سهى الطريحي.. الزيارة الأخيرة

سهى الطريحي.. الزيارة الأخيرة

د. طه جزاع

تتباطأ خطاي، وأتردد في قطع المسافة القصيرة ما بين الباب الخارجي، وباب المطبخ، حيث اعتادت سهى أن تدخل بيتها وتغادره في جولات قصيرة، أو لقضاء بعض الوقت في مكتبة قريبة من دارها للحديث مع الأصدقاء الذين تلتقيهم مصادفة، أو للاطلاع على الصحف اليومية،

وقد غادرته آخر مرة فجر الأثنين الماضي، وهي محمولة على الأكتاف باتجاه مقبرة الكرخ هذه المرة، لتدفن عند الساعة السابعة صباحاً في مثواها الأخير، بعد أن أسلمت الروح بحدود الساعة الثانية ظهراً من يوم الاحد التاسع عشر من كانون الأول الجاري 2021 وقبل أسبوعين من استقبال عامها السابع والثمانين.

لم أكن أود الدخول إلى البيت، لولا واجب العزاء، ورغبتي بتعزية شقيقها الطبيب هيثم الطريحي الذي وصل إلى بغداد متأخراً ساعتين عن ساعة وفاتها، وكذلك شقيقتها الإعلامية والمترجمة آسيا الطريحي التي فارقتها بعد رحلة طويلة مشتركة، تخليا فيها عن فكرة الزواج وتكوين اسرة مستقلة، وفضلتا أن يبقيا معاً كأشهر عازبتين يعيشان معاً في بيت أبيهما العسكري والسياسي ذو الفكر المدني المتحرر محمد حسن الطريحي الذي زرع فيهما الثقة بالنفس، وحب المعرفة، مثلما حرر فكريهما الانساني من أي انغلاق أو تعصب أو تقوقع، وقد أهدت سها أحد كتبها إلى والدها بالقول: ” إلى روح والدي الذي أرشدني إلى طريق المعرفة وانعطافاتها الحادة.. الذي كانت هداياه عبارة عن كتب.. في الثالث إبتدائي أهداني أقاصيص كريستيان اندرسن وفي الرابع ثانوي قصة الحضارة لويل ديورانت ”.

موقف سلبي

أما شقيقتها آسيا التي اتخذت في السنوات الأخيرة موقفاً سلبياً حاداً من القراءة والكتابة والثقافة، فهي التي كتب لها شاعر افريقيا محمد الفيتوري أرق الرسائل من مدن القاهرة وبيروت وروما وطرابلس والبحرين، أو كان يهاتفها بقوله: اشتقتُ لسماع الصوت الفردوسي.

تقدمتُ قليلاً، ففي هذه المسافة القصيرة بين البابين، يمكن للإنسان أن يختزل في ومضات ذهنية قصيرة مسيرة صداقة طويلة امتدت لأكثر من عشر سنين، يوم التقيت سها عند مكتبة خالد في شارع الربيع القريبة من دارها، فقبل أن تغادر المكتبة جاءت على ذكر أسماء عدد من الفلاسفة، منهم أفلاطون، ولما كنت قد انتهيت يومها من كتابة بحث عن منهاج التربية الافلاطونية، فقد اخبرتها بذلك، ففوجئت باهتمامي، وقالت ان حدساً ما هو الذي جاء بها اليوم إلى المكتبة من أجل أن نلتقي، ودعتني في الأيام التالية لزيارتها في صومعتها، حيث كتب الفلسفة والأدب والفنون، والأعمال والتحف الفنية والتماثيل الصغيرة، التي اقتنتها خلال عملها الدبلوماسي الطويل في جنيف ونيودلهي وبروكسل، ولا سيما التماثيل الهندوسية والبوذية، فقد كانت مهتمة بالنزعة الصوفية في البوذية وبالمعتقدات الهندوسية والبوذية، وبالحياة الهندية عموماً، وكان آخر اصداراتها عن المهاتما غاندي – وقد اتصلت السفارة الهندية هاتفياً عدة مرات للتعزية بوفاتها –. واستمرت زياراتي، وتشعبت الاحاديث، حتى اذا ما انتهت من ترجمة كتاب ” أفلاطون والأوبانيشاد: لقاء الشرق بالغرب.. جدل المقدّس في المنظور الفلسفي الهندوسي – اليوناني ” حتى دعتني لمراجعته، وقد تشرفت بأن تضع اسمي بهذه الصفة مع اسمها على غلاف هذا الكتاب ومؤلفه الكاتب الدبلوماسي اليوناني فاسيليس جي فتساكس، كما ترجمت لاحقاً كتاب ” قاموس أساطير العالم ” لآرثر كورتل.

عند باب المطبخ، لمحتني آسيا فنادت شقيقها الدكتور هيثم لاستقبالي، لم يكن يخطر في بالي أننا سنجلس معاً للمرة الأخيرة ربما، في صومعة سهى، وعند سريرها، وليس في صالة الاستقبال، أو في الهول الصغير تحت السلم المؤدي إلى الطابق الثاني للبيت حيث اعتادت أن تستريح وتشرب الشاي والقهوة، والذي ملأته بالتماثيل والأواني النحاسية والأقنعة الأفريقية واللوحات والتخطيطات، وكذلك بعض اللوحات المائية على قصاصات صغيرة كانت تنجزها في أوقات فراغها. وعند سريرها مازالت أربعة من أجهزة الهاتف المحمول متنوعة الاحجام والاصدارات ملقاة على فراشها، فقد كانت متواصلة باستمرار مع اصدقائها ونشيطة معهم في تبادل الدردشات والموضوعات على الواتساب، وعلى المكتبات الصغيرة حول سريرها وضعت باهتمام صور مهمة من حياتها الدبلوماسية، مع صور والدها ووالدتها، وشقيقها هيثم وولديه علي المقيم في هولندا، وحسن المقيم في الولايات المتحدة، وقد سارا على خطى والدهما في مجال الطب وشقا طريقهما فيه بمثابرة وتميز. ومن الصور التي اعتنت بها عناية خاصة صورتها مع أنديرا غاندي، وأخرى تظهرها مع الجنرال ديغول وهو يستقبل في قصر الاليزيه الرئيس عبد الرحمن عارف في شباط 1968 وصورة ثالثة وهي تستلم شهادة من الممثل العام للأمم المتحدة في نيويورك في العام 1969.

حكمة بوذية

عاشت سهى الطريحي حياتها الطويلة متسامحة مع غير متسامحين، ومسالمة بين العنيفين، ومكتفية بين الطماعين – مثلما تقول الحكمة البوذية، ولعلها انسجاماً أيضاً مع حكمة بوذية أخرى – لم تكن تخشى الموت، لأنها عاشت الحياة بحكمة، باحثة عن الحقيقة، وداعية للمحبة والسلام الكوني بين جميع البشر.