حكمت سليمان في أيامه الاخيرة..كيف تأسس حي جميلة في بغداد

حكمت سليمان في أيامه الاخيرة..كيف تأسس حي جميلة في بغداد

د .عكاب يوسف الركابي

فضل ، حكمت سليمان ، السياسي المخضرم ورئيس الوزراء في انقلاب سنة 1936 ان يعيش على هامش الاحداث في أواخر العهد الملكي ، بالرغم من توفر اكثر من فرصة تهيأت له ، لتجعله في الموقع الحكومي الاول ، الذي كان يصبو اليه ، ويبدو أن جريرة انقلاب عام 1936 وشخصيته عدوه ، نوري السعيد ، النافذة في تلك المدة ،

ظلت شبحا ً يخيفه ُ ويلازمه حتى انفضاض ذلك العهد ، في صبيحة اليوم الرابع عشر من شهر تموز عام 1958، عندما أعلن عن سقوط النظام الملكي في العراق وقيام الجمهورية فيه ، فقد دخل ، حكمت سليمان ، بمشاكل جديدة في عهد النظام الجديد ، تتعلق بما كان يمتلكه من أراض ٍ زراعية واسعة جدا ً وعقارات ارادت الحكومة السيطرة عليها أو شرائها ، كما فعلت جمعية بناء المساكن للمعلمين ، في بغداد التي كان يرأسها ، الدكتور يوسف عبود ، عندما اشترت مساحة ارض بمبلغ مليون وربع المليون دينار في عام 1959 من أراضيه ، لغرض تأمين قطع ارض سكنية لذوي الدخل المحدود ، وكانت الجمعية قد سددت الى الطرف البائع ( حكمت سليمان ) مبلغ نصف مليون دينار ( عربونا ً) ، وبقي له أكثر من نصف مليون دينار ، بذمة الجمعية عن بقية ثمن الارض .

وعندما ، عجزت الجمعية ، عن تسديد ما تبقى بذمتها من ديون ، وبعد إخطـار حكمت لها بوساطة المحاكم ، تشبثت الجمعية لدى الزعيم ، العميد الركن عبد الكريم قاسم ، الذي استدعى حكمت سليمان وقال له : (( ان لك اكثر من نصف مليون دينار في ذمة الجمعية عن بقية ثمن الارض ، وانك مطلوب للدولة عن ضريبة الدخل ، مبلغ ثلاثمائة وعشرون الف دينار ، فأحسمها من المبلغ الذي لك على الجمعية ، وما يتبقى تسدده لك الجمعية وتقرر أنت الارض لها )) .وقد تم تنفيذ هذا الامر ، وسجلت قطعة الارض للمشاركين ، وسمي هذا المشروع ، بمدينة جميلة ، على اسم ( جميلة بوحيرد ) المناضلة الجزائرية .

تجربة متميزة تلك التي خاضها، حكمت سليمان، في السياسة العراقية ، اذ انه جعل، السياسة، تتقرر في ثكنات العسكر، وجعل رجال الجيش، يجلسون على كراسي السياسيين، ولقد أدرك خطورة فعلته، فكان يلومُ نفسه كثيرا ً في آواخر حياته .

وان كان هناك ما يختم به الحديث عن ، حكمت سليمان ، فأرى ان اقتبس فقرتين مما قاله شاهدي عيان بحقه ، اذ كتب الاول ، ما نصه : (( حدثني احد المتصلين ، بحكمت سليمان ، في أعوامه الاخيرة ، انه كان يصفق يدا ً بيد ، ويقول متلهفا ً ( انا الجاني انا المسؤول ، لقد كنت أول من أقحم الجيش في السياسة ، فسننتُ سنة ً عادت على البلاد بالويل والثبور ) )) ، وكتب الشاهد الثاني : (( شاءت الصدف في العام 1964 أن ألقي ، حكمت سليمان ، وجها ً لوجه ، وقد أناف السبعين ، في دائرة الكاتب العدل في بغداد ، وفي بناية المحاكم القديمة ، كان ، حكمت ، يحتل كرسيا ً في زاوية وبدا لي كالتمثال جامدا ً لا يأتي بحركة من اعضائه ، حتى بعينيه اللتين بدتا متحجرتين تبحلقان في فراغ ، الا انه ، بطبيعة الحال ، لم يكن يبدو كأولئك المصابين بالسل ، ولا سيما بعد مرور اكثر من عشرين عاما ًعلى التشخيص الطبي الذي قام به سندرسن باشا ، مع ذلك فقد بدا لي بوجنات وجهه البارزة، وبشرته البيضاء وعينيه المتقاربتين، وملامحه القَفْقَاسِيّة الخالصة، شبحا ً منفرا ً من اشباح الماضي وراعني منه ، رقبته اللولبية ، التي كانت تدير رأسه بين فترة وأخرى بحركة بطيئة رتيبة لولبية تذكرك بحركة الدمى ولعب الاطفال )) .

ويبدو مما تقدم ان حكمت سليمان بدا متأسفا ً ومتألما ً لتجربته القاسية في عام 1936 ، وما تلاها من احداث ، وانه أبدى هذا الاسف واللوم ، حينما غدا كهلاً لتشهد بغداد من ثم وفاته ، التي حضرها عبد الرزاق الحسني ، فرواها على الشكل الاتي : (( في حزيران من عام 1964 ، توفي الزعيم الهندي الكبير جواهر لال نهرو ، فأقامت السفارة الهندية في بغداد مجلس عزاء دام اربعين يوما ً، وبعد اتمام زيارة السفارة من قبلي ، قصدتُ دار السيد ، حكمت سليمان ، في الصليخ ، للزيارة ، ولمّا علم صاحب الدار – أي حكمت – الجهة التي اتيت منها ، وجّه لي عتابا ً مُراً لِعَدم اصطحابه الى المجلس المذكور( ويبدو ان حكمت سليمان ، حتى في اواخر ايام حياته ، ظل حريصا ً على ان يبقى موجودا ً ومساهما ً في جملة الاحداث )، ، فقلت له يا عم ان مجلس العزاء موضوع البحث مستمر لمدة اربعين يوما ً، وساكون في خدمتك صباح الغد السبت ، السادس من حزيران، لأداء الواجب وتقديم التعزية ، وفي صباح هذا اليوم، جاءني سائق سيارة ، حكمت سليمان ، وصحبني الى داره ، وكان ، حكمت ، يتناول فطوره ، وبعد ان دخل الحمام ليغسل يديه، وما كاد يخرج منه حتى سقط بين الحمام والغرفة ، اذ توفي على اثر نوبة قلبية حادة أصابته وقتذاك وانصرفتُ الى نعيه ، وفي عصر يوم الوفاة، كان الناس ينتظرون الفراغ من تغسيله ، ومما ذكره الحسني عند تغسيل حكمت سليمان ما نصه (( وفي عصر يوم الوفاة كان الناس ينتظرون الفراغ من تغسيله لتشييعه واذ بالشيخلي ، احد المغسلين ، يخرج من الحمام ليقول لي ، ان الكفن لا يكفي لتكفين المتوفى ، وكان حكمت ، رحمه الله ، طويل القامة ، فدنوت من العلامة نجم الدين الواعظ ونقلت له ما قاله الشيخلي فوضع قبضة يده على لحيته )) ، وقال (( ولدي الكفن المستحضر هو كل ما يستحقه المتوفي من حطام الدنيا ، فلا يمكن شرعا ً اضافة شيء اليه …. وقلت له ….. يا عم وما التدبير ؟ ايجوز ابقاء القدمين خارج الكفن ؟ فمسك لحيته )) ، وقال (( ان العادة جرت ان يكون الكفن من الخام ، ذي الاربع طيات ، فخذوا من العرض واضيفوه الى الطول بعد ربط الاضافة بسليّ النخل ، اذ لا يجوز الخياطة بالابرة والخيط )) فتم بعد ذلك تشييعه بموكب مهيب الى مقبرة الامام الاعظم )) ، وكانت وفاته الساعة التاسعة صباحا ً من يوم السبت ، الموافق السادس من حزيران العام 1964.

عن رسالة ( حكمت سليمان ودوره في السياسة العراقية )