في ذكرى الأب أنستاس ماري الكرملي..أسرته وأستقرارها في بغداد

في ذكرى الأب أنستاس ماري الكرملي..أسرته وأستقرارها في بغداد

رفعة عبد الرزاق محمد

تبدأ صلة اسرة الاب انستاس ماري الكرملي بالعراق في منتصف القرن التاسع عشر ، فقد كان ابوه مترجما عند امير فرنسي من عائلة نابليون بونابرت، ولتبقى ذكرى هذا الامير حية لديه، فقد اطلق اسم نابليون على احد ابنائه، وقد اكمل هذا الابن دراسته في فرنسا واصبح طبيبا معروفا، كتب العديد من البحوث الطبية،

وقد ترجم شقيقه الاب انستاس بعضها الى اللغة العربية، ونشرها في مجلة (المشرق) البيروتية، قبل ان يدب الخلاف بينه وبين صاحبها الأب لويس شيخو اليسوعي. وتوفى الدكتور نابليون الماريني عام 1925، تاركا كتاباً طريفا عن بغداد، سماه (تنزه العباد في مدينة بغداد)، طبع في بيروت عام 1887م.

وقد رافق (جبرائيل عواد) الامير الفرنسي في رحلاته الى مصر ولبنان وسوريا والاناضول وايران.. والعراق. ويبدو ان رحلاته كانت للبحث عن الآثار القديمة ونقلها الى اوروبا، وقد عرف جبرائيل فيما بعد بنشاط اثاري تجاري كما سنرى. وما ان انتهت مهمته مع الامير حتى قرر ان يستقر في العراق، فاقترن عام 1859 بكريمة احدى الأسر الكلدانية ببغداد، فرزق منها خسمة ذكور واربع اناث. ومن اولاده بطرس الذي انخرط في السلك الديني واشتهر باسم انستاس ماري الكرملي، وكانت ولادته في اليوم الخامس من آب 1866.

ونذكر هنا ان خال الأب انستاس، هو الشماس فرنسيس اوغسطين جبران، المتوفى يوم 28 كانون الاول 1924، كانت له بعض المساهمات الفكرية (الكتاب الذهبي ليوبيل مجلة المقتطف ص129). وقد اشترك مع وجهاء الكلدان في بغددا واسس (مدرسة الاتفاق الكاثوليكي) عام 1878 م في كنيسة الكلدان في مجلة (عقد النصارى). ويذكر المرحوم سامي خونده (المتوفى سنة 1990) انه كان يرتدي طربوشا احمر وعباءة سوداء وذا لحية كثه. وقد خلف ولدا يدعى (نرسي) استخدم في العشرينيات في مديرية البريد والبرق (الايام 12 تشرين الاول 1962).

اشتغل والد الأب انستاس بتجارة القطع الاثرية وبيعها للسواح الاجانب، وكانت اثارنا يومذاك مشاعة للجميع، لا قانون يحميها ولا وعي يدرك اهميتها التاريخية. وكان الرحالة الاجانب يجوبون ارض العراق بحثا عن الآثار واخبارها. ومن الطريف ان احد هؤلاء الرحالة ترك لنا وصفا لوالد الاب انستاس الكرملي.

حدثنا الرحالة الهولندي (نيجهولت) الذي زار بغداد سنة 1866 (وهي سنة ولادة الكرملي) عن شخص طريف تعرف عليه في دير الاباء الكرمليين ببغداد، يدعى الأب ميخائيل، ويقول: وليس في هذا الاسم اية دلالة دينية، وهو ترجمان الدير، وقد قرن بهذه الوظيفة صفة تاجر عاديات وتحف، مما جعل له صلة بجميع الاوروبيين، ولم يكد يغتبط بالبنية التي خلق عليها او ابتلى بها على الاصح.

تصوروا وجها عريضا وفما ضخما مع عينين صغيرتين وكتفين اختلف فيهما العلو والبروز، كل ذلك قائم على ساقين معاديين للخط المستقيم. وخلاصة القول فيه انه راس (كازيمودو) على جسم (تريبوليه) (الاول بطل رواية احدب نوتردام، والثاني مهرج البلاد الفرنسي ايام الملك لويس الثاني عشر).

ومهما يكن من امره، فانه تزوج من فتاة ارمنية جميلة، انجبت له اربعة اولاد، كان يتبجح بتنشئتهم على احسن المبادئ واقومها. وكانت مبادئه في التربية تقوم على الضرب من الصباح الى المساء.. يضاف الى ذلك ان ميخائيل الورع المتدين كان يستند الى آية الكتاب المقدس التي تنص على التأدب، علاقة المحبة الابوية.

كان ميخائبل وكيل الدير الكرملي، يقوم بكل اعماله في الخارج، اما في الداخل فكان يتعهد الكنيسة بالعناية ويخدم في القداس ويقرع النواقيس ويتولى اعمال الترجمة والقيم والمتعهد والشماس.. فكان يبحث عن الاجانب ويتعهد بخدمتهم، كان يشتري لتجارته كل ما يقدم اليه من مواد غريبة كما يعتقد. بيد ان معلوماته الاثارية قاصرة وكثيرا ما كان يقع فريسة الخداع لان البعض تفنن في تقليد العاديات وتزييف الاحجار.

ثم ينقل معرب الرحلة (مير بصري) شيئا عن معاملته في بيع العاديات، حتى يذكر: ان ميخائيل الموما اليه هو والد الأب انستاس الكرملي على ما حققه المحقق يعقوب سركيس، وهو اكثر الناس صلة بالكرملي (جريدة الايام( 8 تشرين الأول 1962).

واخيرا، فان كلمة الدكتور مصطفى جواد على قبر الكرملي ، تغني عن كل قول، قال: الأب انستاس رجل وهب نفسه للغة العربية، فكان باراً بها بر الوالد الصالح بامه و ابيه، عاطفا عليها ايام شدتها وضرائها، حافظا لها ايام كانت هزأة الهازئين وفكاهة الافاكين ، ان في اثاره وسيرته العلمية ما يجعله خالد الذكر ابد الآبدين ودهر الداهرين.

تجلى الامر كله في تنظيمه او تصنيفه معجمه الكبير ( المساعد ) .. ولندع الكرملي يحدثنا عن معجمه الفريد وعمله الجبار فيه وطريقته الجديدة في ترتيب الكلمات وشرحها وغايته القومية النبيلة التي تتحدى اعداء لغتنا وعروبتنا .. فمما قاله تحت عنوان (معجمنا او ذيل لسان العرب).

منذ اخذنا نفهم العربية حق الفهم. وجدنا فيما كنا نطالع فيه من كتب الاقدمين والمولدين والعصريين الفاظا جمة ومناحي متعددة لا اثر لها في دواوين اللغة، بخلاف ما كنا نتعلمه من اللغات الغربية.

فاننا كنا كلما جهلنا معنى كلمة ونقرأ عنها في معاجمهم وجدناها مع معانيها المتفرعة منها، ولهذا رأينا في مصنفات السلف اللغوية نقصا بيّنا، فاخذنا منذ ذلك الحين بسد تلك الثغرة مدونين مالا نجده في كتب لساننا فاشترينا في سنة 1883 محيط المحيط للبستاني ووضعنا ورقة بيضاء بعد كل ورقة مطبوعة فتضاعف حجم الكتاب حالا، واخذنا نقيد فيه كل ما نعثر عليه ثم لاحظنا ان الذي يفوتنا اكثر مما نحرص على التمسك به، وكنا نعلل النفس بان يتم هذا المجموع عن قريب فنطبعه وسميناه منذ ذلك الحين ، (ذيل اللسان) لاننا وجدنا ابن مكرم او في كتب اللغة التي بايدينا ومن الغريب ان صاحب تاج العروس الذي نقل شيئا كثيرا من لسان العرب فانه قدر عظيم مما جاء في (اللسان) مع ان السيد مرتضى استدرك الفاظا كثيرة جمعها من طائفة من المؤلفين وهي ليست في اللسان وذهل عما في هذا السفر الجليل.

ثم اننا رأينا من الحسن ان نجمع ماتيسر لنا من الفاظ الفصحاء الاقدمين وكلم المولدين ومفردات العوام وننبه على كل حرف من هذه الحروف لكي لايختلط الشيء بالشيء فيبقى الدر درا والبعر بعرا على حد مافعل صاحب القاموس والتاج وغيرهما من الذين ذكروا المولد بجانب الفصيح كلما سنحت لهم الفرصة، اذ كانت الغاية الاولى من جميع تلك الكتب اللغوية تفهم القرآن والحديث لاغير، اما اليوم فان حاجتنا اتسعت بتبحر العمران والحضارة واحتكاكنا بالاجانب، ومحاولة هؤلاء قتل لغتنا فقتل قوميتنا فقتل كل مايتعلق بهذه الربوع الشرقية العزيزة، مهبط الوحي ومصدر العرفان ومنبع التمدن الصادق الى ان يقول (وفي كل ما فعلناه جارينا لغويي الغربيين الذين لايتركون لفظة من لغتهم الا ينبهون على اصلها وفرعها ومآخذها ومصدرها اما معاجمنا اللغوية الحديثة التي القت منذ قرن او اقل منه فانها تشهد بالجمود او بالموت اللغوي اذ كلها تجري على الطريقة القدمى، ولا نرى فيه شيئا من اثار البحث الجديد الذي امتاز به اهل المائة الماضية او اهل هذا القرن من ابناء الغرب.ومن المؤسف ان هذا المعجم النفيس الذي راى النور في جزئين مازالت بقية اجزائه المهمة النافعة خطية مبعثرة في اوراق مشتتة في جزازات تنتظر همة وجلد المحققين والمدققين وامكانيات الناشرين المادية شأنه شأن بقية مؤلفات علامتنا الكرملي الخطية التي ذكرها الاخ الاستاذ كوركيس عواد في ص 232- 240 من كتابه القيم، الاب انستاس ماري الكرملي حياته ومؤلفاته وهي مؤلفات تاريخية ولغوية وفولكلورية مهمة جدا تقع فيما يقارب الاربعين مخطوطا ان دل اهمالها طوال هذه المدة الطويلة على شيء فانما يدل على جحودنا (العملي) لجهود علمائنا الاعلام رغم اهتمامنا (النظري) بهم وباثارهم.