في مواجهة غروري

في مواجهة غروري

سيد محمود

كان لقائي الأول بالدكتور جابر عصفور في العام 89 بعد عودته من الخارج بعد ان كلفته الجامعة بتنظيم مؤتمر تكريمي لنجيب محفوظ عقب حصوله على جائزة نوبل ، وأظهر ذلك المؤتمر قدراته الاستثنائية في التنظيم وتم تكليف عدد من الطلاب بالعمل متطوعين كمرافقين لضيوف المؤتمر وكنت مرافقا للناقد التونسي توفيق بكار .

آنذاك كنا نخاف من مجرد ذكر اسم عصفور و نعمل ألف حساب لمروره المفاجىء في الممرات ،لأن مكانته العلمية رغم صغر عمره كانت كبيرة ولديه نبرة تهكمية معروفة سعينا دائما لتجنبها.

كانت صديقتي الشاعرة أمل فرح التي قادت خطواتي الأولى لا تكف عن تعداد مآثره ورسمت أمامي صورة لأستاذ يندر أن يتكرر وحين وجهت لي دعوة لحضور محاضراته لأتأكد بنفسي ، أدركت أنها لا تبالغ أبدا وبعدها طلبت منه أن أحضر محاضراته فرد متهكما : " أنت فاكراها سيما بالحجز ، أنت طالب في قسم التاريخ ولو حضرت لازم تقرأ المقرر وتشارك في التحضير ، مش ناقص علل في المحاضرة " فقبلت الأتفاق وشاركت بفعالية أكبر في النقاش وكنا ندرس ترجمته لكتاب رامان سلدن عن النظرية الأدبية المعاصرة وعلى الرغم من الطابع التعليمي للكتاب إلا أن فائدته لا تقاوم وبقيت حريصا على أن اعرف أكثر من غيري ومواصلة القراءة فى مراجع وكتب أخرى تقديرا لثقته التي غمرني بها .

عقب تخرجي عمل صديقي صالح راشد معه في مجلة "فصول" وكان لا يكف أيضا عن الإشارة لفتنة النقاش معه ، وبعد أن تولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة أغراني صديقي بالتقدم لوظيفة هناك ومن الطريف أنني فزت بالوظيفة بينما لم تقبل أوراق صديقي وقد كان أحق مني بها .

عقب شهور في الطواف بالمكان الذي أحببت حديقته ومكتبته المليئة بالكتب القديمة التي لم أتوقف عن استعارتها ، أدركت أن المكان متخم بالبيروقراطية التي يستحيل معها التطور فتوجهت للكتابة الصحفية الحرة .

بمعايير البيروقراطية كنت موظفا مثاليا ، أحضر للتوقيع ثم أغيب وأضيع في شوارع الزمالك وأعود عند نهاية اليوم للتوقيع في كشف الانصراف وبقيت هكذا إلى تم ضبطي متلبسا وشكتني مديرتي للأمين العام فوجدت نفسي في مواجهته لأول مرة ، غير أنه تذكر ملامحي وحماسي للنقاش معه في المدرجات وعاملني معاملة الابن. حررني من سلطة المديرة وبقيت ممتنا لهذا التقدير إلى أن تركت الوظيفة وتفرغت للصحافة بشكل تام وكانت سعادته كبيرة حين انتظمت في الكتابة في صحيفة " الحياة " التي كان يكتب فيها أسبوعيا ويقرأها بانتظام .

وعلى الرغم من مشاغباتي له والانتقادات التي وجهتها لأساليب العمل في المكان ظلت محبته قائمة وفي كثير من الأحيان يلفت نظري إلى أنني صرت محسوبا عليه وبالتالي ينبغي أن أفكر كثيرا وأنا انتقد زملاء آخرين يعملون معه في مواقع أخرى بالوزارة ، لكنه لم يتدخل أبدا فيما أكتب بالسلب أو الإيجاب .

كان أكثر ما يهتم به فيما أكتب ، قراءاتي للأعمال الأدبية التي لا يعرف أصحابها وكان دائم الاتصال للسؤال عن كتاب من أجيال أصغر وإذا راق له عمل يرشح صاحبه للمشاركة في أول مؤتمر أدبي يعد له وفي أحيان أخرى كان يكتب عن كاتب شاب لتكريسه وهكذا فعل مع خليل صويلح وخالد خليفة وعلى بدر وآخرين اتصل بهم من خلالي

كانت هذه ميزة رئيسية من مآثره الكثيرة كونه كان مطلعا ولم تمنعه قيود الوظيفة والتزاماتها من حرصه على الكتابة والمتابعة .

ساعدت المؤتمرات التي أقامها في زيادة وعي وتنمية علاقاتي المهنية وظلت أبواب مكتبه مفتوحة لي وللاصدقاء من حولي ،لا نشعر معه بالغربة أو بالمسافة التي تجعلنا متحفظين أو محافظين ، لأن ثقتنا كانت دائما في وعيه التقدمي وفهمه العميق لدور الأستاذ القائم على تنمية الحس النقدي دون خوف أو تردد وبالتالي كان النقاش معه يقوم على الندية ومتعة الاكتشاف وفي وقت مبكر منحنا الثقة التي كنا نحتاجها لنرسم خطوتنا الأولى .

وحين جاءت الثورة وتورط في اختيار خاطىء لم يحرمنا ابدا من حق مراجعته وانتقاده ، لأنه لم يكن بحاجة إلى منصب وحين استقال حسبت استقالته بمثابة انتصار شخصي وحين اعتزل الناس في دراما ما بعد الثورة كنت أحرص من أي وقت آخر على التواصل معه والجلوس في بيته مستمتعا نقاشاتنا حول أعمال أدبية نحبها. ولاتزال نسائم صيف جميل غمرتنا ونحن نتحدث عن أمل دنقل في بلكونة منزله الخلفية تملأ روحي بالسكينة .

وحين عاد للوزارة في 2014 اختارني لرئاسة تحرير جريدة القاهرة التي تصدرها الوزارة وأشهد أن دعمه لم يتوقف أبدا وبفضل هذا الدعم باشرت العمل لنحو عامين ونصف وبعد ابعاده عن الوزارة ظل دعمه قائما إلى أن اخترت الاستقالة حين تعقدت علاقتي مع أحد الوزراء الذي أخبرني آنذاك أن مقال كتبه الدكتور جابر في " الأهرام " حول مادة كتبها في "الحياة" عن رواية مجهولة لطه حسين تسبب في ضغوط على الوزير من جهات مجهولة لم يذكرها لإبعادي عن المنصب

أعفيت الوزير وغادرت موقعي وكتبت استقالة وبقيت في قلبي غصة من أستاذي الذي دعاني إلى بيته وطلب مني العودة للصحيفة لكنه أخفى عني ما كتبه في المقال رغم إلحاحي على قراءته.

وعلى الرغم من أنه حاول بعدها ترضيتي ، إلا أن غضبي كان كاسحا وحال غروري دون أن أكون إلى جواره وهو يهيئ نفسه للمغادرة وحين بلغني خبر موته بكيت بقسوة ، وتذكرت يده التي امتدت للمصافحة وأبعدتها عني إلى الأبد .