لماذا التعرف على أرسطو يجعلنا سعداء؟

لماذا التعرف على أرسطو يجعلنا سعداء؟

علي حسين

يستعير الفرنسي لوك فيري في كتابه “ تعلم الحياة “ فكرة ارسطو من أن هدف الفلسفة هو البحث عن الحياة الجديدة التي ينبغي ان يعيشها الانسان، كان أرسطو يؤمن بان الحياة الحقة تكمن في تحقيق الانسجام مع العالم الذي يشترط ارسطو ان يكون منسجما ايضا.. هذا العالم المنسجم والعادل والجميل هو الذي شكل في نظر ارسطو ومن قبله استاذه افلاطون النموذج الحقيقي لنشر المدنية..

ورغم أن أرسطو كان تلميذا لأفلاطون، غير أن أفكارهما كانت مختلفة عن بعضها البعض، لم يكونا يرددان نفس العبارات. كان لكل واحد منهما فلسفته الخاصة، كان أفلاطون مهتما بالتفكير الفلسفي المجرد، وكان أرسطو مهتما بكل شيء حوله.

يخبرنا لوك فيري أن أرسطو ومن قبله افلاطون وسقراط وأبيقور وقائمة كبيرة من الفلاسفة الاغريق سعوا إلى التبشير بعقيدة جديدة للحكمة، ومفهومًا آخر للحياة يكتب فيري:” أن نحيا جيدا ونضفي معنى على وجودنا ونحدد قيم تتمثل طيبة بالنسبة الينا نحن البشر «.

يعترف أرسطو بانه تلميذ منشق لاستاذه افلاطون ويخبرنا: “ احب افلاطون، ولكنني افضل الحقيقة اكثر “، كان أفلاطون سيكون راضيا لو أنه تفلسف انطلاقا من جلوسه في الاكاديمية وتأمله العالم المحيط به، في الوقت الذي اراد فيه أرسطو استكشاف الواقع الذي يعيشه من خلال التجربة، رفض نظرية معلمه المثالية، معتقدا عوض ذلك أن الطريقة لفهم أي مقولة عامة هي فحص أمثلة معينة لها. “ إذا أردت أن تفهم ما تعنيه قطة، فيجب أن ترى قططا حقيقية، و ليس التفكير بطريقة مجردة في شكل القطة “. ويرى ارسطو انه يجب ان تكون للانسان مواهب، وعليه أن ينميها على احسن وجه. يكتب لوك فيري ان مهمة الفلسفة هي “ السخط الاخلاقي “ الذي يسمح للانسان ان يتدخل في شؤون العالم من اجل “ سحق ما هو دنيء “. يجب على الفيلسوف ان لا يخضع لغيرة هكذا يحدد أرسطو مهمة الفلسفة باعتبارها “ العلم الحر، الذي لا يوجد إلا من اجل ذاته «.

من بين الأسئلة التي فكر فيها أرسطو بشكل دائم هي: “كيف يجب أن نعيش؟”. طرح سقراط وأفلاطون هذا السؤال، وكانت الحاجة للإجابة عن هذا السؤال هي جزء مما يدفع الناس إلى الفلسفة. كان لأرسطو جوابه الخاص: “ أبحث عن السعادة “..هذه السعادة التي خصص لها لوك فيري كتابا بعنوان “ مفارقات السعادة “ أكد من خلاله أن بلوغ السعادة يعتمد فقط على اجتهادنا الذاتى وعلى حالة العالم من حولنا، ومصير الأشخاص الذين نحبهم..يصر ارسطو على أن الانسان فنان نفسه، يبقى خالقا لمشروعه، ويتقدم لأنه يتغير ويتطور، فهو في تقدم مستمر على ذاته. فالفرد الذي يضع ذكاءه في خدمة افعاله، يُسهم في العمل الكوني. يبحث الانسان في الفلسفة عن تنمية قدراته بالتجربة والمعرفة. يكتب برغسون:” تُبرز البهجة ان الحياة كانت ناجحة، وانها انتشرت وانتصرت: كل بهجة لها نبرة انتصارية، في كل لحظة تكون فيها البهجة، يكون فيها الخلق.كلما كان الخلق غنيا تكون البهجة عميقة “ – برغسون من كتابه التطور المبدع -. «.

يكشف لنا لوك فيري أن والده أول من أرشده الى أرسطو. يتذكر عندما كان في الثامنة عشر من عمره ظل يعاني من مزاج سيء أدى به الى ان يكتئب، أرشده والده الى وصفة يمكن ان تساعده في تخطي هذه المرحلة، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة لافلاطون وأرسطو وسبينوزا وديكارت، قرأ عند ارسطو ان الحياة التي تتفادى مواجهة الذات والتفتيش داخلها لا تستحق ان تعاش، واكتشف من خلال والده مصمم وصانع السيارات الرياضية ان عليه ان يفكر بالعيش لا بالموت، وكانت هذه اول الاسئلة الوجودية التي يوجهها لوك فيري في حياته: مامعنى الحياة؟.. كيف نعيش حياتنا المحددة بعدد من السنوات بطريقة مرضية، وما هي هذه الطريقة، وكيف نجدها؟. ليجد الحل في الفلسفة التي هي حسب رأيه منافسه للاديان في هذا المجال، لأنها تدعونا إلى أن نجد بأنفسنا الإجابة على اسئلة الوجود الانساني، فليست الفلسفة مجرد خطاب ملغز، بل بحثًا عن الحكمة.

ولد لوك مارك فيري في الثالث من كانون الثاني عام 1951 في ضاحية شمال باريس لأب من مصممي السيارات الرياضية، يعشق قراءة الكتب، ويتذكر الصبي لوك ان الكتب كانت ترافق اباه حتى في مكان عمله، اما الام فقد ارتضت بان تكون ربة منزل مسؤولة عن ثلاثة ابناء، سيصبح اثنان منهم فلاسفة واحد منهم جان مارك فيري الذي يكبر لوك فيري بخمس سنوات، كانت الام تؤمن بان ابناءها سيصبحون يوما ما في مراكز متميزة، يتذكر لوك فيري ان مارسيل بروست كتب في احد رسائله:” لطالما وافقت ماما انني لا اتفق إلا امرا واحدا في الحياة، ولكنه أمر كان كل منا يقدره بشدة، بحيث كان يُذكر كثيرا: بروفيسور ممتاز “ عانى في مراهقته من الخجل وكان منطويا لا يحب رفقة زملائه الطلبة، تسحره شخصية الروائي مارسيل بروست الذي كان يمضي كل وقته في القراءة والكتابة، كما أعجبه غرور صاحب البحث عن الزمن المفقود واعتزازه بنفسه، وبسبب عزلته يقرر والده ان يكلف عدد من الاساتذة لتدريس ابنه في المنزل، يدرس الفلسفة وعلم الاجتماع في السوربون، يتخرج من الجامعة بشهادة فلسفية وبنظرة مغايرة للحياة، يبدأ حياته العماية مدرس لمادة الفلسفة في المدارس الثانوية، العام 1980 يحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، ويتم تعينه في معهد الدراسات السياسية في ليون، بعدها ينتقل للعمل استاذا للفلسفة، ينشر اول كتبه بعنوان “ الفلسفة السياسية “ عام 1984 والذي لم يثر الاهتمام، واعتبره البعض مجرد كتاب مدرسي، لكنه سيكتسب شهرة عام 1985 بعد صدور كتابه “ فكر 68 “ الذي وجه من خلاله نقدا الى الفلاسفة الفرنسيين الذين وصفهم بانهم يحملون أفكارا معادية لـ “الإنسانوية”، حيث تناول بالنقد كتابات ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، ثم توالت إصداراته التي لفتت اليه الانتباه وجعلت منه فيلسوفا تطارده وسائل الاعلام وتخصص له الفضائيات برامج يعطي من خلالها دروسا مبسطة عن الفلسفة، مثلما كان الفلاسفة الاغريق ينشرون الفلسفة في الاسواق.

يري لوك فيري ان ارسطو لم يكن فيلسوفا تأمليا، وانما كان يرى العالم بعين الفلسفة، ويدربنا على ان نتفق على ثوابت الحياة كجماعة انسانية وان نعي الوجود جيدا، يكتب ارسطو:” يجب ان نختبر ما قلناه سابقا ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتفق معها فعلينا إذن ان نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفر من التسليم بانه محض حديث نظري “. ونجد فيري يضع مقارنات في “ تعلم الحياة “ بين الدين والفلسفة، فالاديان تعد الإنسان بامكانية الوصول إلى إلى الخلاص عن طريق الإيمان، بينما الفلسفة تعد الانسان بانه سيتمكن من إنقاذ نفسه بنفسه عن طريق العقل.

ويثير فيري ضجة في الاوسط الثقافية الفرنسية عندما يؤكد ان فولتير وروسو وديدرو لم يكونوا فلاسفة بالمعنى الدقيق، وان فكرة التنوير لم تاخذ طابعها الفلسفي إلا على يد الفلسفة الالمانية وخصوصا عند ايمانويل كانط.. بل ويذهب ابعد من ذلك عندما يعتبر ديكارت ليس بفيلسوف جيّد. وهو يرى ان الفلسفة الفرنسية حاولت إلغاء الدين من المعادلة التنويرية، عكس فلسفة كانط التي عملت على “ علمنة الدين “. ويجد فيري ان الفلسفة في فرنسا حاولت ان تجرد الانسان من مركزيته في الكون:” في تاريخ الفلسفة كان تاريخا للعباقرة منهم إما من اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو، أو من الألمان مثل كانط، والجيل من بعده: ياسبرز، هوسرل، وهابرماس “ – لوك فيري اجمل قصة في تاريخ الفلسفة.

يسعى لوك فيري من خلال مؤلفاته التي قاربت الـ “ 50 “ كتابا الى تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص، وقد قدم في هذا المجال عدد من الكتب ابزها “الفلسفة كما شرحتُها لابنتي”، وكتابه الشهير “تعلم الحياة” وكتاب ممتع بعنوان بعنوان “أجمل قصة في تاريخ الفلسفة “ والذي يستعرض فيه قصة الفلسفة عبر العصور مؤكدا ان :” الفلسفة ليست فن الأسئلة كما يُشاع، وإنّما هي في الأساس فن الأجوبة “. فبرأيه، أن إنسان هذا العصر، في ظل هذه المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، والتقلّبات السياسية والاقتصادية المتتابعة، يصبح عرضة للشكوك والظنون، فيقع تحت تهديد مخاوف كثيرة، نفسية واجتماعية، تقلقه وتفسد عليه حياته واطمئنانه. ولذلك، يذكرنا فيري بما انتهى إليه الفلاسفة اليونانيون منذ القدم، وهو أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة سعيدة إذا كان الخوف يسكنه، لأنه في تلك الحالة سيكون أسير الحنين والتمني، أي انه يقع اسير حب الماضي وحب المستقبل، وسيتعذر عليه عندئذ التمعن في الحاضر جيدا.

في عام 1994 يتم إختياره رئيسا للمجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم، وبعدها باعوام يتولى وزارة التربية، وهو لا يخفي اعتزازه بهذه المناصب، حيث قال في تصريح صحفي: “لا أشعر بالخجل وأنا أمارس السلطة، فأنا أتعلم هنا أكثر مما أتعلمه طيلة عشر سنوات من تدريس فلسفة القانون».

يكتب لوك فيري ان ارسطو تمكن من تخصيب الفلسفة بالملاحظة اليومية للحياة.

يقال دائما: إذا كان للفلسفة من رئيس لجمهوريتها، فهو بالتاكيد ذلك الرجل صاحب الانف الأفطس، القصير والبدين، والذي لا يشاهد إلا وهو يرتدي الملابس الرثة، وأعني به سقراط، وكانت ميزته انه تمرد على مجتمعه، له شخصية قوية و عقل ذكي. اتفق الجميع في أثينا على أنه لم يشبهه أحد من قبل في الازعاج الذي تسبب به للمجتمع، لكن رغم ذلك كان الكثير من الشباب يتحلقون حوله، وكان هؤلاء يؤمنون بما كان يؤكد عليه من ان الحياة تستحق العيش، اذا كنت فيها تفكر بما ستفعله، وجاء من بعده تلميذ افلاطون الذي قال عنه الفيلسوف الفريد نورث وايتهد:” ان الفلسفة الغربية كلها ليست اكثر من سلسلة هوامش على فلسفة افلاطون، ولعل افلاطون اول مفكر كبير تناول بالشرح اي شيء نفكر فيه، بدءاً من الحب ومرورا بالفضيلة والخيال وليس انتهاء بالعدالة والحقيقة، وقد كان مثل معلمه اراد ان يعلم نفسه كيف تتمكن من انكار ذاتها، وان لا تفرط في الانغماس في اي شيء.. وربما كان المرحوم افلاطون اول من تنبه ان الديمقراطية لا تنفع مع شعوب لا تحترم العقل والفكر، وكان يصر على ان الديمقراطيات تقود احيانا الى ان تُغرق الناس في حريات زائفة.. ولهذا ظل يصرخ ان الديمقراطية تحتاج مواطنين اقوياء، ناضجين، لهم شخصياتهم المستقلة.ومثلما كان افلاطون تلميذا لسقراط، عاش أرسطو اكثر من عشرين عاما وهو يستمع الى دروس معلمه افلاطون في الاكاديمية، ومثلما كان افلاطون معلما للحاكم ديون، اصبح ارسطو معلما لابنه الاسكندر، وفي كلتا الحالتين كان افلاطون وأرسطو يودان ان تتجسد تعاليمهما في نظام الحكم، ومثلما اسس افلاطون مدرسته، تمكن أرسطو ان يؤسس المدرسة “ المشائية “ وكان الطلبة فيها يتفلسفون بينما “ يتمشون “ بين الاروقة.

كان السؤال الذي يشغل الفلاسفة هو:” كيف يمكننا أن نزيد حظوظنا من السعادة؟”. وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على السعادة، في الوقت الذي كان فيه افلاطون يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف، فيما أصر أرسطو أن يخبرنا إن الاحساس بالسعادة سيقودنا إلى السلوك الحسن.

أرسطو الذي كان يطرح على تلامذته سؤالاً هو: “كيف يجب أن نعيش؟ “.كان يؤمن إن الاجابة عن هذا السؤال هي الطريق إلى الفلسفة ولهذا ظل طوال حياته يرفع شعار “ إبحث عن السعادة».

ماذا تعني عبارة “إبحث عن السعادة”؟ تعني عند أرسطو اكتمال الفضائل في النفس، وهو يعتقد إن كل فضيلة توجد في الوسط بين طرفي نقيض. توجد الشجاعة مثلها في الوسط بين الجبن و التهور.

يعتقد الكثير من فلاسفة العصر الحديث بأن أرسطو كان محقاً في ما يتعلق بأهمية تطوير الفضائل كما أن رؤيته لما تعنيه السعادة كانت دقيقة وملهمة. وانه اراد ان يعلمنا بأنه عوض السعي إلى رفع نسبة المتعة في الحياة، يجب السعي لأن نكون أحسن، وأن نفعل الشيء الصحيح. هذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام.

يلاحظ ارسطو في كتابه علم الاخلاق ان كل سعي انساني وكل عمل يتطلبان خيرا ما، على انه غاية لهما. فاذا كان هناك عدد كبير من الاعمال المختلفة، فهناك انواع كثيرة من الخيرات. بيد ان هذه الخيرات كلها يخضع بعضها لبعض حتى نصل الى الخير الاعظم. هذا الخير الاعظم في نظر ارسطو هو السعادة:” ان السعادة هي الخير الوحيد الذي يكتفي بذاته، انها الخير المطلق «..

يحاول لوك فيري اقتفاء أثر ذاك ارسطو ليثبت لطلبة الفلسفة ولعشاقها ان بامكانهم أن يذهبوا في رحلة فلسفية يحجون فيها إلى بلد سقراط وافلاطون وأرسطو وديوجين وابيقور للاستجمام العقلي والجسدي. يكتب لوك فيري:” لا نزال بحاجة إلى الفلسفة من أجل تحديد موقعنا في هذا العالم وذلك بغض النظر عن عرضيتها أو أصالتها».