سهى الطريحي، ليس هذا كتابك الأخـيـر

سهى الطريحي، ليس هذا كتابك الأخـيـر

صادق الطريحي

نعم، سيّدتي، فليس هذا كتابك الأخير، كما كتبتِ في مقدمتك لترجمة كتاب المهاتما غاندي (الكنز الذهبي، حكم وأفكار ولمحات من حياته)*

فهل توقفت يوماً ما عن شراء الكتب، أو القراءة، أو استماع الموسيقى الكلاسيكية، ومشاهدة عروض الأوبرا العالمية؟ وأنتِ الآن تتجاوزين الثالثة والثمانين، مؤمنة أنّ العالم سيأخذ بأفكار المهاتما ذات يوم قريب، هل توقفت يوماً ما عن كتابة ما يرد على خاطرك من أفكار حول الفقراء أو الجفاف أو الأطفال، أو أنظمة الحكم، أو مآسي الحروب، وربما ما زالت لديك تلك الرغبة القوية لكتابة القصة القصيرة أو الرواية!! فقد حرمتك تعليمات وخصوصيات عملك الدبلوماسي من النشر، وأنتِ التي ولدتِ قارئةً وكاتبةً بالفطرة، وأنتِ التي قرأتِ في كتاب (صبح الأعشى...) مذ كنت في المرحلة الابتدائية!!!
فلمَ كتبتِ في المقدّمة “ ربما سيكون هذا الكتاب آخر ترجمة بالنسبة لي!!” وأنتِ تعلمين أنّ قراءاتك حول الأساطير والآثار، وإخوان الصّفا والفلسفة والتصوّف لمّ تنته بعد! أغلب الظنّ أنّك جدّ حساسةٍ إزاء ما حدث، وما يحدث اليوم، فقد دخل العراق منذ الثمانينيات، حتى اليوم، في ظروف غير طبيعية، من حروب، وحصار، وحروب، وطائفية، ومحاصصة، و، و، وانقطاع للتيار الكهربائي، أو اختلاس أموال الشعب، أو تدهور الحالة الصناعية والتجارية للبلاد، وأنتِ ما زلت تتذكرين أنّ والدك الكريم (العميد الركن محمد حسن الطريحي) كان يزاول الصناعة والتجارة بشرف ونزاهة، مثله مثل التاجر الكبير الحاج جعفر أبو التمن، أو غير جعفر أبو التمن ممن أسسوا غرفة تجارة بغداد، وسنوا مجموعة من الأعراف التجارية النزيهة، فتقدموا بالعراق خطوات سريعة، ليكون في مصاف الدول المصدرة للتمر والصوف، وصناعة النسيج، قبل أن يستورد العراق اليوم التمر السعودي والإيراني، أو الألبسة الصينية المصنوعة من (النايلون المعاد)!!
وقد كتبتِ أنتِ عن ذلك كثيراً في الصّحف المحلية، ثم جمعت هذه المقالات، ومقالات أخرى لتنشر ضمن كتابك (أوراق المحطة الأخيرة،...، 2015) وقد كنت تظنين أنّ ذلك الكتاب هو محطتك الأخيرة!! ولكنك استطعت أن تنجزي الجزء الأول من مذكراتك لتصدر ضمن كتاب (مذكرات دبلوماسية عراقية، 1959 ـ 1991، القاهرة، 2018) وكنت تقولين لي، سأتوقف هنا، يكفي أنني تحدثت قليلاً، وكتبت عن بعض ما شاهدت وخبرت. ولكن هيهات أن تتوقفي عن الكتابة، سيدتي، فقد انتبهتِ إلى كتاب مهم، صدر في الهند حديثاً جمع فيه المحرر، أفكار غاندي وحواراته، ليقدمها بلغة سهلة لجمهور غفير من الهنود وغير الهنود، من المؤمنين بأفكار المهاتما وأحلامه، وأنتِ من المؤمنين بأفكار المهاتما غاندي، بل أنتِ إحدى الحالمات الكبيرات بعالمٍ خالٍ من العنف!! يحب السلام والفقراء، والأطفال، وينبذ التعصب، والسلاح النووي!!
إذن هذا هو ميدانكِ الذي تودين الإقامة فيه، ألم تزوري الهند لمرّات عدّة! ألم تتحمسي كثيراً لأقوال المهاتما، وحياته، ودعوته (للأحمزة) أو اللاعنف!! ألم تدخلي المعابد الهندية من أجل الاطلاع أكثر على حياة سكان الهند وطريقة معيشتهم!
غير أنّكِ هنا في هذا الكتاب تعارضين المهاتما في بعض أقواله وآرائه، أو تعلقين على بعض ما يقول، وتوضحين لنا بعض المصطلحات والأحداث التي صاحبت حياة المهاتما غاندي، ومما لا شك فيه أنّ هذه المناقشة لبعض آرائه، لهي دليل على أنك لست بالمتلقية السلبية لكل ما يقول المهاتما، ويا ليت الآخرين يعلمون أنّ ليس كل ما يقوله المصلحون، أو الزعماء، أو الكهنة، هو الكلم الصحيح المصفى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!! فكم من زعيم، ومفكر ومصلح، وكاهن، قد أخطأ، وأخطأ، وأخطأ، ولكنّ النّاس نيامٌ فإذا ماتوا أو قتلوا بسبب أقوال أولئك الآباء انتبهوا!!
أما ما شدني حقًا في كتابك المترجم هذا، فهو ربطك الموثق بين ما يحدث في العالم اليوم، من قتل على الهوية، ورفض الآخر، وتكفير من لا يشترك معنا في العقيدة، وبين ما يدعو له المهاتما من تسامح ونبذٍ للعنف، وأنت تعتقدين لو أنّ العالم قد أخذ بمبادئ المهاتما ودعوته للاعنف لما حدث كلّ ذلك!!!
وربما لا يسمع العالم ما تقوليه الآن، لكنني متأكد أنّ الكثير من القراء سيتعاطفون مع ما تنقليه لنا من آراء المهاتما وأقواله، فلم يعد الانسان أو المنطقة أو البيئة لتتحمل حروباً طال أمدها، وأنا أرى أنّ الكثير منا اليوم بات يؤمن بالسّلام، وتقبل الآخر، وأنّ المشكلات من الممكن أن تحل بالحوار والمفاوضات، فلا شيء أغلى من حياة البشر لمن يعلمون، من الزعماء، والمصلحين والكهنة الكبار والصغار!!.
أحقًا هذا كتابك الأخير، لا، يا سيدتي، فنحن بانتظار كتابك الآخر، وربما ستكملين الجزء الثاني من مذكراتك، وقد قلت لي ذات مرّة، إنك تودين أن تتحدثي عن حوادث آخر في هذا العالم القاحل، ربما لم تستطعي أن تتحدثي عنها في كتابك السابق.
تموز 2019
• المهاتما غاندي، الكنز الذهبي، حكم وأفكار ولمحات من حياته، ترجمة سهى الطريحي، مؤسسة دار الصادق الثقافية، الحلة، 2019.