرفض ميرلو بونتي هذه العلاقة التي كان يعتبرها ضيقة الافق ، ويقرر ان العلاقة بيني وبين الآخر هي علاقة مشاركة ، إذ ان الآخر بالنسبة لي ليس مجهولا ، وعندما افسر ذاتي فان هذا لن يتاتى إلا بمقارنة هذه الذات بالاخرين ، ونجده يقول :” تركت وحدي حرا بين الالم والمتعة وليس حرا في ان اجهل الآخرين “ ، ويذهب ميرلو بونتي ابعد من ذلك حين يؤكد ان الحرية لم تكن حريتي او حريتك بقدر ما كانت حريتنا جميعا ، في المقابل نجد فكرة الالتزام عنده هي نوع من التفاعل بين الداخل والخارج ، بين الوعي الذاتي الحر وبين وعي الآخرين ، اذ ان الالتزام من جانبي لن يعني في هذه الحالة الخضوع لاية سلطة كانت بل سيكون بمثابة تنظيم واع لفعلي الحر حتى يصير له معنى ، حيث اني في ممارستي لهذه الحرية ساجد ما ينبع من داخلي وعي وليس هناك شيئا ما يمكنه ان يثقل على فعلي او يخضع له ، ومن هننا تبدو فلسفة ميرلوبونتي فلسفة وجودية ملتزمة ، فلسفة تأمل للمعنى والدلالات ، اراد من خلالها تخليص الفلسفة الوجودية من نزعتها الفردية المتطرفة وتتيح للانسان ان يفتح قلبه وعقله على العالم والغير :” على الفيلسوف ان ياخذ على عاتقه قول كل شيء ملتمسا في حديثه الوضوح والصراحة ، وليس من شأن الفيلسوف ان يخدع الناس ، فان الروح الفلسفية هي اعدى اعداء الكذب والخداع « .

كان كتاب “ المرئي واللامرئي “ هو المشروع الفلسفي الاكبر بالنسبة لميرلو بونتي ، إلا ان الكتاب لم ينشر خلال حياته ، وقد جمعه تلميذه “ كلود لوفور “ عام 1964 بعد ثلاث سنوات على رحيله ، والكتاب كان سلسلة محاضرات مثله مثل معظم كتب ميرلو بونتي الذي ظل طوال حياته يعتبر الفلسفة خطب اكثر منها كتابات ، ولهذا كان شأنه شأن سقراط يثير الاسئلة ، والكتاب مجموعة من الدروس القيت بين اعوام 1956 -1960 جعلت من علاقة الانسان بالطبيعة محورا لها ، ويحاول ميرلو بونتي من خلال كتابه هذا ان يطرح الجدل الذي دفع الغرب الى التساؤول حول القطيعة الاساسية بين الانسان والطبيعة ، لقد حاول ميرلو بونتي في “ المرئي واللامرئي “ ان يطرح جميع التساؤلات عن الانسان والعدم والفكر والوجود واللغة والحياة والموت .

..وفي سنواته الاخرة عاش ميرلوبونتي نصف ميت كما قال لسيمون دي بوفوار وهي تشاهده بعد وفاة والدته التي كانت مصدر حياته السعيدة .. أصدر عددا قليلا من الكتب منها دراسة بعنوان “ العين والعقل ،” وقد اعيد نشرها بالعدد الخاص الذي اصدرته الازمنة الحديثة لتكريمه بعد وفاته ، وستنشر فيما بعد في كتاب – ترجمه الى العربية حبيب الشاروني ــ .

يكتب بول ريكور الذي كان أحد طلبة ميرلو بونتي في وصف استاذه :” عام 1935 اعطى اول دروسه في الكوليج دي فرانس ، وقد كان هاديء نسبيا ، لكن تفكيره ظل يشغلنا باستمرار حتى بعد رحيله المبكر لا يزال الاهتمام به متجددا «..