جابر عصفور.. جسر وصلٍ بين الأجيال العربية

جابر عصفور.. جسر وصلٍ بين الأجيال العربية

الكويت – طالب الرفاعي

قلة أولئك الذين يُكتب لهم أن يحضروا متى من ذُكرت أوطانهم، أولئك الذين تركوا بصماتهم الفكرية والإبداعية على خارطة ذلك الوطن. ومؤكد أن الأستاذ الدكتور جابر عصفور هو أحد هؤلاء. بوصفه مفكّراً وناقداً، وبوصفه محرّكاً ثقافياً أدبياً، ليس على مستوى مصر ولكن على مستوى أقطار الوطن العربي كافة، وعلى مستوى روائي وقصاصي وشعراء ومسرحي وفناني الوطن العربي.

نحن في الكويت لنا معرفتنا الخاصة وحصتنا الإنسانية الباقية بالدكتور جابر عصفور، فيوم وصل لجامعة الكويت دكتوراً لمادة الأدب في كلية الآدب، قسم اللغة العربية وآدابها، يومها لم يكتف بأن يضف الكثير من فكره وعلمه وجهده الأكاديمي لكلية الآداب وزملائه الأستاذة وطلابه، بل عقد الراحل صلات وصلٍ مع مختلف مؤسسات وهيئات وأفراد الجسم الثقافي، سواء عبر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أو رابطة الأدباء الكويتيين، أو إصدارات المجلس الوطني، كسلسلة عالم المعرفة، وعالم الفكر، والثقافة العالمية، وكذلك عبر وجوده البهي بقلمه على صفحات مجلة "العربي"، إضافة إلى علاقاته الإنسانية الرائعة مع جميع الأدباء، ومن بينهم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل والكاتبة ليلى العثمان والدكتور سليمان الشطي، والدكتور سليمان العسكري وغيرهم كثير.

توطّدت علاقتي بالدكتور جابر يوم كان الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وكنت أنا كاتباً روائياً ومديراً لإدارة الثقافة والفنون في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ولا أظنني مبالغاً إذا ما قلت بأن واحدة من أهم فترة عطاءات ونشاط الدكتور جابر جاءت خلال وجوده في المجلس الأعلى للثقافة. فلقد جعل من مؤتمرات المجلس الأعلى للرواية والقصة والشعر والنقد والمسرح وباقي القضايا الفكرية، جعل منها لقاءً عربياً جامعاً يلتقي فيه العديد إن لم أقل معظم مفكري وأدباء الوطن العربي، يجتمعون حول مائدة الإبداع والثقافة في وقت كان يعزّ فيه لقاء العربي بالعربي بالنظر إلى الظروف السياسية البائسة والمؤلمة.

سيحفظ التاريخ العربي الأدبي للدكتور جابر عصفور موقفه النقدي من قضايا الرواية والتنوير وصلة وصلهما بالحرية والإنسان، فلم يتهيب الدكتور جابر يوماً من قول كلمة الحق، وكانت كتبه ومقالاته صرخات فكرٍ وحق في وجه ظلم الأنظمة الدكتاتورية العربية العاتية.

إن الإرث الفكري والنقدي والإنساني الذي تركه الدكتور جابر عصفور سيبقى ما بقي المبدع والمثقف العربي، صحيح أن الساحة العربية ستفقد برحيله قامة فكرية وثقافية يصعب تعويضها، فقلة أولئك الذين يستطيعون أن يمدّوا علاقاتهم لأبعد بكثير من بقعة وجودهم الجغرافية، ومن ثم يفعّلون تلك العلاقات بما يأتي ثمارها. فقلم دكتور جابر النقدي تقاطع مع معظم عطاءات الروائيين العرب، وقدمهم عبر مقالاته على صفحات جريدة الحياة اللندنية للقراء على طول وعرض الوطن العربي. ولم يكن يفرّق في وصله بين عربي وعربي، بل كان العمل الروائي المبدع هو بغيته، وأذكر أنني في حديث لي معه، بعد كتابته عن إحدى رواياتي، قال لي: "يا طالب حين أقرأ عملاً روائياً جديداً، وأرى فيه إبداع وجدّة، أفرح كثيراً، وتحتفي نفسي به، وأرى أن الواجب الإبداعي والأدبي يملي عليَّ أن أكتب عنه، لأعرّف به، وأقدمه للساحة العربية، وأسعى لاحقاً للتواصل مع صاحبه، رجل كان أو امرأة، مخضرم كان أو شاب".

الدكتور جابر عصفور، وفي مؤتمرات الرواية العربية، وجائزتها التي ولِدت بين يديه ومن أم أفكاره، في تلك المؤتمرات كان دكتور جابر يجهد ليوزع نفسه بين جميع المحاضرات، وبين جميع الضيوف، وبين جميع من حضر. وهو لا يكتفي بذلك بل لابدَّ من أن يحتفي بضيوفه الأخص في موائد نهر النيل الأجمل، وتكون عامرة بالنقاش والأفكار والصلات الإنسانية الأطيب.

لم يغب الأستاذ الدكتور جابر عصفور عن أهله ووطنه مصر، ولم يغب عن أخوته وأصدقائه في وطنه العربي الكبير، بل أن العالم الحر، العالم إنساني النزعة، العالم الذي يتخذ من الأدب والفن رافعة تعين الإنسان على تحمل قسوة الحياة، سيفتقد حضور ونشاط ومشاركات الدكتور جابر عصفور إنساناً ومفكّراً وناقداً ومحرّكاً ثقافياً قلَّ مثيله.

لروح الصديق العزيز والأخ الأكبر الأستاذ الدكتور جابر عصفور رحمة واسعة ومغفرة كبيرة، ولها سلامها الأبدي، ولنا في مصر العروبة كل الآمال بميلاد الكثيرين من المفكرين والأدباء الذين يشكّلون امتداداً إنسانياً بفكر وعلم وأدب الدكتور عصفور، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.