علي الوردي ودراسته الأبتدائية والمتوسطة بين الكاظمية والكرخ..ماهي الفترة البشعة من حياته ؟!

علي الوردي ودراسته الأبتدائية والمتوسطة بين الكاظمية والكرخ..ماهي الفترة البشعة من حياته ؟!

علي طاهر تركي

بدأت رحلته الشاقة في مضمار الدرس والتعلم مع نهاية الحرب العالمية الاولى ، وهو ابن خمس سنوات ، معتمراً عمامة خضراء دلالة نسبه الشريف الى البيت العلوي ، حيث درس مبادئ القراءة والكتابة وشيء من الحساب ، الى جانب حفظه للقرآن الكريم ، في احدى (كتاتيب) الكاظمية في مسجد قرب دار أبيه .

استكمل بعد ذلك دراسته في احدى مدارس الكاظمية ، على الرغم من نظرة الريبة والازدراء من المجتمع المتخلف ازاء المدارس الحديثة أو كما اطلقوا عليها يومئذ بـ»المكتب” ، وهي نظرة من مخلفات العهد العثماني ، تركت اثرها الفاعل في عزوف العديد من ابناء المدن عن ارسال اولادهم الى المدارس .

لم يستكمل علي الوردي دراسته في المرحلة الابتدائية ، اذ اخرج من المدرسة في عام 1927 وهو في الصف الاخير من دراسته ، وزج به في دكان احد أقربائه ، ليتعلم عنده، وعلى حد تعبيره ، (فن العطارة) من بيع وشراء ، لقاء أجر شهري قوامه خمس ربيات فقط، بيد ان هذا التغيير المفاجئ والطارئ في مساره التعليمي لم يرقه ولم ينسجم معه ، اذ وجد نفسه غريباً في وسط (العطارة) ، وما يتعلق بها من معاملات التسوق وتعاملات زبائنه.

فلا غرو اذ نجده مقتنصاً كل فرصة سانحة لولوج عالمه الخاص ، حيث المطالعة وقراءة الكتب داخل دكان العطار ، وهو أمر قوبل بالرفض والاستهجان من رب العمل ، مشدداً على ضرورة الاهتمام بأصول المهنة من إغراء وجلب للزبائن ، محذراً إياه في الوقت نفسه من مغبة التقاعس عن العمل ، والتوجه ، وعلى حد تعبيره ، نحو “قراءة لا تغني ولا تسمن»، متوعداً أياه بالطرد من العمل إذا استمر في نهجه هذا .

ضاق ذرعاً به صاحب الدكان ، فقرر الاستغناء عن خدماته ، فتنفس الوردي الصعداء لحرية طال انتظارها لسنوات خمس . ناءت بأوزارها عليه الى حد وصفها بـ”أبشع فترة» في حياته ، بل و»مرارة لا حد لها» ، لاسيما انها وقعت وهو في خضم سني المراهقة وريعان الشباب ، مما زاد من معاناته وتأثره في هذه المرحلة الحرجة من عمره معاناة اضافية اثرت في تكوينه الشخصي تأثيراً كبيراً ، اكده وبصورة لا لبس فيها في احدى لقاءاته الصحفية اذ جاء فيها ما نصه :

« لقد أمضيت في مهنة العطارة نحو خمس سنوات ، وكانت تلك أبشع فترة في حياتي … وكنت في تلك الفترة اجتاز مرحلة المراهقة والبلوغ ، وهي مرحلة ذات أهمية بالغة في نمو شخصية الانسان ، ولعلني لا أغالي اذا قلت بأن شخصيتي نمت على أساس من المرارة لا حد لها “ .

استمر على هذا المنوال بين القراءة والكتابة ، حتى جاءت انعطافه تاريخية مهمة في حياته وذلك خريف عام 1931 ، تلك الانعطافة المتمثلة في عودته الى مقاعد الدراسة مرة اخرى ، عندما علم يوماً بافتتاح مدرسة ابتدائية مسائية في الكاظمية ، عندها قرر التسجيل فيها والانضمام الى فصولها الدراسية وملؤه حماسة وشغف بحب العلم ، ترجمه الى تفوق في الدراسة ، اهله الى استكمال دراسته الاولية في مرحلة المتوسطة ، فانتقل للدراسة في “متوسطة الكرخ»، تاركاً دكانه ومهنة العطارة دونما رجعة ، مستثمراً أرباحه فيها في الانفاق على دراسته التي عدها تطوراً «ذا أهمية كبيرة» في حياته.

شكلت مرحلة دراسته في المتوسطة والانتقال الى الكرخ ، تغييراً كبيراً اثر في تكوينه الشخصي ، ليس أقله الانتقال من زي (الملائية) الى البنطال والسترة والسدارة زي (الافندية)، انتقال حمل في طياته معنى ومعنى ، فهو ليس تغيير ملابس فحسب كما عدها الوردي نفسه ، بل تغيير رؤى وافكار ، كانت تصطدم مع واقع متخلف ، تمسك وسط حيوي من ناسه بكل ما هو قديم تقليدي رافض لكل مظهر من مظاهر التغيير والتجديد.

فلا مراء اذ نجد الوردي في ذهابه وايابه الى المدرسة ، قد سلك مساراً عبر الازقة والطرقات الضيقة في الكاظمية ، تجنباً لما كانت ترمقه بعض اعين العامة من نظرات امتعاض واستهجان لارتدائه زي الافندية غير المقبول في وسطها ، بل ان البعض عدّ ارتداءه بيع (الدين بالدنيا) ، ومفسدة للسلوك القويم وابتعاداً عن الاخلاق الحميدة.

لم تهن همته او تلن عريكته على الرغم من المعوقات والمعاناة الملاحقة لمسيرته الدراسية ، أذ كانت تزيده اصراراً وعزماً ، و لم يقنع طول سني دراسته في المرحلة المتوسطة دون الحصول على المرتبة الاولى بين اقرانه من التلاميذ ، متوجاً هذا التفوق بإحرازه المرتبة الأولى على عموم العراق في الامتحانات العامة (البكلوريا) صيف عام 1935 ، فكانت النتيجة مدعاة فخر وابتهاج استاذه المدرس ، وهو ما اثر في دفع مدير المدرسة الى تقديم توصية الى وزارة المعارف (التربية) ، لمنح الطالب المتفوق اعانة مالية شهرية تعينه على استكمال دراسته في المرحلة الاعدادية ، فوافقت الوزارة على منحه ديناراً ونصف شهرياً ، وهو امر لم يستمر طويلاً، اذ سرعان ما انقطعت عنه المنحة ، وحولت الى طالب اخر بسبب المحسوبية والمنسوبية ، التي طالما عانت منها البلاد والعباد معاناة كبيرة ، فترك ذلك اثراً عميقاً في نفسه لازمه الى أواخر حياته.

عن رسالة (علي الوردي و جهوده الفكرية وآراؤه )