عن ‘السفر داخل المنافي البعيدة’  للأب يوسف سعيد

عن ‘السفر داخل المنافي البعيدة’ للأب يوسف سعيد

أحمد محمّد أمين

نبرتُه كهنوتية ٌ صوفية، تجري في دروب الحداثة.نثرُه يُضاهي شعرَه، بل يعلوعليه.التقيتُه مرّة ً واحدة وكنا كحالمين. أو لمّا نزلْ في حقل أحلامنا. مريضاً ذابلاً كان، لم اُطِلْ مكثي معه. برفقة امرأة كان، أعرفُها. هي التي دلّتني عليه وعرّفتني به.

على الرغم من أنّه أمضى ردحاً من السنوات في مدينتي كركوك. فما تحدّثنا في الأدب. تركتُهما ومضيتُ لأجلس بعيداً أقرأ في احدى الصحف العربية التي تصل الى مكتبة ييرفيللا. نعم قرأتُ شذرات من شعره هنا وهناك، لكني نسيتُها. وحينَ نُشرَ خبرُ وفاته تألمتُ، فهو علامة ٌ بارقة في الحداثة الشعرية، سابق زمنه برغم كهنوتيته الصارمة. لقد ظلمه النقدُ العربي مثلما بخس حقّ الكثيرين من أمثاله. قلتُ مرّة، وقال كثيرون مثلي: انّ نقادنا يلهثون وراء الحيتان الكبيرة والأسماء التي تمتلكُ كلّ شيء ما عدا الآبداع. وعنّ لي أنْ أكتبَ عنه، وأنا لا أملك ديواناً من دواوينه.لكنّ صديقاً على صلة وثيقة به أمدّني بديوان له / السفرُ داخل المنافي البعيدة / من منشورات الجمل 1993. وقصائدُه محصورة بين مقدمة طويلة له بعنوان: الطفولة، وملحقة للشاعر العراقي فاضل العزواي. مقدمة ُ ألأب يوسف بغنائيتها الصادمة ولغتها المبتكرة المُكثفة وايقاعها الصوفي ترقى الى ما فوق الشعر. والصورُ فيها مستقدمة ٌ ممّا وراء الممكن والمُحال. مبتدئة ً بهذه العبارة: / يرمشون في الأرض أقدامَ حدقاتهم المُسوّرة بحُلم من ذوائب العسل الوردي /.. ومُنتهية ً ب / حيثُ الشِعابُ ملتهبة ٌ بتيارات الصواعق، مُكتنزة ً أشعة ً صافية تُغدِقُها على برزخ العقل /.. وما بين العبارتين الناريتين صواعقُ ورعودٌ وطوفان هذيان واشارات برقية مأهولة بغرائبية لا تنتمي الى زماننا. مثل: فوق الحاجب الضاحك / يُطعّمون عواميدَها وقراميدها بذهب الجَنّة / من وجع اللحم المُتقشف / مُسحاءُ الليل يُطاردون شبحاً / من ظلّ الرموش ….. ينتشلُ رجلٌ قميصَ وردته / أيّها الوعلُ الوديعُ أنتَ تحفظ ُ أسرارنا / استيقظ ُ في ظهيرة النخيل / أزمنة ٌ تشيخُ بمادة البياض / أحرثُ وجهَك بطاقاتِ مللي / دجلة ُ مع سرادقه البيضاء ينامُ في سفوحي / الحمامة ُ تتآكلُ في طيرانها / أحملُ أوسمة هذياني / الخ……الخ …ثمّ…. ما بين المُقدمة والمُلحقة احدى وعشرون قصيدة. تتفاوتُ طولاً وثيمة، بعضُها حكاياتٌ اثيرية ذاتية تتحَلّقُ آنا في جدلية متماهية، وآناً آخرَغنائية مضبّبة عصيّة لاتفتح سرّها لكلّ أحد. وكلُّ عنوان مُنطوٍ على عوالمه المعقولة واللامعقولة التي تبدو لقارئها شططاً، جنوناً، خرفاً،هذياناً، حكمة َ بَرَد تدقُّ يوافيخنا بوخزات توقظُ احاسيسَنا المُتراخية المُتبلدة من الترهل والخمول.وربّتما لا أذهبُ بعيداً إنْ قلتُ: بعضُ قصائده قصصٌ قصيرة يتوفّرُ لها شرطُها الفني. بكثافتها الصورية ودوالها المُعبّرة / قصائدُ الى قرية شبعين / على سبيل المثال. ص 17 ففيها ايقاع ٌ قصصيّ واضح / ويرحلُ المطرُ حاملاً مخاضَ البحر الى أدراجه، بالعاً جرثومة توحّمه، ثمّ يُسافرُ في البعيد البعيد / كما انّ بعضَ شعره يتمرّغ في الغموض، مُنغلق ٌ ومنطوٍ على ذاته، يصعبُ التغلغلُ فيه وملامسة ُسرّه وسحره / قصيدة: اسطيفانوس راعي المائدة المُتنقلة / نموذجاً.ص25-27: افرشوا رموشَ أعينكم لأزمنة المحبّة / يا قدحاً مثلَ الضلوع / انّ الفريسة مُعلقة ٌ على باب الجلاوزة الصغار / نلبسُ ثيابَ العطش / أرى جدرانَ شمس هزيلة / فهذه الاشراقات المبهمة المُلغزة المتماهية في الإيجاز كما لو كانت ايماضات ترشق رموشَ الرائي مُتخمة ٌ بحدوس رؤيوية مأزومة بغنائية جافة عاتمة لا تُشبهُ الشعر، بل هي محضُ ضربات خاطفة تظهر وتختفي كلمح البصر.أمّا / الظهيرة / ص 28 فقصة ٌ قصيرة جداً، توفّر لها كيانُها وموحياتُها وتناصّها، شحيحة ٌ كلماتُها، ثريّة ٌ ومُمتلئة مُحتوىً: / انطفأتْ سماءُ الظهيرة في أحداق جوعهم، وغارت قامة ُالأرضُ في أحلامهم، يحملون ماءَ الجشع، تكوّرت شهوتُهم كالتل المنفوخ بحجارة أثرية / انها مشهدٌ قصّ يُمكنُ تأويله وتضخيمه ومدّه بتفصيلات اُخرى اذا اقتضتِ الحاجة / لكنّ يوسف سعيد آثرَ الإيجاز كما لو كان صائغَ ذهب يقتصدُ في ضرباته.وفي / ينابيع / ص 29 زمنٌ سُرياليّ متشابك يجيءُ طبقة ً فطبقة ً، تُنتقلُ من واحدة الى اخرى. وتحوّلٌ صوري يتتالى بسمفونية رقراقة. ليّنة وقاسية في آنٍ / الرجولة ُ فقدتْ مدينة َالعقل / باعتْ من دسم الضمير / ستموتُ ويبقى ظلُّ إزارك وارفاً / وفي / زبَدٌ مُنتشلٌ من رصانة العقل / ص 30 تمرّ الصورُ أمام الباصرة جزافية غرائبية جارفة، غريبة وصديقة، قريبة وبعيدة. عالية ودانية في آن / أحتسي من خرير السواقي / الكأسُ تحملُ أحشاء الذبيحة / …. بينما تذهبُ / الهزيعُ الأخير / ص 32 الى منعطف غريب يغرفُ جرأتَه من صوت يخدشُ الفكرَ المأهول بالواقعية، مشوبٍ بحوار هاديء / أترفضُ؟ / لا، لا / حتى لو كان آتيكَ / رماداً، ذهباً، جلجلة ً، خبزاً وخلّاً /.. اوتادٌ لها رحم ٌ مُطأطيءُ اللون / عيناها كحُريّة صدئة / اليست هذه وخزاتٍ توقظ حياءنا وخجلنا النائمين، وتستفزّنا لنتأملَ ونعتمدَ الفكر؟ ولنسمعْ هذه العبارات.. ص 34 / تعالي مع الألوان / سنونٌ أسيرة في حدقة لامرئية / أنا من الشيء اللامنقسم على ذاته / ابتلعُ رُعبي الجائعَ / اندسُ في لحاف الحُلم / يُقمّطُ يديه بدفءِ الضحكة / ولا أظنّ أحداً قبل يوسف سعيد أو بعده سيجرؤ على قول مثل ما قاله. فهذه الصورُ حداثية غيرُ مطروقة ولا تمُرّنَ ببال أحد. ومثلُ ذلك: يشربُ حداثة الماء / ويرتدي تراث البحر / ص 45.وبقية القصائد من ص46 الى ص60 تزدحمُ بهذه الشطحات الخاطفة المأهولة بصور وايماءات لا قبلَ لنا بها. تُباغتنا بالذهول، فنُصغي اليها بعقل ٍمنفتح وصبرٍ فيه مرونة ٌوتأمل: / لماذا تُلبسُ شيخوخة َعمي سروالَ الغروب؟ /.. حبذا لو كانتْ يدي ميناءً لرغباتكم ص 50- 51 / الآبادُ تعيشُ في صيام الصخور / كلماتٌ لها قصبة ٌ ظلُّها رقيقٌ /.. ص 52-53 / للصمتِ كثافة ٌ.. ص56 / أيّها الشعرُ ما أطيبَ ذاتي وهي تتأمل حلمَ الأطفال ؛؛ ص 54 / معذرة ً، لو كنتُ على قدر من الوعي النقدي لأعطيتُ هذا الديوان حقّه الذي يستحقُ، ولم أكنْ حين كتبتُ هذا الإنطباع سوى عابر خجول، قلتُ ما رأتْ عيناي، وما حفظتُه ذاكرتي.السفرُ داخل المنافي البعيدة / في حاجة الى نقد ذي رؤية أكاديمية حصيفة تنغمسُ وتخوض في كل اشعاره ويقوّمُها وفق طرح علمي نزيه. هذا الأبُ الجليلُ باقٍ في شُرفات أيامنا انساناً وشاعراً وروحانيّاً كان يلامسُ احبتَه بحنان أبوي كله رضا وتسامحٌ ودعوة الى التلاحم والتأخي.

عن: القدس العربي