بليغ حمدي وحلم فيروز

بليغ حمدي وحلم فيروز

خليفة كيوان

في عام 1964 توجه الملحن الموهوب ذو الثلاثة والثلاثين عاما، بليغ حمدي، في رحلة فنية إلى بيروت، توجه وكأسه يطفح بنجاحات سمع عنها كل الوطن العربي، نجاحات مع قمة الهرم الغنائي أم كلثوم برصيد أربعة ألحان رددها المريدون والعشاق.

من جهة ثانية كانت شمس الرحابنة وفيروز قد أشرقت منذ ثمان سنوات وأخذت أشعتها الدافئة تشق طريقا غير محروثة ومن حولها تتحلق أفئدة أهل الشام بلهفة ونشوة كالذي عثر على حياته في الأغاني.

لقد كان الملحن بليغ حمدي ملحنا موهوبا ولماحا، راقب نجاحات هذه التجربة، ولم يكن يتمنى إلا أن يكون جزءا منها، كما أن المسرح الغنائي قد أبهره، وعند زيارته لبيروت كانت تعرض آنذاك مسرحية بياع الخواتم.

في نهاية هذه الزيارة فشل مشروع التعاون بين فيروز وبليغ قبل أن يبدأ، لكن مما لا شك فيه أنه قد بقي لدى موهوبنا طموحان فنيان معلقان في خيال الملحن العبقري وظل يصدح في خاطره صوت فيروز بما فيه من طاقات تعبيرية كبرى، لقد مثلت السيدة له حلما جميلا لا بد من تحقيقه، وظلت تراوده فكرة خلق مسرح غنائي يعيد أمجاد الشيخ سيد درويش.

تستند تجربة فيروز والرحابنة إلى أقانيم تجعل منها بناءا متينا، ومن هذه الأقانيم الصوت الذي يطل على حدائق الإنشاد الأوبرالي، ومنها الكلمات والألحان التي تجعل من الجبال والسهول وخجل الريفيات مفردات لا تفارق هذه التجربة، إضافة إلى وجود جانب خفي وهو تأثر هذه التجربة بالتراتيل الكنسية الخاشعة التي حفرت في وجدان مبدعي هذه التجربة.

وأما بليغ حمدي فقد احتشدت في وجدانه الإيقاعات الشعبية المصرية وفتن بها حتى أخذ على نفسه عاتق إعادة صياغة هذا التراث وجعله قريبا من ابن المدينة الحديثة، وبالطبع قد فعل.. فانتشر الجمال في جميع أنحاء العالم.

بعد ذلك بست سنوات يستدعي الأستاذ بليغ حمدي إلى مكتبه فتاة لم تكمل ربيعها الثامن عشر اسمها عفاف راضي، مغنية معتمدة في الكونسرفاتوار، فيجد فيها أحلامه التي تركها معلقة في بيروت، فما كان منه إلا أن بدأ بالعمل، فأخذ يبدع (ردو السلام) هذا اللحن الذي (كسر الدنيا). ويبدأ معها مغامرة عمادها الإيمان بهذا الصوت الذي لا يجد له سببا، ولا يكاد أحد في مصر يوافقه عليه، لكنه أراد أن يصنع من عفاف راضي فيروزا بنكهة مصرية بملامح يخلقها بليغ في أذهان المستمعين.

إن تجربة بليغ تنحدر من تقاليد أغنية عريقة تستمد من الطرب والارتجال على المسرح أكبر وهج يستدفئ به السميعة، بينما تجربة فيروز تنحدر من تقاليد صنعها الرحابنة تستمد من التأمل والانضباط بالمساحات التعبيرية الموضوعة أكبر دليل لتعطش الجمهور للحظات الصفاء وإعمال الهدوء في حياتهم الحاشدة بالصخب.

في أواخر السبعينيات انفصلت فيروز عن الرحابنة باحثة عن فضاء مختلف وأصبحت طائرا محلقا يرفدها جوزيف حرب وفيلمون وهبي وزياد رحباني وزكي ناصيف وطلال حيدر، ويغويها تطلع خاص للمدرسة المصرية، فطلبت من رياض السنباطي ألحانا مختلفة فلحن لها ثلاث أغان لم تخرج للنور بل ظلت حبيسة تسجيلات خاصة بالأستاذ رياض السنباطي، وأما بالنسبة لبليغ فقد لحن لها أغنية بعنوان (غربة) من كلمات عبد الرحيم منصور، لكنها لم تجد النور أيضا ولا نعرف عنها شيئا حتى الآن.

ظلت الأحلام تراود البلبل لإنتاج نموذج فيروزي مصري داخل عفاف راضي، وكانت ذروة هذا الحلم أغنية (لمين يا قمر) سنة 1974.

هذه الأغنية منحازة لفيروز بكل تفاصيلها الرحبانية، وذلك بعد أن عمل عدة ألحان تنحاز لفيروز بنسختها (البليغية) وأهم ذلك أغنية (سلم سلم) سنة 1973.

في بداية الثمانينيات وفي ظل ابتعاد فيروز عن الرحابنة والاتجاه لفضاءات جديدة ترتكز على الطرب كعنصر مهم، حاول الأخوان رحباني الدخول بمسرحهم الغنائي للساحة المصرية فكلفوا الشاعر أمل دنقل بتمصير مسرحية (الشخص) وجعلوا من عفاف راضي بديلا لفيروز، وكان أن لحنوا لها ثلاث أغان باللهجة المصرية كانت إحداهما أغنية (يا وابور الساعة 12) التي اشتهرت آنذاك ولكن المسرحية ظلت حبيسة أدراج ماسبيرو حتى وقت ليس ببعيد عنا لأسباب اختلفت فيها التأويلات وكثرت عليها الأقاويل، وفي هذه اللحظات كانت ألحان بليغ في مسرحية ريا وسكينة يرددها كل المصريين، وقد دخل الرحابنة إلى ساحته في مغامرة عليها ما عليها من كلام.

تحاول هذه العجالة التأمل في مآلات التجربتين الإبداعيتين ومحاولة استيعاب مدى الانزياحات ما بين طموح التجربة وما بين المآل الذي انتهت إليه، وقد انتهى طموح تجربة فيروز بانزياحها إلى التطريب بما يسمح لصوتها وانضباطها بأغنية مثل (أنا صار لازم ودعكن) سنة 1997. انتهت بمزيج فيروزي يجعل من انضباط التأمل وانزياحه للتطريب شكلا فريدا لا يتكرر كما انتهت تجربة بليغ مع عفاف راضي بأغنية مثل (من قدي الليلة) سنة 1987.

تجربة لم تستطع الانسلاخ من تقاليد الأغنية المصرية التي يسري في عروقها الطرب ولو خفيا مع نزعات تأملية تجعلنا نتلمس أحلاما فنية معلقة لذلك الشاب الذي طار لبيروت ذات صيف من عام 1964.

عن موقع فنون