وزير التجارة السابق وصديق قائد ثورة 14 تموز في كتاب عنه

وزير التجارة السابق وصديق قائد ثورة 14 تموز في كتاب عنه

رشيد الخيُّون

كتب الكثيرون، محبين وخصوما، حول رئيس وزراء العراق الأسبق عبد الكريم قاسم. لكن كتابة عبد اللطيف الشوّاف، وزير التجارة ومحافظ البنك المركزي العراقي والمستشار القانوني في شؤون النفط في عهده، لها وقع آخر. فهو ابن عم وابن خالة عبد الوهاب الشوّاف. وما لهذا الاسم من تاريخ في الخصومة والانقلاب على عهد عبد الكريم قاسم، في الذكرى الأولى من ثورة 14 يوليو (تموز) 1958.

يضاف إلى ذلك أن صاحب الكتاب الشوّاف ظل قريباً من عبد الكريم حتى اليوم الأخير من عهده، فكانت آخر جلسة له معه ليلة السابع من فبراير (شباط) 1963، قبل يوم واحد من انقلاب البعثيين الذي أطاح به. وعلى الرغم من هذا القرب ظل الشوّاف بعيداً عن الولاءات الشخصية والحزبية، فهو قريب إلى عبد الكريم بالمسافة التي ظل بها قريبا إلى ابن عمه وكل الخصوم. هذا ما أشارت إليه كتاباته حول الشخصيات العراقية، ومنها الكتاب الذي بين أيدينا. كان عهد عبد الكريم قاسم في نظر الشوّاف عهداً مضطرباً. لكنه في الوقت نفسه كان عهداً واعداً لولا حدوث انقلاب 8 فبراير 1963، وإسقاطه بهذه الطريقة الدرامية. وحسب المؤلف كانت هذه السنة حبلى بتحقيق الكثير من طموحات ثورة 14 تموز. وفي مقدمتها تحقيق الانتخابات النيابية، وعودة الحياة الدستورية والديمقراطية، بما هو أفضل من السابق. وكان سيعلن عنها في 12 فبراير من العام نفسه. وقد كُلف عبد اللطيف الشوّاف في كتابة مسودة لمشروع الدستور.

وما يؤكد رواية الشوّاف السالفة الذكر، أن جريدة (لوموند) الفرنسية أجرت مقابلة مع قاسم في الخامس من شباط 1963، أجاب فيها على سؤال الصحافي حول وعده بدستور دائم وانتخابات ومجلس تشريعي. قال: «أتحدى أن يُذكر لي مثال واحد عن تعهد قطعته ولم ألتزم به. ففي يوم من الأيام، وكان ذلك في 11 يونيو (حزيران) 1959 خلال مؤتمر الشبيبة الديمقراطية الذي انعقد في بغداد، قطعت وعدا ببناء مدينة الثورة. آنئذ اعتبرني كثيرون مجرد حالم وطوباوي. لكن الجميع اليوم بإمكانهم الذهاب إلى المدينة اللطيفة التي يعيش فيها ثلاثمائة وخمسون ألفاً من السكان، جميعهم من ذوي الدخل المحدود. وقريباً ستكون لها حدائق عامة وشوارع مبلطة ومسبح كبير... أما فيما يخص الدستور، فإنني أتعهد الآن علناً بأن لجنة من الخبراء ستشكل قبل نهاية شهر شباط هذا، لتكلف بإعداد مشروعي دستور دائم وتشريعي انتخابي جديد. وسنضع تحت تصرفها من أجل ذلك نصوص عدد من الدساتير الأجنبية، ومنها النصوص السويسرية والألمانية والفرنسية والمصرية والسورية. وفي كل الأحوال، انني أتعهد علنا أمام الشعب بأن يكون عام 1963 هذا عام ولادة الجمعية الوطنية العراقية» (مجلة أصوات، ترجمة حرفية عن لوموند الفرنسية).

كان عبد الكريم قاسم، حسب شهادة صاحب الكتاب، بعيداً كلية عن الطائفية والعشائرية وأي انتماء آخر ماعدا الانتماء العراقي. «فلم يكن لأي من عناصر النسب والعشيرة والمذهب وجهة العيش والعرق القومي أي تأثير على قراراته السياسية، التي كانت تستهدف تطوير المجتمع العراقي كله بالتساوي، والإخاء بين تعددياته المختلفة».

يذكر الشوّاف أن عبد الكريم كان يأخذه الفرح عندما يرى تجمع السحب في السماء، فهو وعد بالماء، سيسقي الأرضي التي وزعت على الفلاحين بموجب قانون الإصلاح الزراعي. لكنه من جانب آخر ظل حريصا على احترام رؤساء العشائر وملاكي الأراضي السابقين، كان ذلك ضمن أخلاقه البغدادية. فلا يتأخر عن توديع أحد المراجعين منهم حتى الباب الخارجي لوزارة الدفاع، ويوصي بالاهتمام به. وظل بعد إعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري، عصبي المزاج مكتئبا، تأخذه نوبات من البكاء والندم. وقد حصل أن شاهده الشوّاف، بعد اعدامهما في ساحة أم الطبول، يضع أمامه على الطاولة ثلاثة أقداح من الشاي، واحداً له واثنين للطبقجلي وسري. لكنه يعود ويقول: إنهما أغريا عبد الوهاب الشوّاف على الثورة بالموصل ثم تخليا عنه. قال الشوّاف: كان وقع تنفيذ الإعدام شديداً عليه، لأن من سلوك عبد الكريم الشخصي وحتى السياسي أن الرحمة فوق العدل. كيف لا وقد أعفى عن المتورطين بمحاولة اغتياله في أكتوبر (تشرين الأول) 1959. وعذره في ذلك أنهم استهدفوا حياته شخصياً، أما المتورطون في ثورة الموصل فقد استهدفوا الدولة والثورة.

وربما لا يعرف أحد من قبل أن الشوّاف الذي أيدت حركته الأطراف القومية، وجمال عبد الناصر، أنه خاصم عبد الكريم قاسم لأنه ضم عبد السلام عارف، الذي بدا متحمساً قومياً لتحقيق الوحدة الاندماجية مع مصر، إلى جماعة الضباط الأحرار.

كذلك أطنب الشوّاف في الحديث حول نزاهة عبد الكريم قاسم المشهورة عنه بين العراقيين. مؤكداً قصة (الصفرطاس)، وهو مجموعة أوان مرتبطة بعضها بعضاً. يحمل فيها عادة العمال أو البقالون أو الموظفون طعامهم إلى محلات أعمالهم. وعبد الكريم، وهو رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع، ظل يُحمل له الصفرطاس من بيت أخيه حامد أو من بيت أخته. وعندما يذكر المشاركون عبد الكريم قاسم الغذاء المحمول في الصفرطاس يذكرون تصرفاً عفوياً لا يقصد فيه صاحبه إثارة الجمهور، وهو مشهد تبدو غرابته واضحة بعد ما شاهده العراقيون من عجائب في قصور صدام حسين. وإن تبسط الشوّاف بمزايا عبد الكريم قاسم، ونفى عنه كل ما دار حوله من طعون في أخلاقه وسلوكه الشخصي، إلا انه لم يخف امتعاضه وامتعاض وزرائه من طريقة إدارته للدولة، والتخبط في القرارات. فكان من عوائده عقد مجلس الوزراء في ساعة متأخرة من الليل، وبذلك يتحمل الوزراء أعباء العمل ليلاً ونهاراً، فلا يبقى لهم الوقت الكافي لاتخاذ القرارت الصائبة، وكذلك يجعلهم التعب يوافقون على أي قرار يُطرح في المجلس من دون تمحيص ودراسة. وكثيراً ما كان أذان الفجر يدركهم وهم مجتمعون في وزارة الدفاع. ومن سلوكياته غير المحمودة، كان اعتماده على المرافقين العسكريين في إدارة الدولة، وفي تسيير الكثير من الأمور الخارجة عن اختصاصهم، وربما كانوا يستشارون بتوزير فلان أو إعفاء فلان من الوزارة، وإن أراد عبد الكريم إيصال فكرة، أو معرفة الأجواء العامة حول قضية ما بثها إلى أحد مرافقيه، كي تأخذ طريقها غير المباشر، ويأتيه صداها.

يميل الشوّاف في كتابه إلى أن عبد الكريم قاسم يصلح لقيادة الجيش أكثر من صلاحيته لقيادة الدولة. لكن مع ذلك استطاع مواجهة مواقف حرجة سببها له التزامه، غير المنظور، بمبادئ الحركة الوطنية العراقية، منها تعامله في قضية النفط، وإيمانه العميق بتحرير النساء من الفوضى الفقهية، فعزم على إصدار قانون الأحوال الشخصية، وتحمسه المنقطع النظير لرفع مستوى الفقراء، حتى بدا أنه عدو الأغنياء. وكان يردد دائماً، على مسمع من الشوّاف، أن يكون لكل عراقي بيت، وأنه سيدحر الفقر. لكن كم تحتاج تلك الطموحات إلى رؤية سياسة وحكمة جماعية. ظل عبد الكريم قاسم يتصرف بنزاهة مفرطة وبنية طيبة إلى جانب فردية مفرطة أيضاً. ورغم ذلك انتعش الاقتصاد والإعمار في سنوات حكمه حتى استيقظ العراقيون على بيان قتله. وقد نعتت الصحافة الفرنسية ذلك الانقلاب بمهرجان الدم العراقي. كتاب عبد اللطيف الشوّاف «عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون» (الوراق 2004)، الذي توفي صاحبه منفياً بالقاهرة 1996 بعد أن تمكن من تدوين خواطره السياسية والاجتماعية وشهادته على ما حدث في الأربعين سنة الماضية، يعد مرجعاً هاماً، ذلك لمعلوماته وتوازنه بين اتجاهات أغرقت العراق بأزمات ودورات دموية.

10 مارس 2005 الشرق الاوسط