عرفت عبد اللطيف الشواف

عرفت عبد اللطيف الشواف

خالص عزمي

شعر مجعد اجتاح الشيب جله ؛ وعينان واسعتان قللت من حدتهما نظارات البعد الزجاجية الصافية التي ترتكز على انف طوال يغطي مساحة من شارب رقيق لا يظهر منه الا طرفاه. متوسط الطول ؛ رشيق البنية

سريع في مشيته ؛ معتدل القوام ؛ نشط الذاكرة ؛ اذا تحدث ؛ اعطى الموضوع حقه ؛فهو قانوني ضليع ؛ واقتصادي ثاقب النظر ؛ وخبير بترولي مشهود له بثاقب الرأي ؛ واديب رشيق العبارة دقيق الاشارة. كان قاضيا متفقها مستقيما توارث المهنة عن جده وابيه ؛ وكان محاميا استاذا جليل القدر؛ عالي الهمة والعلم وبخاصة في الدعاوى المدنية. بصراوي النشأة ؛ بغدادي المنبت ؛ ترعرع في احضان اسرة الشواف الشهيرة ؛ فنهل منها الافتاء والقضاء والادب ؛ جده القاضي المفتي طه الشواف ؛ وابوه القاضي علي الشواف وعمه العلامة كبير قضاة بغداد عبد الملك الشواف ؛ وابن عمته الشاعر الكبير خالد الشواف الذي عرف بريادته للمسرح الشعري في العراق وهو ابن العلامة القاضي عبد العزيز الشواف الذي جاورناه سنوات عدة في شارع عمر بن عبد العزيز في الخمسينات من القرن الماضي ؛ ولو واصلنا هذه المسيرة القانونية لاتضح لنا ان هذه الاسرة العريقة كان من بين ابنائها (الذين تعرفت عليهم شخصيا) من لاذ بالقانون ثقافة ومهنة ؛ كالقاضيين راشد وماجد والمحامين سلمان وداود وجميل وخالد آل الشواف... الخ او بالطب كا الدكتور اللواء محمد الشواف ؛ مدير الامور الطبية في الجيش والوزير المحنك...الخ

ولد عبد اللطيف في البصرة وتعلم في مدارسها ؛ والتحق في كلية الحقوق فتخرج فيها بتفوق عال ؛ فعين قاضيا في مدينته البصرة عام 1947كما تشير الى ذلك اضبارته الشخصية في نقابة المحامين ؛ ثم نقل الى بغداد ليتولى القسم القانوني في مديرية المستوردة العامة على عهد مديرها العام ناظم الزهاوي مع نخبة من المثقفين كبدر شاكر السياب (زميله في مدارس البصرة) وحسين عبد العال و الفنان الاديب نوري الراوي؛ ثم انصرف بعدئذ للمحاماة وكتابة الدراسات حتى قيام ثورة تموز الخالدة حيث انيط به منصب وزارة التجارة في حكومة الثورة ؛ وما هي الا فترة وجيزة حتى استقال لينصرف الى المحاماة مجددا والمشاركة في كثير من الهيئات واللجان الخاصة بالاقتصاد والقانون وشؤون النفط ولم يتقلد بعد ذلك منصبا حكوميا ما عدا محافظية البنك المركزي ولفترة محددة ايضا. ومع انه انكب على وضع الدراسات والابحاث الكثر في المجالات التي اشرنا اليها اعلاه ؛ الا ان القانون والتفقه فيه كان هاجسه دائما ؛ اما الادب فقد كان الهواية الاحب ؛ اذ حفظ من الشعر نصوصا لكبار الشعراء ؛ واطلع بعمق على آيات من التراث الادبي لابرز المجلين فيه على الصعيدين ؛ الفصيح والشعبي منه ؛ وغرف من معين المقامات العراقية ؛ فكان خبيرا فيه لا يقل علما عن الشيخ جلال الحنفي والسفير باهر فائق والباحث والموسيقي شعوبي ابراهيم.... الخ

كان الشاعر المبدع خالد الشواف هو اول من تعرفت عليه من هذه العائلة الكريمة ؛ لروابط الجيرة والزمالة اضافة الى اواصر الادب والشعر والتي ما زالت قائمة لحد الآن على الرغم من تباعد المسافات ؛ وقد سمعت منه كثيرا عن باقي افراد الاسرة وبخاصة ابن عمه عبد اللطيف الشواف ؛ الذي تعرفت عليه عام 1956 في غرفة نقيب المحامين آنذاك المرحوم الاستاد حسين جميل ؛ حينما دار الحديث حول تطوير قانون نقابة المحامين بما يؤمن الرعاية والحماية والعون المادي والادبي للمحامين كافة وبما يكفل لهم اداء مهامهم على الوجه الصحيح وقد ركز الشواف على نقطتين هامتين هما: التقاعد المجزي ؛ و تسهيل اجرآءات التحقيق بحصره في محققين عدليين حقوقيين وحسب ؛ بحيث يتمكن المحامون من الوصول الى الحقائق بكل يسر وذلك بفضل العلاقة المهنية و اللغة المشتركة بين الطرفين. لقد خرجت من تلك الجلسة العابرة ؛ بانطباع فيه كثير من التقدير لهذه الشخصية القانونية المتزنة المتوازنة التي تميزت بسعة المعلومات عامة والقانونية منها بشكل خاص.

حدثني صديقي وزميلي الناقد الاديب عبد الجبار داود البصري ‘ عن عبد اللطيف الشواف وايامه الدراسية في البصرة وعلاقاته المتميزة مع الادباء منهم على وجه التخصيص ثم عن فترة توليه القضاء هناك حيث نال سمعة محمودة ومكانة بارزة تجلت بعمق ثقافته ؛ وحسن معاملته وتواضعه ؛ وصائب قرارته ؛ التي اتسمت بالعدل والمروءة وحسن تطبيق القانون ؛ بل ان الصحفي البصري مهدي وفي زاد على ذلك بقوله:مع ان الشواف يوم تولى القضاء كان في عز الشباب ؛ الا ان اتزانه وثقافته القانونية وسيطرته على ضبط المحكمة كانت تعطيه مهابة تجاوزت سنوات عمره ؛ وقد كان لتربيته العائلية ؛ وحسن اخلاقه ؛ وسعة علمه الاثر الواضح في المكانة التي احتلها عند البصريين).

في الستينات ؛ أخذ الشواف يتردد على نادي المنصور ؛ بعد ان استقر في بيته في حي المتنبي الذي لا يبعد غير امتار قليلة عن هذا النادي العريق ؛ وكان تردده يتركز على الاماسي التي تنشط فيها الفعاليات الفنية و الثقافية(كالمحاضرات ؛ والقاء الشعر ؛ والندوات الادبية والتآريخية ؛ ومعارض الرسم والمقامات... الخ)

وكان يطيب له الجلوس مع كوكبة من رجال القانون والادب والاقتصاد ليناقشوا محتوى نتاج الامسية من حيث الشكل والمضمون ؛ ومن الامثلة على حرصه الشديد عل تكامل عناصر نجاح تلك الاماسي ؛ ان راجعني اكثر من مرة وانا في الغرفة المخصصة لي كرئيس للجنة النشاط الثقافي والاجتماعي لذلك النادي ؛ وابدى وجهة نظره في اغناء تلك الفعاليات وكانت في غاية الاهمية ؛ كما لا انسى مداخلاته اثناء محاضرة الشيخ جلال الحنفي حول التراث الشعبي ؛ او ليلة ذكريات جعفر الخليلي وحافظ جميل وحقي الشبلي ؛ حول القصة والشعر والمسرح في الثلاثينيات والاربعينات من القرن الماضي ؛ بل واسجل له اليوم ذلك الموقف المتميز من انجاح الليلة البصرية التي اقمناها في قاعات وحدائق النادي ؛ حيث ابدى العون والتوجيه في كثير من المعلومات المفيدة حول الفنون و العادات والتقاليد والمأثورت الشعبية البصرية.

يعتقد الكثيرون من الذين يعنون بالمظهر لا المخبر ؛ ان الشواف شخصية متزنة جادة وحسب ؛ في حين انك لو اقتربت منه وتعرفت عليه جيدا ؛ لوجدته من الشخصيات المرحة التي هي اقرب الى ما عرفنا من الادباء البغدادين الظرفاء في تاريخ الادب ؛ ولعل ما سأشير اليه هنا يعطي فكرة عما كان عليه من ذلك الظرف. فقد روى لنا عن جده العلامة الفقيه قاضي البصرة طه الشواف ؛... ونحن نجمتع صباح ذات جمعة في مجلس الدكتور عبد المجيد القصاب في داره العامرة في الكرخ على نهر دجلة حيث قال (في القرن التاسع عشر ؛ راجع جدي وهو ما زال طالب علم دائرة الاوقاف لغرض يتعلق بسير دراسته ؛ فلم يعره مسؤولها اهتماما ؛ وحينما أراد العودة من حيث اتى ؛ وجد نفسه محتاجا الى صرف مبلغ من المال لدى خزينة تلك الدائرة ؛ ولما عرض ما بين يديه من عملة عثمانيةعلى مأمورها رفضها بحجة كسادها ؛ فما كان من جدي الا ان كتب ابياتا من الشعر وسلمها الى الادارة وخرج؛ فانتشرت تلك الابيات وتناقلتها مجالس بغداد لطرافتها وحسن ايجازها للحادثة وهي:

قل لامير المؤمنين الذي

قد عمنا بالجود واللطف

درهمه أضحى وديناره

في سوق بغداد لدى الصرف

أذل من طالب علم أتى

لحاجة دائرة الوقف

في نهاية السبعينات من القرن الماضي ؛ وحينما احلت على التقاعد وانا في قمة الشباب والعطاء كعضو في التدوين القانوني (مجلس شورى الدولة حاليا) ؛ ابدى الشواف أسفه الشديد على ذلك التعسف في استعمال الحق ؛ وراح يبدي تشجيعه لي على فتح مكتب للمحاماة في عمارة مرجان في ساحة التحرير ؛ وهي ذات العمارة العريقة التي كان يشغل في جناح منها مكتبه. وبعد جهد حثيث وتوسط شخصي منه استطعت ان احصل على شقة في الطابق الثالث اتخذتها مكتبا لي ؛ وما هي ا لا فترة قصيرة حتى تواصلنا في الاعمال وأخذت الآصرة تقوى وتشتد عما كانت عليه سابقا ؛ ليس على المستوى المهني وحسب بل على المستويات الادبية والاجتماعية ايضا. لقد جلب انتباهي ونحن في عمارة مرجان وفي تلك الفترة الزمنية بالذات امر دلل على ما كان الشواف يتصف به من مد يد المساعدة الى الملهوفين دون ان يكلف نفسه عناء التحقق من صدق حاجة طالبي العون ؛ فلقد شاهدت مرات عدة ؛عشرات المراجعين يزدحمون على مكتبه ؛ فحسبت ذلك بسبب الدعاوى التي كانت تنهال عليه وهو امر معتاد مع كبار المحامين من ذوي المكانة والسمعة الحسنة ؛ وقد تبين لي بعدئذ ؛ ان جل اولئك ؛ ما هم الا من طالبي المعونة ؛ او الاستفسارات والاستشارت (السياسية او الاقتصادية او القانونية) المجانية. ثم تأكد لي وبمرور الزمن ؛ ان ذلك الجود وكرم النفس الذي عرف به الشواف ؛ هو الذي شجع الآخرين على النهل من فيض علمه وسماحته ومكنته من تقريب وجهات النظر.

لقد كتب الشواف في كثير من الشخصيات التي عرفها عن كثب ؛ وأفاض في أخلاقها الحسنة و وفائها وما كتابه (شخصيات نافذة) في حق الغير ؛ الا صفحة غير مباشرة في حق نفسه ايضا ؛ان جذور هذا الكتاب في حقيقة جوهرها ترجع ال المقاربة الذاتية مع دواخل نفسه والى ما اكتسبه من اسرته او من طباع مجتمعه المصغر في مدينتيه الاساسيتين (بغداد) و (البصرة) من خصال الشهامة والمروءة والنجدة والوفاء التي كانت سائدة يوم ذاك ؛ حيث انعكس كل ذلك على بعض ممن اختار من شخصيات تقترب الى حد كبير من اصالة اخلاقه الحميدة. لقد كان هذا الكتاب صورة قلمية ادبية ؛ لا تختلف في المنهج عن كتب سبقته في هذا المجال ؛ مثل (في المرآة) للاديب المصري عبد العزيز البشري ؛ و(مشاهد الرجال) للاديب اللبناني يوسف غانم ؛ و(هكذا عرفتهم) للاديب العراقي جعفر الخليلي ؛ وغيرها كثير ؛ اما في الاسلوب ؛ فالاختلاف واضح ؛ في اللغة والبلاغة والسرد والتفاصيل الفرعية ؛ وسيبقى كتابه هذا مصدرا ثرا لشخصيات كان لها اثرها الاجتماعي والشعبي والسياسي ؛ليس للباحث والدارس وحسب ؛ بل وللقاريء المتتبع للسير والاحداث على وجه أعم.

لقد ترك عبد اللطيف الشواف للمكتبة الثقافية ؛ عشرات من الدراسات والبحوث القانونية والاقتصادية والبترولية ؛ بتكليف من هيئات ومنظمات عربية ودولية اضافة الى النتاج الادبي والتاريخي ؛ ولعل مشروعي الدستور الدائم اللذين اعدهما مع نخبة من رجال القانون المتميزين في عهدي (عبد الكريم قاسم ثم عبد الرحمن عارف) كان من انجازاته المعتبرة. هذا بالاضافة كتبه المطبوعة (حول قضية النفط في العراق) و (شخصيات نافذة) و (عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون).... الخ وهناك العديد من المخطوطات التي ما زالت قابعة في ادراج الدائرة الاقتصادية في الجامعة العربية والمنظمات الدولية الاخرى و في مكتبة الاسرة تنتظر النشر ومن بينها ترجماته و لوائح دعاويه ومرافعاته ؛ وقرارته القضائية ؛ ومطالعاته التي قدمها اثناء توليه مناصبه الهامة المختلفة.

تميزت علاقات الشواف بكثير من الشخصيات العراقية والعربية بالصدق و الاحترام المتبادل ؛ حيث كان يركزها ابتداءا على الفراسة التي كان يتحلى بها في معرفة الاشخاص؛ ولان الجانب المادي كان آخر مراحل الصلة عنده ؛ لهذا تجد ان علاقاته تلك امتدت لتغطي شخصيات بارزة من اغلب البلدان العربية وبخاصة منطقة الخليج.فقد اصبح له في بقاع وطنه العربي اصدقاء وزملاء ومعارف يعتد بهم ؛ ولعل لاستقلالية شخصيته وبعدها عن التحزب والطائفية والتعصب هي التي فتحت امامه تلك الابواب لولوج دنيا التواصل المحمود.

لقد كان الشواف عبد اللطيف ؛ اديبا بمعنى الكلمة ؛ في لغته واسلوبه وابداعه ؛ وكان وصافا بارعا للشخصية التي يكتب عنها: ففي تقديمه للشخصية البصرية المشهورة صبري افندي ؛ امين صندوق البصرة (الذي اشتهر عن طريق الاغنية التي رددت اسمه في انحاء العراق وبخاصة عند قراء المقام) نستطيع ان نأخذ مثلا حيث كتب يقول: (رأيت صبري أفندي ؛ صندوق أمين البصرة ؛ عندما التقيته في اواخر الاربعينات ؛ رجلا مسنا في السبعين او الثمانين من عمره ؛ ممشوقا طويلا ؛ حسن الصورة ؛ ابيض اللحية ؛ والعارضين ؛و شعر الرأس.... يبدو انه كان في صحة موفورة ؛ ونشاط لا بأس به.لقد كان صبري أفندي يضع على رأسه الطربوش العثماني الاحمر.... الخ) ؛ وللتمتع بمثل هذه الاوصاف الشخصية البارعة يمكن للقاريء مراجعة كتابه (شخصيات نافذة) ففيها الكثير من الصور القلمية.

عن كتاب أدب القضاة