صرخة أبيقور التي تلقفتها الفلسفة الحديثة

صرخة أبيقور التي تلقفتها الفلسفة الحديثة

علي حسين

ن الفلسفة التي لاتشفي آلام البشرية هي محض هباءٌ. فالفلسفة التي لا تبرئ الروح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي الناس.

أبيقور

حاول أن يفهم لماذا قال أستاذه بامفيلوس وهو يشرح أصل العالم “ إن كل شيء أتى من العماء “.. وحين وقف كان السؤال الذي طرحه:” ولكن من أين أتى العماء؟ «.

كان أبيقور المولود سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس، قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين قرر أن يجد إجابات على ما طرحه معلمه من أسئلة لم يجد لها أجوبة لأنها حسب قول المعلم من اختصاص الفلاسفة فقط.. إذن ليدرس الفلسفة..كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأحجية وبعض الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى..يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء.. والثاني تخليص العالم من هذا العماء..لكنه وجد إن النزاع شديد بين الفلاسفة، فقرر أن يسافر الى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته دارِساً الحكمة الشرقية.. وما أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع الرجال والنساء.. الأغنياء والفقراء، وكانت يهدف من وراء مدرسته الى نشر أفكار عن عالم مثالي يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها الى إنشاء جمهورية مثالية..كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها “ الاستمتعاع بالحياة “..وكانت مدرسة أبيقور ترفع شعار المساواة فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولاوجود للفروقات الطبقية..وكانت الحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن.. وكان الطعام الدسم محرماً داخل المدرسة لأنه يبعث على الأسى والألم يكتب أبيقور:” إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم “. وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور.. أصبحت مدرسة أبيقور تسمى الحديقة.. كانت فلسفة أبيقور تدين لسقراط بالكثير من مفاهيمها، فسقراط كان أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام به، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته الى إثبات إن الوصول الى السعادة هو الهدف من الحياة، وكانوا يثنون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لايمكن أن يلحق الأذى بالآخرين..فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

ولد أبيقور عام 341 ق.م، اهتم بالفلسفة وهو في عمر العاشرة حيث كان يحضر دروس الفيلسوف بامفيلوس، ولكنه أدرك عدم قدرته على الموافقة على كثير من الآراء التي كان يسمعها، فقرر بعد أن بلغ السابعة والعشرين من عمره أن يؤسس فلسفته الخاصة التي يؤكد فيها إن العالم لانهائي في إتساعه. ويحتوي على ذرات لانهاية لعددها وأشكالها.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. و تبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط.

بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. و الأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته:

• السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.

• نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل

• العيش ببساطة، ليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها و سيبقى لك الوقت و الطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقور إننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون، ولماذا نعيش؟.. ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة: الخوف من الآلهة والخوف من الموت.

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة. كان كثير الإنتاج. كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب و نقلوا تعاليمه عبر الكتابة. وكان أشهرها كتاب بعنوان “ في طبيعة الأشياء “ كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور ب 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) حيث يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وهو يرى أن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

كان أبيقور يهتم بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، وكان يرى أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها.

ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة، فإنه في كثير من الأحيان يرفض الأقاويل التي تذهب الى أن الآلهة تتدخل في الشؤون اليومية، وهو يرى إنه لادع لأن تتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي.. وقد تبنى الأبيقوريون وعلى راسهم لوكريتوس لتفسير نشأة الحياة رأياً يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى سبنسر وداروين، كان أبيقور على حد أحد المقربين منه يهدف الى المحافظة على الفكر قريباً من الواقع ومرتبطاً به قدر الإمكان، لأن ما يميز العقل إنه مكون من أشياء مادية على حد تعبير لوكريتوس.. ولهذا أنكر ابيقور إن للآلهة علاقة بخلق العالم الذي نعيش فيه، أو تقرير مصير البشر أو هدايتهم فالحياة كما قال ابيقور:إن هي إلا مهزلة، فيها من الجنون ما يستحيل أن يكون قد أبدعها عقل آلهي.فلا يوجد آله عاقل يأمر ببناء معبد تمجيداً له، ثم لايلبث أن يهدمه من أساسه بضربة صاعقة ينزلها به. وليست هناك عناية آلهية خيّرة تنقذ حياة صبي صغير من مرض خطير من غير سبب، اللهم إلا لتبعث به إلى ساحات القتال ليموت ميتة أشنع، فليعن الآلهة أذن بأنفسهم، ولنحاول نحن أن نقلدهم من غير أن نطلب منهم عوناً، أما خلاصنا فيتوقف على أنفسنا فحسب، لأننا نعيش في عالم خلق نفسه من خلال التقاء الجواهر الفردة، تلك الجزيئات من المادة التي تتحرك في أشكال لا حد لها، ولكن من غير ما ترتيب أو تخطيط “. وربما يسأل البعض كيف حدث أن أدى تجمع هذه الجزيئيات غير الموجهة من المادة معاً الى خلق عالم من الأشجار والطيور والحيوانات والبشر، وما نوع هذه العملية التي مكّنت الجوهر خلالها الى أن تُخرج الى الوجود فيلسوفاً مثال سقراط؟ يجيب أبيقور قائلاً:” إن ذلك يتم بجهل وبغير قصد خلال تطور المادة التدريجي من الأشكال الأولية الى الأشكال الأكثر تطوراً.خلال التخلص من غير الصالح والبقاء للأصلح.. إنها عملية النشوء والإرتقاء تظهر الى الوجود قبل داروين بأكثر من ألفي عام.

في كتابه طبيعة الأشياء يقدم لنا لوكريتوس نظرية أبيقور عن النشوء والارتقاء.. حيث يعلن أبيقور أن الأرض لم تكن في البداية سوى كتلة لاحياة فيها.لكنها بدأت تخرج بالتدريج بالحشائش والأشجار، ثم ما لبثت أن ظهرت الحياة الحيوانية وأخذت الطيور تطير في الجو والحيوانات تتنقل في الغابات. وقد تكيّفت بعض هذه الفصائل من الحيوانات لبيئتها، حيث تمكنت أن تبقى وتعيش، إما نتيجة لجسارتها أو لدهائها، على حين خُلقت فصائل أخرى ضعيفة أو عمياء أو لاتستطيع المقاومة، وبرأي أبيقور إن تلك الفصائل ما هي إلا فلتات من الطبيعة، وضحايا تجربة عمياء في عالم لاخطة له، وهكذا كان مصيرها الانقراض، أما الإنسان ويصفه لوكريتوس بأنه الممثل الأول في مسرحية لاحبكة فيها، فانه آخر من ظهر على مسرح الأحداث، وقد عاش في البداية مثل الحيوانات الأخرى، يقتات على الأعشاب، وينام في العراء. وبعد فترة من الزمن اضطر الإنسان أن يتخذ من الكهوف مأوى له عندما وجد أن الحيوانات المفترسة تطارده..ثم قرر مجموعة من البشر أن يعيشوا في كهف كبير لدفع الأذى المشترك. وقد حدث بعد ذلك تطور تدريجي في الكلام والمشاعر والتعاطف وإنشاء مشاعر صداقة بدائية غير ناضجة. ولما رأوا صوراً غريبة في أحلامهم أضفوا على هذه الصور قوى خارقة وبدأوا يتخذون منها آلهة يعبدونها.. وتستمر قصيدة لوكريتيوس في كتابه “ في طبيعة الأشياء “ لتصف لنا الإنسان وهو يقف ممدود القامة وهو يحوّل أرجله الأمامية الى أذرع..ثم كيف أخذ يطوّع المعادن ليستخدمها في صناعة آلات والأسلحة. وهكذا أصبح أكثر قدرة على حماية نفسه وقتل الأعداء. وبدأت بعض الجماعات تتبادل البضائع والأفكار مع جماعات أخرى، وبهذه الطريقة تعلموا شيئاً فشيئاً فنون المقايضة والتجارة والملاحة والزراعة والشعر والموسيقى وهندسة البناء والسياسة والحرب.. ويصل لوكريتوس الى نتيجة نهائية يضعها على لسان أبيقور من أن العالم لم يتشكل إلا عبر عملية النشوء والارتقاء. حيث تمكن الإنسان أن يُكيّف نفسه لعام قاس، ويعيش حياته في تنازع اتبدب على البقاء، فليست الحياة إلا قتال متواصل من أجل هدف اسمى هو نشر السعادة والطمأنينة وإعلاء شأن الإنسان.

كتب في السنوات الأخيرة من حياته إنه منذ شبابه قرر الخروج على العرف القائم والدين المتعارف عليه بين البشر، ونجده يتحدث بزهو عن أفكاره التحريرية التي اعتنقها منذ أن كان شاباً:” ورثت عن والدي قوة خارقة على النفاذ الى علل الأشياء، فقد تهيأت لي قبل أن أجاوز دور الطفولة ومن غير أن أتعلم، بصيرة تنفذ الى العلاقات الغائبة المبكرة، لم تتهيأ لمن كانوا يكبرونني كثيراً في السن، ويفضلونني في الثقافة، وفي سن الثالثة عشرة شككت في نظرية القصور الذاتي كما جاءت في كتاب نيوتن الخاص بحركة الأجسام، والتي كان عمّي مدافعاً عنها.»

كان هربرت سبنسر المولود في إنكلترا عام 1820 أصغر إخوته السبعة، وقد توفوا جميعاً وهم في سن الطفولة، وتلقّى عن أبيه وعمه وكانا من المهتمين بالعلوم قليلاً من المعارف كالعلوم الطبيعية ودروس في الكيمياء، لكنه لم يدرس الفلسفة والآداب، وكان يفخر إنه لا يعرف قواعد اللغة الانكليزية، لكنه وجد متنفساً في دراسة الهندسة التي أهلته للعمل في سكك الحديد، عاش في وضع مالي:”لعل هروب النقود مني هو مبعث إصراري على أن أعيش أعزباً».

لكن الحظ حالفه بعد سنوات، فقد مات عمّه الذي أوصى له ببعض المال، فاعتزل العمل نهائياَ وتفرغ للقراءة والكتابة. وقد خطرت له فكرة أن كتاباته هذه تصلح أساساً “لفلسفة علمية جديدة” سوف تُحدث انقلاباً في العالم.

كان سبنسر يردد دوماُ بان الوجود إيقاع معاود الحدوث، ويحدّثنا عن أبيه الذي كان يعمل مدرساً بأنه “ لم يخلع قبعته لأحد مهما كانت مرتبته “، رفض وصية والده بان يعمل مدرساً، فهو يهتم بملاحظة ظواهر علم الحياة، شغف بقراءة كتاب لوكريتيوس “ في طبيعة الأشياء “ الذي وجد منه نسخة قديمة في مكتبة عمه الذي قال له إن هذا الكتاب سيفتح أمامه أبواباً كانت مغلقة، فأعاد قراءته أكثر من خمس مرات، ليخرج منه بصياغة عبارة أصبحت هي السمة لعصره وأعني بها عبارته الشهيرة “ التنازع على البقاء “ والتي صاغ منها نظريته في التطور قبل أن يظهر كتاب تشارلز داروين بأكثر من سبع سنوات.

في عام 1845 وجد سبنسر نفسه مطروداً من العمل كمهندس للسكك، كان في الخامسة والعشرين من عمره. يكتب في مذكراته: “ إنني سعيد لقد طُردت من العمل، سأتفرغ للقراءة وأعود لحفظ فقرات من كتاب لوكريتيوس العجيب هذا “. بعد الطرد من الوظيفة بأسابيع وبمعاونة صديقه جورج هنري لويس، ينشر أول مقال له بعنوان “فرض التطور”، ناقش فيه كتابات عالم الأحياء الشهير جان لامارك. لقد أراد سبنسر إحياء فكرة لامارك عن التطور والتي جوبهت برفض شديد من الكنيسة ورجال الدين، وفي مقاله “فرض التطور” يسعى جاهداً لوضع أسس جديدة لفلسفة التطور التي سترتبط فيما بعد بكتاب داروين الشهير “أصل الأنواع”، والذي ينسب إليه اليوم إنه أول من قال بمفهوم التطور، فيما الحقيقة أن داروين كان أول من جعل لنظرية التطور أسساً علمية، وكان مؤلفاه الشهيران “أصل الأنواع” و “نشأة الإنسان” هما اللذان رفعا في نهاية الأمر راية المنهج التطوري، فلم يكن داروين نفسه فيلسوفاً، وإنما اكتفى بأن ترك لغيره استخلاص النتائج الفلسفية لفروضه العلمية.

يكتب داروين في مذكراته الشخصية: “صادف أن كنت أقرأ قبل أيام مقالة هربرت سبنسر عن فرض التطور وكنت مستعداً استعداداً جيداً لتقييم الصراع من أجل البقاء، والذي يستمر في كل مكان لفترة طويلة من المراقبة المستمرة لعادات الحيوانات والنباتات، وحينها خطرت لي فكرة إنه في ظل هذه الظروف تنحو الاختلافات المفضلة أن يُحتفظ بها في حين تُدمّر غير المفضلة منها، والنتيجة ستكون أنواعاً جديدة «.

كرس سبنسر حياته التي تجاوزت الثمانين عاماً لتنقيح فلسفته في التطور، وعانى طوال حياته من سوء صحته، وكانت مثابرته برغم كثرة أمراضه أمر يدعو الى الدهشة، وقد استطاع أن يتغلب على عجزه عن طريق ذاكرته الغريبة، وعن طريق قدرته على التركيز بصورة فعالة. لقد كان لديه عقل منطقي غير عادي ورسم الخطة العامة لمذهبه في فترة مبكرة من حياته ونادراً ما كان يغير آراءه في الموضوعات الأساسية، توفي في الثامن من كانون الثاني عام 1903 بعد إصابته بمرض تصلب الشرايين. وقد تجاهلت الحكومة خبر وفاته بسبب معارضته لحرب البوير التي نظر إليها على إنها تعبر عن القوة العسكرية البريطانية الغاشمة والتي كان يكرهها كثيراً، فقد كان يرى إن التقدم الحقيقي للبشرية يكمن في الانتقال من التحرر بالقوة الى التحرر بالإقناع، وهو يرى إن مثل هذا لايتحقق إلا باعتماد العلم بديلاً للخرافات.