قريباً من هُلدرلين

قريباً من هُلدرلين

محمد بنيس

“يمكنني بلا ريب أن أقول إن أبّولو صعقني “. بهذه العبارة القريبة من الصرخة، وصف هلدرلين ما حدث له أثناء عودته، التي طالت مدتها بين ماي ويوليوز 1882، من بوردو إلى ستراسبورغ ومنها سيراً على الأقدام إلى نورتنغن Nürtingen. عبارة جاءت في رسالته الشهيرة، التي يصف فيها ذكرياته في فرنسا. وهي موجهة إلى صديقه بوهلندورف Böhlindorff في حوالي شهر نوفمبر من السنة ذاتها. لا تقف هذه العبارة عند تلخيص العلاقة التي كانت لهلدرلين مع إله الشعر لدى اليونان ومع الحضارة اليونانية ككل، بل تعيّن، أكثر، طبيعة تجربته مع الشعر والشعري.


. 1.
فريديريش هلدرلين أحد كبار الشعراء الألمان. فهو يمثل، إلى جانب كل من غوته وفريدريش نوفاليس وماريا رينيه ريلكه وجورج تراكل وغوتفريد بن، الصوت الشعري الألماني الأصفى. عاش بين 1770 و1843، معاصرا لكل من بيتهوفن وبونابرت. وقد اعتاد مؤرخو ونقاد شعره على تقسيم حياته إلى مرحلتين: ما قبل 1802 وما بعدها، إذ الفاصل بينهما هو سنة إصابته بما يعرف في الأدبيات الهلدرلينية بـ”الجنون».
. 2.
يمكن أن نلخص المرحلة الأولى في علامات. ولد هلدرلين في لاوْفن، على ضفة نهر نيكار، وفي الثانية من عمره فقد أباه. تزوجت أمه بعد سنتين من المستشار غورك عمدة مدينة نوتنغن، فأقام معها. وفي الرابعة عشرة بدأ في كتابة الشعر. التحق سنة 1788 بجامعة توبنغن، التي حصل فيها بعد خمس سنوات على الماجستر في علم اللاهوت. في 1791 أصبح صديقا لهيجل وشيلينج، وتعرف كذلك على شعراء أسس معهم “عصبة الشعراء”، وعلى سانكليرSinclair، الذي ظل وفيا له في سنوات مرضه. تحمس في هذه الفترة مع أصدقائه لكانت وروسو والثورة الفرنسية، وفيها قرأ أفلاطون وتأكدت موهبته الشعرية ونشر قصائده لأول مرة. بحث عن العمل مؤدباً للأطفال، عكس ما كانت ترغب فيه أمه للالتحاق بالعمل في الكنيسة. تسلّم أول وظيفة له في 1793، وفي نوفمبر 1794 اتجه نحو فيمار، ثم ترك الوظيفة. استقر في يينا، العاصمة الثقافية، ساعياً إلى تكريس حياته للشعر، وتعرف فيها على شيلر لإعجابه الشديد به. وفي 1795 تابع محاضرات الفيلسوف فخته، التي كان يلقيها في “بيت الرومانسيين”. وعندما أصبح محتاجاً، بدون مورد مادي، عاد إلى بيت أمه، وفي نفسه خشية من العمل في الكنيسة.
في السادسة والعشرين من عمره، أي سنة 1796، عثر له صديقه سانكلير على عمل في بيت الثري جاكوب غونتار، في فرنكفورت الذي عمل مؤدباً لأبنائه. في بيت عائلة غونتار عاش إحدى الوقائع الفارقة في حياته، عندما استبد به حب سوزيت غونتارSuzette، زوجة الثري جاكوب غونتار، التي بادلته الحب. حب لا يشبه ما سبق. هو هذه المرة حب جامح، عثر فيه هلدرلين على الأقصى، ولم يقدر على رد تأثيره القوي في مسار حياته. فجمال هذه المرأة جسّد مثال الجمال اليوناني، الذي كان به مأخوذاً، فكتب عنها “إنها يونانية”. كان حذراً معها، ففضل في نهاية سبتمبر 1798 مغادرة البيت، ابتعاداً عما يمكن أن يؤدي إليه هذا الارتباط من مصاعب مع الزوج. مع ذلك ظل على اتصال معها عبر لقاءات ومراسلات ما زالت محفوظة، وكان آخر تواصل بينهما في 1800. ومن فعْل ذلك الحب الجامح سماها هلدرلين في أعماله باسم “ديوتيما، كاسم مستعار لهذه العشيقة سوزيت، التي توفيت سنة 1802. وقد رأي في فقدان عشيقته وحرمانه منها أن “المثال لا يمكن أن يعيش على الأرض».
بين 1797 و 1979 نشر رواية في جزأين تحمل عنوان “هيبريون»، اسم إله الضوء. أول عمل تبرز فيه نظرته إلى اليونان. هيبريون يوناني معاصر ولكن روحه قديمة. تحكي الرواية عن هذا البطل، في 1770، فترة إعلان روسيا الحرب على تركيا، فكان في الرواية يحث اليونانيين على التحرر من الأتراك. جمع متطوعين، وعندما دخلوا إسبرطة لم يتوان المتطوعون عن القتل والنهب فدنسوا بذلك انتصارهم. من ثم أيقن هيبريون أن الذين عمل معهم على تأسيس جمهوريته ليسوا إلا أوباشاً.
وبعد مغادرته بيت غونتار توجه إلى بيت صديقه سانكلير في هامبورغ. هناك عمل لمدة سنتين، من 1798 إلى 1800، بتركيز ثقافي نادر وبتوثب عسى أن يخفف من صدمة فراق سوزيت. فشرع في كتابة رواية “أمبيدوقل» ثم أعاد كتابتها لمرتين متتاليتين دون أن ينجح في إتمامها. كما كتب مجموعة من الدراسات في علم الجمال والفلسفة. وإصراراً منه على الوصول إلى استقلال مادي، قرر تأسيس مجلة تحمل عنوان “إيدونا. لكن المشروع بدوره لم يكتمل. وإلى هذه الفترة، التي غلبت عليها المجاهدة في الكتابة، وضع الصيغة الأولى للمراثي والأغاني وأصبح معروفاً. على أن أحواله المادية ازدادت سوءاً، فلم يجد بداً، في 1800، من العودة، مرغماً ومنهاراً. عندها تضاءلت طاقته الجسدية والفكرية، واحتدت حالة الكآبة لديه فكتب: ”هذا المناخ لا يصلح للشعراء. ” وفي السنة ذاتها اعتنى به أصدقاؤه في شتوتغارت واستدعاه على الخصوص صديقه التاجر لانداور لقضاء مدة معه. فكانت فرصة كتابة أولى الأعمال الشعرية الكبرى وترجمة بندار، الذي بدا أثره حاسماً في كتابة “التراتيل”. ثم سافر في 1801 إلى هابتويل في سويسرا للعمل مؤدباً، لكن العائلة اعتذرت عن قبوله بمجرد ملاحظة حالته. فعاد من جديد إلى بيت أمه، وكتب إلى شيلر يستغيث فأعرض عنه ولم يجب على الرسالة. ومع ذلك استمر في الكتابة، لكن قدرته على التركيز تضاءلت، واستولت على سلوكه غرابة مع تعمّد تجنب الآخرين. وهي أعراض تدهور نفسي.
وعمل آخر سنة فيها، وهو في الثانية والثلاثين من عمره، لدى مايير، قنصل هامبورغ في بوردو، مؤدباً لأبنائه. إقامته في بوردو كانت قصيرة جدا، تمتد من2 يناير 1802، حيث وصل إليها عابراً كلا من ستراسبورغ وليون، حتى مايو 1802، عائدا إلى نورتنغن عن طريق باريس وسترسبورغ. ولا يعرف شيء عن هذه الإقامة. ثمة فقط أثرها في بعض القصائد. عاد إلى البيت مصابا بـ”صعقة أبولو”، وهو في حالة متقدمة من انفصام الشخصية، فاعتنت به أمه. وبين الفينة والأخرى كان يتمتع بصحوته، فكتب “باتموس” و”الواحد الأحد”. ثم استقرت حالته النفسية في السنة الموالية فاشتغل على قصائد جديدة من أهمها “ذكرى” و”نهرإستر” وانتهى من ترجمة “أوديب الملك” و”أنتيغون” للشاعر سوفوكل ونشرهما سنة 1804. وعندما زاره شيلر ارتعب من الإهمال الذي أصبح عليه مظهره.
. 3.
ثم جاءت المرحلة الثانية موصوفة بالأزمة العصبية التي أطلقت عليها مرحلة “الجنون”. وهي التي تبدأ مع سنة 1804. لقد كان صديقه سانكلير يحرص على إخراجه من الحالة التي هو فيها فنقله إلى بيته في هامبورغ، وبحث له عن عمل في مكتبة، معتقدا أن هلدرلين في طريقه إلى الشفاء. وعندما فحصه طبيب في يونيو 1805 كانت النتيجة أنه يحتاج للإقامة في مصحة عقلية. وهكذا أودع مصحة في توبنغن سنة 1806. وبعد تفاقم حالته العصبية، صدرت وصاية على هلدرلين وأودع في بيت تسيمر، النجار، في مدينة توبنغن، من سنة 1807 حتى وفاته في 7 يونيو 1843. هناك في محل يشبه قلعة تم وضعه في غرفة معزولة في الطابق الأول، مشرفة على نهر نيكار. في هذه المرحلة عاش هلدرلين فترات طويلة من الصمت، كما كتب قصائد قصيرة أصحبت معروفة بـ”قصائد الجنون”. وهي قصائد متحررة من قواعد الشعر الكلاسيكي، كان يمضيها أحياناً بأسماء غريبة مقل سكاردنيللي ويذيلها بتواريخ ماضية. في تلك الغرفة زاره معجبون وقد بدأ الرومانسيون في اكتشافه وكذلك أعماله أصبحت متداولة في الحياة الشعرية الألمانية.
وتكاد تكون المرحلتان متساويتين من حيث عدد السنوات، إذ أن هلدرلين انتابته أول أزمة عصبية حادة وهو يبلغ خمساً وثلاثين سنة، ثم أمضى بعدها سنتين بين بيت أمه وصديقه سانكلير والمصحة العقلية، وأخيراً ستاً وثلاثين سنة معزولاً في بيت تسيمر. وإذا كانت “صعقة أبولو” أقوى مما كان يحتمل جسده، أي النور الشعشعاني الذي يفضى إلى الظلمات، العمَى، فإن من المحتمل أن تكون تلك الأزمة غير بعيدة عن استحالة الحياة مع سوزيت، أو الإخفاق في الحصول على مورد مادي قار يضمن له التفرغ للكتابة، أو الفشل في إصدار مجلة “إيدونا”. عوامل مجتمعة لها فعلها في مرضه، مهما كان حجمها في مسار تاريخي ألماني أو أوروبي.
. 4.
كان نيتشه يعتبر هلدرلين شاعره المفضل وكتب عنه. مع ذلك لم تبلغ مكانة هلدرلين ذروتها إلا في القرن العشرين، عندما اهتم بقراءة شعره الفيلسوف الألماني هيدجر، في محاضراته الجامعية التي ألقاها على طلبته أول مرة في سنتي 1934 و 1935، وافتتحها بقراءة قصيدة “جرمانيا”، ثم تلتها على فترات قصائد أخرى. بهذه القراءة الفلسفية انتقل هلدرلين من كونه أحد أعلام الشعر الألماني في القرنين الثامن والتاسع عشر إلى “هذا الشاعر الذي يتعلق به مستقبل الألمانيين”، أو “شاعر الشعراء” حسب تعبير هيدجر في كلمته الافتتاحية للمحاضرة الأولى، أو “شاعر الشعراء” كما سماه هيدجر في دراسته عن معنى الإقامة شعريا على الأرض. وبهذه القراءة ارتفع هلدرلين إلى مدى لا ينحد من عناية شعراء وفلاسفة ونقاد ومترجمين بشعره لا يمكن تخيله بدونها، كما كتب عديد من الدارسين، معترفين بفضل قراءة هيدجر على هلدرلين.
فهذه القراءة الفلسفية أبرزت الثورة التي أحدثها هلدرلين في الوعي بالشاعر والشعري. فهو انتقل بهذا الوعي إلى رؤية تتلخص في تجربة الوجود والمصير، مستمداً رؤيته مما تعلمه من الإغريق ومما أصبح يؤمن به من امتداد لهم. ذلك ما كتبه لصديقه بوهلندورف، بعد عودته من بوردو: “ إذا كنا لم نبلغ بعدُ هدفنا، فذلك لأننا الذين نحاول من جديد، بعد الإغريق، أن نغني تبعاً للطبيعة، وتبعاً للوطن، بطريقة متأصلة لا مثيل لها. ” إنه وعي تحديث النظر إلى القصيدة، إلى الشعري. وهو في آن لا يمكن أن يصدر إلا عن الشاعر نفسه حتى “يكون بدوره أساس كل إقامة” على الأرض، كما كتب هيدجر في قراءة قصيدة “ذكرى”. هي إقامة ذات معنى مخصوص، لا سبيل إلى اختزاله في كل ما يعمله الإنسان، وما يقوم به من أجل أن يستحق الحياة. هذا معنى أول، على أن هلدرلين يذهب به نحو الأعمق عندما يكتب:
عديدةٌ مزاياهُ، مع ذلك شعرياً
يقيم الإنسان على هذه الأرض.
هي إقامة مسكونة بالشعري، لأن “الشعر هو القوة الأساسية للسكَن الإنساني”. فالشعر هو الكلام الذي يعطي الواقعي ما يتأسس به وعليه. والشاعر الملهم بـ”روح الشعر”، حسب تفسير هيدجر، هو وحده الذي يحول الإقامة من معناها الأول، المستخلص من مزايا عمل الإنسان إلى معنى قياس الما بين، في الصلة بين السماء والأرض، عمودياً، بما هو حضور للإلهي. ذلك ما تفصح عنه قصيدة “ذكرى” من خلال تلك الأبيات المشعة عن معنى الشاعر:
(...............) لكن البحرَ
يأخذُ الذكرى ويمنحُها
والحبُّ بدوره يأسر النّظرات باستمرارْ
لكن ما يبقَى، وحدهم يؤسّسه الشعراء.
. 5.
كان الوعي بالشعري لدى هلدرلين متفاعلا مع الوعي بالتاريخي. لهذا فإن اعتبار عناية الشاعر بالمصير له دلالة تاريخية بقدر ما له دلالة شعرية. ففي ملاحظة وضعها في هامش ترجمته لمسرحية سوفوكل “أنتيغون”، كتب عن الألمان في زمنه: “إن الاتجاه الأساسي يجب أن يكون معرفة كيف نلتقي على نحو دقيق، ونمتلك “عنوان” مصير، لأن غياب الاتجاه، المصير هو ضعفنا. »
ومن هذا الوعي المتوهج بالامتداد للإغريق من ناحية، وبالعيش في زمن ألماني تغيب عنه معرفة كيف يمكن اللقاء بالمصير من ناحية ثانية، اتخذت تجربة هلدرلين بعداً أصبح معه الشاعر صاحب رسالة، لا بالمعنى الديني، بل بمعنى “النبوءة الشعرية”، كما كتب هيدجر: “إن حلم [النبوءة] إلهي، لكنها لا تحلم بإله. يضغط هذا الحلم بثقله الخاص: فبفضله، لا تتحول الأنفاس المهدهدة إلى زوابع ملتبسة: إنها تخط طريقها الوحيدة فوق المسالك البطيئة. ” نبوءة لا تحلم بإله، لأنها تلتصق بالآلهة اليونانية، التي كانت بالنسبة لهلدرلين أقرب إلى نفسه من الإله المسيحي الغائب في زمنه. لهذا فإن الإلهي الذي يتردد في أعماله يستند إلى أن الإنسان والطبيعة يحتاجان إلى الإلهي منفصلا عن الديني. والنشيد كان الصيغة المثلى لصياغة هذا الإلهي، مصدر النبوءة، من خلال قصائد، تصادت فيها الأرض اليونانية مع الأرض الألمانية، من بينها “وداع”، “ديوتيما”، “التائه”، “خبز وخمر”، “عودة”، الأرخبيل”، “نصف الحياة”، “الراين”، “ذكرى”. في هذه القصائد، كما في غيرها، تتبلور الرؤية الهلدرلينية للشاعر والشعر. ولكن القصائد تتكامل، أيضا، مع كل من رواية “هيبريون” و”أمبيدوقل”، ودراسات موضوعها الشعر والفلسفة، ورسائل، تؤدي كلها إلى معنى الرسالة الشعرية ومعنى النشيد، الذي يجعل شعبا من الشعوب يقيم شعرياً على الأرض.
إن قصيدة “الأرخبيل”، التي كتبها هلدرلين سنة 1800، في نفس فترة كتابة “نصف حياة” و”خبز وخمر”، هي أطول قصيدة كاملة نشرها هلدرلين. وهي تستدعي العالم اليوناني، كما عرفه من خلال الكتب، أو كما تجسد له في الجنوب الفرنسي، أثناء إقامته في بوردو. يونان الآلهة والحروب وحياة الأثينيين. في هذه القصيدة يظهر بوزيدون، إله البحر، أهم عناصر الطبيعة لدى الإغريق، مخبولا ومريضا، كما هي حال هلدرلين. هذه القصيدة نموذج لما كان يقصده من العودة إلى اليونان. إن الانتقال من الوطن، ألمانيا، إلى اليونان، الخارج، الأجنبي، ذهاب إلى حيث الآلهة قريبة، ثم ذهاب إلى حيث التعلم من الأجنبي ضرورة لكل ما هو موجود في الوطن، لكل عودة إلى الوطن. تلك الضرورة المعرفية هي التي لازمت هلدرلين في البحث عن تحديث النظر إلى الشاعر والشعري. ذلك ما كتبه سنة 1801 في رسالته إلى صديقه بوهندروف “ما هو شخصي يجب أن نتعلمه بقدر ما نتعلم ما هو أجنبي. لذلك لا يمكن أن نغفل عن الإغريق. على أننا، بالضبط في مجال ما هو شخصي لنا، موجود في الوطن، لن نصل إلى مضاهاتهم، لأن الاستعمال الحر للشخصي، كما قلت لك، هو الأصعب. ” فلا عودة إلى الشخصي، الموجود في الوطن، الطبيعي، إلا من خلال الذهاب إلى الأجنبي، اليوناني، في التصور الهلدرليني. لكن هذا الذهاب لا يتغيا التقليد بتاتاً، وإلا بطل مفعول الذهاب إلى الخارج، الأجنبي، واستحالت معه العودة إلى الشخصي. ففي الرسالة نفسها يضيف: “لهذا أيضا سيكون من الخطورة لنا أن نستخلص قواعدنا، في الفن، من مجرد نموذج اليونانيين الكامل. لقد اشتغلت طويلا على كل هذا لأعرف الآن أننا، باستثناء ما لدى اليونانيين كما لدينا يجب أن يكون الإنجاز الأرفع، أي علاقة حية، مصيراً حياً، لا نستطيع بدون شك أن يكون لنا معهم شيء مشترك. »
. 6.
كان هلدرلين، أثناء إقامته الدراسية في توبنغن، اعتنى بالفلسفة والموسيقى، كما اهتم بالدراسات اليونانية. كتب هلدرلين قصائده في قالب كلاسيكي، صارم في احترام تام لبنية البيت أو بنية المقطع أو القصيدة بأكملها، وفي احترام لتركيب الجملة، من حيث بنيتها النحوية والصرفية. كان في ذلك المنحى الجمالي يتبع خطوات الشاعر فريدريش كلوبستوك Klopstock (1724 ـ 1803)، ثم تحول لاحقا إلى شيلر، الذي كان لعمله “دون كارلوس” تأثير واضح عليه في كتابة “هيبريون”. على أنه في فترة النضج الشعري قام بإدخال نبرته الشخصية على الأوزان القديمة وعلى جمالية اللغة الألمانية، فاغتنت قصيدته بكثافة شعرية عليا، موسومة بمرجعية تتردد فيها الحضارة اليونانية. إضافة إلى أنه في “قصائد الجنون” انتهج طرائق أكثر تحررا في البناء، كما سبقت الإشارة.
. 7.
حياة هلدرلين وشعره مرا، منذ أواسط القرن التاسع عشر، عبر محطات كبرى من التعرف والتوثيق والنشر والدراسة. والمشتغلون، في ألمانيا أو خارجها، يؤكدون أن الألغاز لا تزال تحيط بهما. ولا نفاجأ بشيء من ذلك. ففي 1993، سنة الاحتفال بالذكرى المائة والخمسين على وفاته، صدرت من جديد طبعتان رفيعتان للأعمال الكاملة، عن دار كلاسيكر Deutsche klassiker ودار Carl Hanser، لكل واحدة منهما امتياز خاص. كما تم الكشف في المناسبة ذاتها عن وثائق عثر عليها، هي ملف الوصاية على الشاعر الذي يتضمن ثماني عشرة رسالة كتبتها أسرة تسيمر النجار عن “المريض الروحي”. إضافة إلى أن هناك أعمالا جديدة بالغة التعقيد لم يتيسر لحد الآن البث النهائي في فقراتها وبنائها الأصلي. وهذا يعني أن هلدرلين ما زال ينتظر عقودا أخرى من البحث والتنقيب والدراسة.
. 8.
مقدمة لترجمة حسن حلمي للمختارات الشعرية لهلدرلن الي صدرت عن دار توبقال المغربية.