كنت صديقا لنوري السعيد .. وهذا سبب صراعه مع عبد الناصر*

كنت صديقا لنوري السعيد .. وهذا سبب صراعه مع عبد الناصر*

حاولت مرارا ان احمل نوري السعيد على كتابة مذكراته،لكنه كان يبرر ذلك قائلا (التاريخ سيدافع عني ) ، واذا كان هذا رأي (الباشا) فانه ينطبق ايضا على الوصي عبد الاله وكذلك الملك فيصل الثاني ، فعبد الاله كان مشغولا باستقبالات الليل والنهار واثارة الخصومات بين هذا وذاك ولم يعد له الوقت الكافي لكتابة مذكراته ،اما الملك فلم يستغرق حكمه سوى سنوات قليلة، كان خلالها اسير سياسة وتوجهات خاله ومن ثم فانه لم يترك شيئا يذكر.

كان مكتبي في دار الاذاعة (كمدير عام للدعاية) قريبا من بيت (الباشا) واعتاد الاخير ان يهاتفني ليدعوني الى مائدة عشاء في الساعة الثامنة من كل مساء ، حتى انه في بعض الاحيان كان يطلب الي سرعة المجيء وهو يردد عبر الهاتف (هاي وينك اني جعت) ، فاضطر الى لملمة اوراقي كي اكون عنده في الموعد الذي اعتدنا عليه ... واثناء العشاء يحكي لي نوري السعيد ذكريات عمله السياسي واراءه في قضايا الساعة ـ سواء كان يحكم او خارجه ـ وكذلك يطلب مني ان اتصل غدا بالوزير الفلاني لاساله عن قضية ما وماذا تم فيها ، او اتصل بسفارة عربية واجنبية لاحدد لهم مواعيدهم مع (الباشا) ، حتى اعتاد السفراء على ذلك ، وكانوا يتداولون فيما بينهم ، ان مقابلة نوري السعيد عن طريق خليل ابراهيم افضل واسرع من ذهابهم لوزارة الخارجية والاخيرة تكتب لمجلس الوزراء حول تعيين موعد لرئيس الوزراء مع السفير الفلاني فصار البعض منهم اصدقائي وبالمقابل كنت اتصل بالخارجية لاعلمهم ان (الباشا) سيقابل احد السفراء يوم غد!
كان هناك صراع متفاقم بين الامير عبد الاله ولي العهد ونوري السعيد ،فالوصي واعوانه ،وكل اعداء نوري السعيد ، كانوا يوحون للاول ان الثاني صار خطرا عليه ولابد من التخلص منه فاستجاب الوصي لهذه المشورة وشاكس السعيد حتى صار يتدخل في الصغيرة والكبيرة حتى بعد تتويج الملك فيصل الثاني مع ان الدستور كان ينص ان (الملك يسود ولا يحكم) ،ولكنه كسر هذه القاعدة فكان يتصل بمن يريد ونوري يرفض ويعد ذلك تحديا لمسؤولياته ، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون ، فقد تسلم السعيد اشعارا من اكثر من سفارة عربية واسلامية ان شيئا ما سيحدث في العراق وخلال شهر تموز بالذات ، وتسربت هذه المعلومات الى عدد من الوزراء وكبار مسؤولي الدولة ، وتعرف السعيد على اسماء قادة الثورة الذين (يتآمرون على النظام) وكان من بينهم عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري فارسل علي جميل المدفعي خال سري وفاتحه بالامر فنفى ان يكون لابن شقيقته ضلع بذلك فرد عليه (جميل تره ذولة سينبشون قبر ابوي وابوك .. شوف راح شيصير)؟ واكتفى بعد هذه المحادثة بنقل سري الى مكان خارج بغداد!
في يوم ثورة 14 تموز 1958 سمعت في البيت بيانات اليوم الاول للثورة كلها وكنت بانتظار من يعتقلني ، وفجر اليوم الثاني تحقق ما كنت اتوقعه ، فقد اعتقلت وامضيت مدة دامت عدة شهور كنت خلالها امضي ايامي مع زملاء واصدقاء واعداء جمعتنا المحنة معا في مكان واحد وقدمت الى محكمة المهداوي كشاهد على غازي الداغستاني ، وليس كمتهم في قضية هامشية لا تشكل خطورة على امن الدولة ثم اطلق سراحي بامر من عبد الكريم قاسم الذي قال لي في مكتبه بوزارة الدفاع وهو يستقبلني (اني اعتقلتك حتى احميك).
في يوم الثورة رفعت شعارات مؤيدة للرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو اكثر خصوم النظام الملكي واركانه وفي مقدمتهم نوري السعيد .. المشكلة الاساس بين العراق ومصر تعقدت بعد ابرام حلف او ميثاق بغداد ... عبد الناصر اعتقد ان الحلف موجه ضد سياسته بالذات ، وحاول السعيد شرح وجهة نظره عبر عدة لقاءات سرية او علنية فلم تنفع وكان المصريون يقتنعون بوجهة نظرنا احيانا ويرفضونها في احيان اخر ، واضيف ان الصحافة المصرية اسهمت الى حد بعيد في اتساع شقة الخلاف بين البلدين من خلال نشرها محاضر الجلسات السرية بين الوفدين العراقي والمصري وقد اعترض نوري السعيد على ذلك فلم يلق اذنا صاغية!
كان نوري السعيد يحتفظ بمسدس صغير في جيبه يلازمه في جولاته وتنقلاته ، حتى ان عبد الاله كان يتندر عليه قائلا له (اللي يريد يضربك اربعة هنا والخامسة هناك وانت متكدر ادافع عن نفسك) وصادف ان سافر الى القاهرة وكان المسدس معه وهو بلا حزام وفي المطار واثناء الاستقبال ارتفعت سترته الى الاعلى فظهر المسدس ونشرت الصورة كل الصحف والمجلات المصرية انذاك!.
كنت في (سرسنك) خلال تلك المدة عندما وصلت برقية مستعجلة من القاهرة تفيد ان (الصاغ) صلاح سالم ممثل ثورة تموز (يوليو) يود مقابلة المسؤولين العراقيين ، وطلب مني السعيد العودة الى بغداد لاستقبال سالم في المطار ونقله الى سرسنك مع اعضاء الوفد بطائرة خاصة ليجري مباحثات معنا بحضور الملك فيصل الثاني ووصيه عبد الاله وتم ذلك فعلا.
*وبدأ الاجتماع وطرح (الباشا) وجهة نظره انذاك وهي ان العراق لا يضمر عداوة لمصر الناصرية ، وان حلف بغداد ليس موجها ضد أي قطر عربي بقدر ما يشكل ضمانة للعراق بوجه (الشيوعية) ، وكان حلف بغداد يضم فضلا عن العراق كلا من ايران ، تركيا وباكستان. ثم اوضح لصلاح سالم انه بعث عدة برقيات الى القاهرة عبر سفارتنا هناك اكد فيها ان الحلف لن يوجه ضد مصر بالذات بقدر ما هو يحقق مصالح مشتركة بين الدول المتحالفة لكن صلاح سالم قال اننا لم نتلق من السفارة العراقية أي ايضاح حول هذا الموضوع بالذات ، فدهش السعيد والتفت الى سفيرنا في القاهرة نجيب الراوي قائلا له (نجيب ... لماذا لم تسلم الجهات المصرية المعلومات التي وصلت اليك (؟ فتلعثم محاولا تبرير موقفه وهو يردد (لا باشا ما ادري) فنهره بعصبية (اسكت ، اسكت ) فسكت الراوي بينما احتدم النقاش بين السعيد وصلاح سالم الذي كان
لقد سرقت بالكامل في اعقاب اندلاع ثورة 14 تموز 1958 ونقلت الى عاصمة عربية هي القاهرة ويوم اعتقلت ضمن من اعتقلوا صبيحة 14 تموز من رموز النظام الملكي علمت ان الوثائق سرقت فعلا وسلمت الى السفارة المصرية في بغداد ونقلت الى القاهرة فورا .
خليل إبراهيم ( مدير الدعاية العام سنة 1958 )

من أوراق حزب الاتحاد الدستوري المحفوظة لدى الدكتور عماد عبد السلام رؤوف .