الآثار الغارقة في القرنة.. قصتها ومحاولات البحث عنها

الآثار الغارقة في القرنة.. قصتها ومحاولات البحث عنها

اعداد: ذاكرة عراقية

ذكر عالم الآثار البريطاني سيتون لويد في كتابه “آثار بلاد الرافدين” بأنّ “المنقّب عن الآثار والقنصل الفرنسي الفخري في الموصل بول إميل بوتا بعدما أكمل حملة تنقيب في مدينة خورساباد الأثرية (عاصمة الإمبراطورية الآشورية في عهد الملك سرجون الثاني)في منتصف القرن التاسع عشر، نقل 235 صندوقاً من التماثيل مع آثار مختلفة على قارب وطوافات متّجهة إلى البصرة،

وقرب منطقة القرنة، حيث يلتقي نهر دجلة بفرع من نهر الفرات، هاجم رجال قبائل القافلة، وقلبوا محتويات الطوافات في الماء”، معتبراً أن “ما حصل يُعدُّ كارثة أثرية كبيرة”. وفي مذكراته التي نشرها تحت عنوان “أسس في التراب”، أشار لويد إلى أن “الآثار الغارقة قرب القرنة تكفي لافتتاح أربعة متاحف عالمية.ومنذ غرقها عند ملتقى الرافدين بمنطقة القرنة (شمال البصرة) في 15 مارس/آذار 1855، اختفت تلك الكنوز الأثرية، وفشلت كل محاولات التنقيب في العثور عليها، مما أثار الكثير من التكهنات.

لا تتوفّر معلومات تفصيلية عن الآثار الغارقة، لكن الرسام الفرنسي يوجين فلاندين الذي رافق المنقّب الفرنسي بول إميل بوتا خلال أعمال التنقيب في عدد من المواقع الأثرية في الموصل رسم بعض القطع قبل نقلها وغرقها، وتشير الرسومات إلى أن من بين المفقودات ثيران مجنّحة وألواح حجرية مأخوذة من قصر الملك آشوربانيبال (685-627 ق.م) الذي كان يلقّب “ملك العالم”، وفي عهده بلغت الإمبراطورية الآشورية أقصى امتداد في ضوء هيمنتها على مصر وفارس، علاوةً على قطع أخرى من قصر الملك الآشوري سرجون الثاني (722-705 ق.م)، الذي واجه في بداية حكمه ثورات وتمرّدات هزّت أركان الإمبراطورية الآشورية، ثم بدّدها وسحقها تباعاً.

ونقل عن خبير الآثار سكيل لويد في مذكراته، أن «الآثار الغارقة في القرنة تكفي لافتتاح أربعة متاحف عالمية، ومن بينها 80 صندوقاً تحتوي على آثار من بابل، و 68 صندوقاً وخزانة تضم منحوتات تعود الى قصر آشوربانيبال.”.

الكاتب البصري إحسان وفيق السامرائي أفرد الصفحة رقم 478 من كتابه (لوحات من البصرة) للحديث عن قصة الآثار الغارقة في القرنة نقلاً عن المؤرخ يوسف العلي، إذ أفاد السامرائي بأن “المنقب الفرنسي المعروف بأسم (يوتا) وزميله (فلا ندان) اللذان نقبا في موقع قصر الملك الآشوري سرجون الثاني أرسلا 235 قطعة أثرية على ظهور أكلاك الى البصرة عن طريق دجلة، ولم تصل منها إلا 26 قطعة، وتفيد تقارير فرنسية بأن أسطول الأكلاك استثار طمع الأهالي الذين اعتقدوا أنها تحمل بضائع متنوعة فهجموا عليها وأغرقوا معظمها، إلا أن المنقب عن الآثار والس بدج ذكر في الجزء الأول من كتابه (رحلات الى العراق) أن الأكلاك المذكورة أصابتها رياح عاتية، بحيث أدى تلاطم الأمواج العالية الى تصادمها ببعضها وغرقها، وبالتالي غاصت التماثيل الأثرية في الوحل وفقدت الى الأبد..

إحدى محاولات البحث عن الآثار الغارقة جرت في عام 1956 بقيادة خبير فرنسي، لكن قطع العلاقات الفرنسية العراقية من جراء حرب السويس على مصر أفشل المشروع، ثم جاءت بعثة يابانية في عام 1961برئاسة العالم نامو ايكامى، وأجرت مسوحات دقيقة انطلاقاً من ملتقى دجلة والفرات ولمسافة 7 كم، لكن البعثة لم تعثر على أي قطعة أثرية رغم الجهود المضنية التي بذلتها.

وفي عام 1971، أخذت جامعة طوكيو على عاتقها تنفيذ محاولة جديدة، وأوفدت إلى العراق فريقاً يضمّ خبراء في التنقيب عن الآثار وغواصين وجغرافيين ومصورين، وأجرى الفريق الياباني برئاسة الباحث نامو ايكامى مسوحات جيوفيزيائية انطلاقاً من ملتقى دجلة والفرات في منطقة القرنة، ولمسافة سبعة كيلومترات، مع التركيز على 24 موقعاً محتملاً.

وبعد أربعة أشهر من الجهود المضنية، وصلت أعمال البحث إلى طريق مسدودة، وتسرّب اليأس إلى نفوس أعضاء الفريق الذين كانوا كمَن يبحث عن إبرة في كومة قش هائلة، فغادر الفريق الياباني مطلع عام 1972، ووضع تقريراً يلخّص الجهود التي بذلها على أمل الانتفاع منه في محاولات مستقبلية، ومِمّا جاء في خلاصة التقرير أن “المقابلات مع السكان المحليين لم تساعدنا في التوصّل إلى موقع تقريبي لموضع الغرق”.

يذكر الاستاذ المؤرخ سالم الالوسي:

في مطلع سبعينيات القرن الماضي صدر مرسوم جمهوري بتعييني مديرا عام للثقافة، في حينها اثيرت قضية الاثار الغارقة وأبدت البعثة الاثرية اليابانية استعدادها ووضعت كل ما تمتلك من امكانات فنية عالية ودقيقة لانقاذ الغوارق من القطع التحتيه وارسل اليابانيون فريق علمي متخصص لاجراء عمليات استكشافية بطريقة الذبذبات المغناطيسية يتم بواسطتها العثور على الاماكن والاعماق التي غرقت فها المنحوتات ومن ثم يتسنى سحب الصناديق والخزانات المطمورة من شمال القرنة وحتى جنوبها بعدة كيلومترات وتمت الموافقة بتوقيعي الاتفاقية نيابة عن وزير الثقافة ووقع ايضا مدر الاثار العامة د.عيسى سلمان وجاء فريق كبير من دائرة الاثار في جامعة طوكيو وباشرت البعثة في العمل على مدى شهور الا ان اليابانيون اصيبوا بخيبة امل ولم يعثروا على اي شيء يذكر ولذلك فسرت ان الاثار الغارقة ربما جرفها تدفق المياه الغزيرة وربما تآكلت جميع المنحوتات المصنوعة من حجر الرخام.

يتبنّى أستاذ التاريخ القديم في جامعة البصرة د. عادل هاشم وجهة نظر مختلفة بشأن موقع الحادث، والموقع الذي يرجّحه يبعد عشرات الكيلومترات إلى الجنوب عن الموقع الشائع في منطقة القرنة، إذ يرى أن “الآثار من المحتمل أن تكون غرقت قرب جزيرة السندباد، حيث ملتقى شط العرب وشط الكرمة”، معلّلاً رأيه بأن “عدداً كبيراً من الرحّالة والمستشرقين الأجانب كانوا يظنون اشتباهاً أن التقاء شط العرب وشط الكرمة في منطقة الهارثة هو موقع التقاء دجلة والفرات نتيجة تشابه معالم المنطقتين، ولذلك من المتوقع أن تكون الآثار قابعة في قاع شط العرب بالقرب من منطقة الهارثة، خصوصاً أن جهود البحث التي بذلتها البعثة اليابانية في منطقة القرنة لم تتمخّض عن شيءٍ”.

وأشار هاشم إلى أن “العثور على الآثار الغارقة عملية صعبة ومعقّدة للغاية”، موضحاً أن “تقنيات الاستشعار بالموجات الكهرومغناطيسية مصمّمة لاكتشاف المعادن، والآثار أكثرها قطع حجرية، كما أنها بعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على غرقها قد غارت بعمق بسبب تراكم الأطيان فوقها”.

خلال عام 2012، تولّى هاشم العزام الذي كان مستشار محافظ البصرة لشؤون الآثار إعداد تقرير رسمي عن الآثار الغارقة، وخلص فيه إلى تخمين موقع جديد لحادثة الغرق، وقال لـ”اندبندنت عربية”، إن “القوارب أو الطوافات التي كانت محمّلة بالآثار غرقت على الأرجح قرب منطقة النخيلات الواقعة شمال القرنة حيث توجد هناك انعطافة في مسار نهر دجلة يكون تدفّق المياه فيها أسرع نسبياً”، مضيفاً أن “نسخاً من التقرير أرسلتُها إلى مجلس الوزراء ووزارة السياحة والآثار والحكومة المحلية في البصرة، فضلاً عن مديرية الاستخبارات لحماية الموقع، وبناء على التقرير كان من المؤمل إجراء مسوحات وتنقيبات في الموقع، لكن القضية طواها النسيان الحكومي”.