الشاعر هيرشمان.. الانتصار للبؤساء

الشاعر هيرشمان.. الانتصار للبؤساء

أنطوان جوكي

في عام ٢٠٠٦ نال الشاعر الأميركي الكبير جاك هيرشمان (المولود عام ١٩٣٣) “جائزة مدينة سان فرانسيسكو للشعر” المرموقة. لكن قبل هذا التاريخ، مَن في الولايات المتحدة كان يصغي إلى هذا العملاق الذي تجرّأ على البقاء كما هو - منذ نحو نصف قرن - شاعرا ثوريا متزهّدا ومثيرا للفتن؟

يبرز هذا التساؤل بمناسبة صدور ديوان جديد للشاعر، علما أن العالم الأدبي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي برمّته تظاهر بالصمم أمام هذا الشاعر، باستثناء أولئك المنفتحين على وضع البؤساء في عالمنا والحالمين بحظ أكبر من الإنسانية للجنس البشري.

الجميع اجتمع على نعته بـ”الجنون” واحتقر نشاطه التحريضي الذي يعود إلى زمن آخر وأدار ظهره لصراخه “المزعج” من أجل العدالة وتجاهل نمط حياته المتقشفة والتزاماته النبيلة ومحبته الصادقة للفقراء وخصوصا موهبته الشعرية الفريدة. والسبب، هامشيته القصوى وحضوره القوي وجانبه الشعبي العاطفي وظهوره بوصفه أحد مخلّفات جيل “بيت» (Beat) الذي مضى.

منذ أكثر من نصف قرن إذا، تردّد صوت هيرشمان العالي داخل صحراء قاحلة لأنه تقيّأ، كل يوم أكثر فأكثر، فلسفة وطنه “الاستعبادية”. وقد يقال إن هيرشمان ليس الشخص الوحيد الذي فضح تسلّط الإدارة الأميركية على المستويين الداخلي والخارجي. هذا صحيح، لكن هيرشمان نشط من موقعه بوصفه شاعرا فقط، إذ لم يكن يوماً أستاذ ألسنية أو أدب أو فلسفة ولا باحثاً ولا حتى صحفيا.

وبالتالي، عانت معارضته الطويلة والعميقة لسياسات بلاده من معضلتين: انبثاقها من شاعر معزول تصوّر الشعر تدريجيا كأقوى طاقة في العالم، أقوى من عالم المال والأعراف والحروب، وكآخر احتياط أكسجين للجنس البشري، وتنفُّس هذه المعارضة هواء الشعب بعلمٍ كبير ومعانقتها المتعمَّدة لفضاء أكثر الناس عرياً وحاجةً بين الفقراء، وبالتالي جانبها السياسي و”الطوباوي” والثوري “غير المقبول” أميركيا، تماماً مثل حياة الشاعر.

الديوان الجديد

ديوان هيرشمان الأخير الذي صدر حديثا باللغتين الإنجليزية والفرنسية عن “دار الشعر في مقاطعة رون ألب” (فرنسا) تحت عنوان “كل ما تبقّى” يتألف من خمس وعشرين قصيدة طويلة، سبعٌ منها كتبها قبل نيله الجائزة المذكورة عام ٢٠٠٦، والقصائد الأخرى كتبها بعد هذا التاريخ ومدّها بالنبرة الثورية ذاتها مسجّلاً في معظمها مقاربات شعرية جديدة ومثيرة مع وجوه معارضة نشطت في ميادين أدبية وفنية مختلفة، كالروائية دجونا بارنس التي تأثّرت بصديقها العملاق جايمس جويس، أو المصوّر الفوتوغرافي لحركات المعارضة في أميركا أيرا نوفينسكي، أو الشاعرة والفنانة الناشطة في “حب الآخرين” سوزي بيركيلاند.

وفي هذه القصائد يرفض الشاعر فيها كالمعتاد الأنانية الأميركية والجور واللامبالاة داخل مجتمعٍ “كل رجلٍ فيه مسؤول عن نفسه فقط”، لكنها تنم عن تعمقٍ أكبر في استنباطاته السياسية، كما لو أن سُدودا جديدة تفجّرت وانفتحت أمام فيض وحيه وبصيرته.

ولفهم هذا الديوان، ومعه أحد محرّكات شعر هيرشمان، لا بد من العودة إلى مصدريهما، أي إلى العام ١٩٣٩، وتحديداً إلى ذلك اليوم الذي شعر الشاعر فيه بنورٍ صافٍ يدخله لدى تأمّله طفلا يلعب في الشارع، وكان آنذاك في السادسة من عمره، حادثة رواها فيما بعد في قصيدة بعنوان “أساس” تحدث فيها عن تلك الومضة الحدسية التي جعلته يشعر وهو طفل بأخوة عميقة تجاه البشر.

والأمر لا يتعلق هنا بإحساسٍ رومانسي بل بلقاءٍ حقيقي وغير منتظر مع الآخر تلقّاه هيرشمان كنعمةٍ صوفية أو كبذرةٍ نمت داخله وأنجب بواسطتها، مع شعراء آخرين، ما يُسمى اليوم شعر الشوارع (street poetry) النابع من القلب والحدس.

وإلى هذا النوع من الشعر ينتمي ديوانه الجديد الذي يحمل عنوان قصيدةٍ أساسية له يتنبّأ فيها بعودة النشاط الثوري والأمل السياسي بشرطَين: إدخال الإدراك الحميم للموت إلى حياتنا لموازنة أهدافنا على ضوء قدرنا، والسعي إلى إسقاط صورتنا لفردوسٍ على الأرض ينعم بمبادئ ثلاثة: الأخوّة والعدالة والحرية.

جيل “بيت»

فإلى جانب القصائد التي يحتفل الشاعر فيها بالوجوه الثورية التي سبق ذكرها، نقرأ قصائد رصدها لأصدقاء من جيل “بيت” تأثّر بهم، مثل جاك كيرواك ووالاس بيرمان وكِن واينيو، وقصيدةً مهمة بعنوان “لغز الرفسة” يسدّد فيها دينه لامرأةٍ سوداء عادية تشبه ملايين النساء في بلده، ذكّرته زنجيتها العنيفة برفسةٍ تلقّاها وهو فتى وفتحت أمامه مأساة الإنسان الأسود في بلده، كما نقرأ قصيدة عنيفة بعنوان “فيرجينيا تك” يرفض هيرشمان فيها الوجه الجديد لأميركا كبلد انطوائي ومسلّح بإفراط، يستخدم لغة القوة والعنف في كل شيء ويزرع بذور الموت والحرب أينما حلّ.

ولأن الحب هو موضوعٌ ثابتٌ وجوهري في كتابته وحياته، نقرأ في هذا الديوان أيضاً قصيدة بعنوان “لغز دروب الحب” يصف فيها بشغف وغنائية كبيرتين اتّحاده بزوجته آغي جسداً وروحاً وقدراً.

باختصار، تستحضر قصائد هيرشمان الحديثة والقديمة تلك التي كتبها قبله شعراء مقاومون كبار، مثل جاك بريفير وبول إيلوار ولويس أراغون، لدفاعها عن حقوق جميع المحتاجين، ولكن أيضا لسعيها إلى إعادة ابتكار الحب المجنون والكلّي.

لكن المقارنة مع هؤلاء الشعراء تتوقف عند هذا الحد. فعلى المستوى الشكلي، يكتب هيرشمان كما يتكلم، أي بأسلوبٍ مباشر ولغةٍ بسيطة، تارةً رقيقة وتارةً عنيفة وشهوانية تتخللها عبارات بذيئة وصور فاحشة على طريقة جايمس جويس.

عن موقع الجزيرة نت