د. عماد عبد السلام رؤوف: من هو المؤرخ ؟

د. عماد عبد السلام رؤوف: من هو المؤرخ ؟

كان الاستاذ الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف

قد القى في ربيع عام 2018 محاضرة في ندوة

مكتبة ( تفسير) في اربيل بعنوان ( من هو المؤرخ ؟) ، نستل منها الفقرات التالية لاهميتها الفكرية الفائقة

– بذل المؤرخون وفلاسفة التاريخ، منذ أن عرف الإنسان كتابة التاريخ، جهودًا جمة في مجال تعريف (التاريخ) وتوضيح حدوده، وتعيين هويته ووظيفته، ومع ذلك فإن جهدًا مماثلًا لم يبذل في تعريف (المؤرخ) نفسه، وهو الكاتب للتاريخ، من هو؟ ما صفاته؟ ما تميزه؟ ما هي الاستعدادات الواجب توفرها فيه قبل أن يكون مؤرخًا؟ مع أن التاريخ، بوصفه علمًا، هو نتاج عمل المؤرخ، وثمرة جهده، ومما زاد هذه الإشكالية إشكالًا أن مصطلح (المؤرخ) – أي: رجل التاريخ – ينصرف إلى معنيين لا معنى واحد، أولهما: أنه من يقوم بتسجيل الحدث ساعة وقوعه، والثاني: من يكتب التاريخ مستندًا إلى شهادات أولئك (المسجلين)، ولا يتسع تعريف المؤرخ للمعنيين معًا؛ فالمؤرخ بمعنى (المسجل للتاريخ) هو شاهد عيان، لا أقل ولا أكثر، يكتب شهادته عما رآه أو سمع به ويمضي، والمؤرخ بالمعنى الآخر هو باحث في شهادات غيره، لا يحق له أن تكون له شهادته بين الشهود؛ فهو قاضٍ يقضي مستندًا إلى ما بين يديه من شهادات، ولا يحق له أن يترك منصته فيفقد حيدته حين يدلي بشهادته مثل سائر الشهود، ولو فعل لما أصبح قاضيًا أصلًا، أو بمعنى آخر: لا يصبح مؤرخًا بذلك المعنى الذي ذكرنا.

– إن اتساع مصطلح المؤرخ ليشمل نوعين من المؤرخين يختلف دور كل منهما عن الآخر، من شأنه أن يخلط بين الدورين خلطًا عجيبًا، من ذلك أن جميع من كتب عن علم التاريخ حدد مواصفات المؤرخ (الشاهد) على نحو لا يمكن أن ينطبق إلا على المؤرخ (الباحث) دون غيره؛ فهم يطلبون منه أن يكون محايدًا حيدة مطلقة تجاه الحدث الذي جرى تسجيله، نزيهًا عن الغرض، سليمًا في حواسه وفي ميوله، ودقيقًا في وصفه، متحليًا بخُلق عالٍ قد لا يوجد إلا في الأنبياء والندرة النادرة من أهل التقى والصلاح، وهذه الأوصاف لا يمكن أن تنطبق على الشاهد، ولا ينبغي أن تنطبق عليه؛ لأنهم يتناسَوْن أنه قبل أن يكون شاهدًا هو مجرد إنسان انفعل بحدث يعنيه فسجله، ولو لم ينفعل به لما سجله أصلًا، والانفعال يعني – ضمنًا – التحيز لطرف أو لأطراف فاعلة للحدث، وأن يتأثر بها وبموقفها، بل أن يكون مشاركًا في صنع الحدث نفسه؛ فالتاريخ علم الإنسان، أو علم ماضي الإنسان، وكل منهما نتاج لانعكاس صورة الآخر عليه، فلا يمكن أن يكون الشاهد قاضيًا محايدًا بأية حال، وإلا يكون خارج إطار إنسانيته، وهو محال.

– أما المؤرخ الباحث في التاريخ، فهو قاضٍ يقف خارج الحدث بمسافة زمنية تقيه من مغبة التحيز إلى أيٍّ من أطراف الحدث، وهو كالقاضي عليه أن يترجل عن منصة القضاء إن وجد نفسه، أو وجده الناس، متحيزًا غير منزهٍ في متابعة القضية المطروحة أمامه، وعلى خلاف ما أبيح للشاهد، فإن القاضي، أو الباحث هنا، باحث عن الحقيقة؛ فهو الذي عليه أن يطالب بالحيدة والنزاهة والصدق.. إلى غير ذلك من صفات القضاة الحميدة، إنه يستقصي شهادات الشهود، أصحاب الروايات المعروضة أمامه، يقارن بينها، ويتأمل جزئياتها ببرودة أعصاب، ليتوصل إلى الحقيقة، فلا يختلف عمله هنا عن عمل القاضي إلا بفارق واحد، وهو أنه يتعامل مع شهادات مات أصحابها، فلم يعد ممكنًا مراجعتهم فيما شهدوا به، ولكنه مع ذلك قادر على أن يتفحصها، ويتعرف على ما هو صحيح أو أقرب إلى الصحة منها، أو نبذها أحيانًا، إن اتبع في ذلك قواعد علم التاريخ، أو ما سُمِّي منهج البحث التاريخي، وهو مثل القاضي، يستطيع أن يفتح ملف أي قضية تاريخية، إذا توفَّر له من الوثائق والمصادر الجديدة ما من شأنه أن يغير نتائج الأحكام، أو القناعات السابقة.

– الباحث في التاريخ، بعد رحيل الشهود، هو ما نحتاج إلى التعرف على هويته، وخصائصه، وملكاته الموهوبة، أو استعداداته الفطرية؛ لأنه هو الذي يقرر الأحكام، وحين يقال: إن فلانًا أو فلانًا هو في ذمة التاريخ، فالمقصود أنه في ذمة القضية التي ينظرها المؤرخون بعد حين لا نعرفه، فيستنطقون الشهادات، ويقارنون بينها، ويستعينون بقواعد العلم؛ علَّهم أن يصلوا إلى ما يقرب من حقيقة ما حدث فعلًا، ومن المؤكد أن رجلًا يتولى هذه المهمة لا بد أن تجتمع فيه من الخصائص والمواهب والاستعدادات ما يستحق البحث، وهو ما نعتقد أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من الجهد، يساوي الجهد الذي بذل في درس التاريخ نفسه.

– من هو هذا المؤرخ إذًا؟ إنه في نظرنا ليس رجلًا درس التاريخ، أو حتى قضى عمره في دراسته، وكفى، إنما هو رجل ملك من الاستعدادات النفسية ما جعله مؤهلًا للكشف عن خفاياه، وتقرير أحكامه، إن المؤرخ هنا (تكوين خاص) لا يشبهه فيه أحد من أولي الاختصاصات الأخرى، وإن هذا التكوين في أساسه فطري، موجود فيه قبل أن يتجه إلى درس التاريخ على أي مستوى من مستويات الدرس، وأتذكر أن أحدهم سأل أستاذه: ماذا أفعل لأكون مؤرخًا؟ فقال له ذلك الأستاذ: عليك بقراءة كذا وكذا من كتب المؤرخين، مع أننا نعلم أن السائل لو فعل ذلك، وقرأ كل كتب المؤرخين السالفين، ما صنع ذلك منه مؤرخًا بأي حال، وكان الأولى بالأستاذ أن يسأله قبل كل شيء: وهل تملك استعدادًا فطريًّا لكي تكون مؤرخًا؟ هذا حتى يجنبه تضييع وقته وتبديد جهده في قراءة الأسفار المطولة دون جدوى.

محاضرة نشرها في مدونته الشخصية على الفيسبوك