رودان وكلودِل.. قُبلة المفكر ومداولات الفكرة

رودان وكلودِل.. قُبلة المفكر ومداولات الفكرة

مريم الزرعوني

يعد النحات الفرنسي أوغست رودان أبو النحت الحديث، على اعتباره أحد أنجح الفنانين تأثيراً وانتشاراً في أواخر القرن التاسع عشر. إنّه المرفوض عدة مرات من معهد الفنون الجميلة بباريس، والمتأثر بالمنحوتات الكلاسيكية المجسدة للميثولوجيا الإغريقية، زار إيطاليا واستلهم من مايكل أنجلو أجساده المفتولة، ومن دانتي تأويلاته لمُجريات الجحيم، فصنع لنفسه خطه المختلف مميّزاً أعماله بالملمس الخاص، والسطوح المتباينة، كما سلّط الضوء على التعبير والحركة، فكان أهم الانطباعيين على الإطلاق في فنّ النحت.

ولعلّه عُرف بأحد أشهر منحوتاته، المفكّر، الذي أنجزه بنسخٍ عديدة، بين البرونزية والجبسية، لكنّ المفكّر في الأصل لم يكن عملاً منفرداً بذاته، كما أنه لم يكن بهذا الاسم، فقد عرف مبكّراً بالشاعر، في إشارة إلى ملهمه «دانتي»، وكان أحد التماثيل الرئيسة في العمل الأضخم للنحات «بوابة الجحيم» الذي تقرر إنجازه كمدخل للمبنى الجديد لمتحف الفن بباريس، استغرق نحته سبعاً وثلاثين عاماً بمئة وثمانين تمثالا، اشترك فيه رودان ومساعدوه، وعلى رأسهم تلميذته نحاتة الحجر الفائقة، كاميل كلوديل.

وهنا يستوقفني لرودان عملٌ بعنوان «فِكر»، يستدعي التعريج على العلاقة التي جمعته بكاميل النحاتة العشرينية العاشقة لمعلمها الذي يكبرها بأربعٍ وعشرين عاماً.

العمل النحتي الصّلب، الناصعِ الحُزن، قطعة رخامية لا يتجاوز ارتفاعها أربعة وسبعينَ سنتيمتراً، سَجن فيها النحات تلميذته المثابرة وعاشقته المضطربة كاميل، كفكرة حب عابرة كما أرادها، داعمة لإبداعه، وشاحذة لأفكار فريدة في ذهنه، وحُلماً تحت الطلب يُؤْوي إليه رغباته، ومنهلاً يجدد به شباب روحه، فجمّد ذلك كله في الرأس الرخامية الصقيلة الناتئة من مكعبٍ حجري فظ.

لقد تقمّص النحاتُ المفكّرَ، فرفض الفكرة بعد زمن المداولة، وصاغ ذلك في الحجر المشحوذ بإزميل القسوة والصرامة.

فكرة الحجر هذه تشي بالرفض الذي واجه به النحات تطلّعات معشوقته، فحال بينها وبين ما تصبو إليه، معه كشريكة ومع الفن كنحاتة حاذقة تخطت معلّمها. وقد نفذ رودان «فكرة» قبل عام واحد من انفصاله عن كاميل، بعد علاقة دامت عشرين عاماً.

أما المنحوتة الثالثة الفارقة، والتي تستدعي وقفة التأمل، لصلتها الضمنية التي افترضها بمجريات العلاقة بين النّحاتَيْن، هي «القُبلة»، لحظة أسطورية جمعت العاشقة الآثمة فرنشيسكا ريميني مع شقيق زوجها باولو الوارد ذكرهما في القصيدة المطولة للشاعر الإيطالي دانتي. فيبدو لي أن رودان اتخذ في الحياة موقع فرانشيسكا بشكل من الأشكال في علاقته الخاصةّ مع تلميذته ومعشوقته كاميل، فقد رسبت صورة الشعر ومخيّلة الشاعر في وجدانه المتقدّم، فتصّرف وفق السَّكْرة، ولعلها طالت. ولمّا حانت الفكرة، ارتدى لها ما يناسبها من الحكمة، وكأن التخلي قد تملّك وجدانه في الزمن المتأخر، عندها صارت كاميل تعاني اضطراباً أودى باتزنها النفسي والعملي، فقد تفاقمت تداعيات الحبّ والهزيمة لديها ما أدى إلى إيداعها المصح العقلي الذي قضت به سني عمرها إلى حين وفاتها.

عن جريدة الرياض