« أطلانطيد الجديدة» لبيكون: لو أن العلماء يسيّرون حياة المجتمع

« أطلانطيد الجديدة» لبيكون: لو أن العلماء يسيّرون حياة المجتمع

إبراهيم العريس

لم تكن كتب «اليوتوبيات» أو «المدن الخيالية المثالية»، كما تجلت لدى عدد كبير من الفلاسفة والكتّاب خلال العصور الوسطى ثم خلال عصر النهضة، مجرد كتب خيال - علمي همّها الترفيه عن قرائها، كما حال معظم هذا النوع من الكتب في القرن العشرين،

بل كانت بالأحرى، أعمالاً تعبّر في شكل أساسي، عن رفض المفكرين المجتمعات التي يعيشون فيها، وتعبيرهم عن تلك المجتمعات التي يتصوّرونها ويرون أنه بات لا بد من إقامتها. وكانت تلك المجتمعات المنشودة، بالنسبة الى واصفينها، على الأقل مكاناً يتم فيه ردم الهوة التي كانت، منذ بدايات عصر النهضة لكي لا نغوص أبعد من ذلك، تتسع بين ما يفكر فيه المفكرون المتنورون، وما هو قائم حقاً في مجتمعات بات تطورها المادي في البنيات التحتية قادراً على السماح بتطور مواز في بنيات الحكم والعلاقات الاجتماعية والمسائل الفكرية ولا سيما العلاقة المفترض وجودها - منذ أفلاطون على سبيل المثال - بين السلطات الحاكمة والعقول النيّرة المفكرة.

في تلك العصور النهضوية كان الفكر يتطور بسرعة، بينما كانت المجتمعات نفسها لا تزال متخلفة، خاضعة لأنظمة حكم باتت قديمة وغير قادرة على الوصول بالشعوب الى العصور الحديثة. من هنا كان المفكرون قد بدأوا يرون ان الفكر يبدو وحده القادر الحقيقي على تسريع وتيرة التطور، وتحديداً عبر رسم صورة لما يجب ان تكون عليه المجتمعات. ومن هنا ما نلاحظه من أن تلك المراحل شهدت بكل وضوح تكاثر تلك المؤلفات التي تصف مجتمعات خيالية، موجودة في أماكن نائية أو في جزر منعزلة، أو حتى في عوالم غير محددة على الإطلاق. واللافت ان العدد الأكبر من تلك المؤلفات كان يعطي العلم والعلماء، والمفكرين في شكل عام، دوراً أساسياً في تنظيم تلك المجتمعات. غير ان أياً من المؤلفات لم يصل في التركيز على دور العلماء، ما وصله السير فرانسيس بيكون في كتابه «الأطلانطيد الجديدة» ذلك الكتاب الذي يدين بالكثير الى أفلاطون ومجتمعه المثالي، كما رسمه في «الجمهورية»، ويمكن اعتباره واحداً من أبرز الكتب في مجاله، حتى وإن كان مؤلفه قد استنكف عن اصدار جزء تال له كان وعد به. والحال ان غياب هذا الجزء الذي كان ينبغي على بيكون أن يصف فيه تنظيم حياة الشعب والعلاقات بين فئاته، وهندسة «المدينة المثالية» وما الى ذلك، هذا الغياب جعل ما صدر من المشروع، مجرد بحث في دور العلماء بوصفهم الفئة الرئيسية التي تقوم عليها أعباء التشريع والتنظيم وتطبيق القوانين بما فيه خير المجموع.

مهما يكن من الأمر فإن بيكون كان، وفق وصف برتراند راسل له، واحداً «من الفلاسفة ذوي العقول العلمية الذين أكدوا أهمية الاستقراء كمقابل للقياس»، وهذا التوجّه، كما يبدو، هو الذي جعله، بعدما أسهب في وصف مكانة العلماء ودورهم في مشروعه، يتوقف، لأنه - كما يبدو - لم يكن ذا خيال أدبي يمكّنه من المواصلة. ومن هنا اعتبر عمله، على الدوام، ناقصاً من ناحية وصفه للمدينة المثالية ومجتمعها، لكنه اعتُبر رائداً وأساسياً في مجال تركيزه على دور العلم. وتقول الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري، في كتابها «المدن الفاضلة عبر التاريخ» أنه «سواء اتجهت نية بيكون الى كتابة الجزء الثاني من هذا الكتاب، أم لا، فقد كان من المستبعد عليه ان يغيّر الطابع الأساسي لمجتمعه، وهو إعطاء العلم والعلماء الدور الأساسي فيه». ولا ينبغي علينا هنا ان ننسى ان فرانسيس بيكون اعتبر دائماً، عالماً أكثر منه فيلسوفاً أو كاتباً، بل ان ثمة دائماً بين المؤرخين من يذكرنا بأنه كان «سيد الحقائق العلمية التي تولى نيوتن من بعده، كشفها للناس».

عالم أو كاتب أو فيلسوف، المهم ان فرانسيس بيكون ترك لنا هذا النص المهم. وأعاد فيه الى الحياة تلك القارة الضائعة (اطلانطيد) التي يرد ذكرها لدى المفكرين القدامى وعلى رأسهم أفلاطون (في محاورتَي «كريتياس» و»طيماوس»)، لكنه أعاد أطلانطيد لمجرد أن يستعيرها ويجعل فيها مشروعه العلمي، ذلك ان كتاب بيكون يصوّر لنا هنا، جزيرة «بنسالم»، التي يقطنها شعب من المسيحيين، حدث له ان انفصل عن بقية العالم لكي يبني لنفسه حياة خاصة به. والنص، الذي كتبه بيكون اصلاً بالإنكليزية، ثم ترجم الى اللاتينية (وكان هذا جديداً في ذلك الحين)، يصف لنا الحياة التي يعيشها هذا الشعب، بعدما حدث له أن وصل الى الجزيرة بعد غرق سفينة خلال رحلة بحرية بين أميركا وآسيا. وهناك «في تلك الجزيرة، أقام الشعب مركزاً رئيسياً هو «بيت سليمان» أو «كلية أعمال الأيام الستة»، ومهمة هذا «البيت» الانكباب على البحوث العلمية والتجديد فيها. صحيح ان الجزيرة مقطوعة عن العالم، غير ان هذا لا يمنع القيمين على الأمر فيها، من أن يرسلوا مرة كل دزينة من السنوات الى العالم الخارجي، عدداً من العلماء والباحثين، الذين يتعين عليهم ألا يكشفوا، هناك، عن هويتهم أو مكان عيشهم، بل يسعوا فقط إلى جمع معلومات تمكّنهم من أن يعودوا الى الجزيرة وهم محملون بمعلومات تتعلق بكل ما هو جديد في الفكر والعلم والاختراعات. ويبدو واضحاً هنا ان غاية هذا المشروع تكمن في توسيع أفق دراسة الظواهر الطبيعية وقدرة الإنسان على التعامل معها واستخدامها من أجل بلوغه السعادة والرفاه. والإنسان هنا، من خلال انتشار تلك المعلومات، يتولى تطبيقها في مجال التنقيب عن المعادن في غور الأرض، ودراسة المناخ وكل ما يتعلق به، وتربية الحيوانات، والزراعة وكل ما يتعلق بها.

> أما المعهد (أو «بيت سليمان») الذي له مركز الثقل في حياة الجزيرة وسكانها، فإنه - كما يصفه لنا فرانسيس بيكون بإسهاب - مقسم وفق الاختصاصات، أقساماً يقوم على كل منها عدد من العلماء والباحثين. أما أهم هؤلاء فهم «طائفة تجار النور» الذين يتولون التوجه الى الخارج للحصول على مؤونة المعلومات الضرورية، ومن بعدهم تأتي طائفة «الصيادين» الذين يتولون جمع وفرز وتصنيف المعلومات. وهناك بعد هاتين الطائفتين طائفة «المناجميين» و»فاعلي الخير» و»مفسرّي الطبيعة». ويصف لنا بيكون بإسهاب مهمات كل من هذه الطوائف، ثم يروي لنا كيف ان المعهد يحتفظ بنموذج من كل اختراع يتم الوصول اليه في الخارج، وكيف ان تماثيل تقام لكل المخترعين والعلماء المبرزين.

> وهنا عند هذا الحد يتوقف نص «اطلانطيد الجديدة»، من دون ان يتابع المؤلف ليحدثنا، كما كان ينبغي له ان يفعل، عن الكيفية التي ينعكس بها ذلك كله على حياة الناس وعلى التنظيم الاجتماعي. كل ما في الأمر ان ما في هذا الكتاب انما هو تبسيط سردي للكثير من النظريات العلمية التي كان فرانسيس بيكون قد عبّر عنها في الكثير من كتبه ولا سيما في كتابه الأساسي «انستوراسيو مانيا» («اصلاح العلوم الكبير»).

ولد فرانسيس بيكون، المفكر والعالم الذي كان من مؤسسي العلوم التجريبية، العام 1561 في ستراند غير بعيد من مدينة لندن، وكانت حياته منذ طفولته نوعاً من المغامرة المتواصلة. وهو لاحقاً امتزجت لديه رغباته العلمية وممارساته الجامعية، مع تطلعاته السياسية، وهذا ما جعل حياته متقلبة، إذ مرة نجده يصل الى ذرى المجد ويُعترف به، ومرات نجده مضطهَداً مطارَداً. وهو كان، مثل عدد من المفكرين من أمثاله، لا يرتدع ازاء ما يحدث له، إذ في وقت كان ينبغي له أن ينصرف الى نشاطاته العلمية، نجده يخوض السياسة، اليومية والمبتذلة، ويقيم تحالفات سرعان ما تودي به. ومن المؤكد ان كتابته «أطلانطيد الجديدة» في العام 1621، - كواحد من آخر كتبه، إذ انه مات بعد صدوره بسنوات خمس -، انما كانت تعبيراً عن خيبة أمله ازاء السياسة الممارسة، وتفضيله لو ان العلماء (أمثاله) كانوا، هم، الحاكمين. من أهم كتب بيكون الأخرى، «التجديد الأكبر» وفي «كرامة العلوم وتنميتها» و «الأورغاتون الجديد» و «في حكمة الأقدمين» و «تقدم المعرفة» الذي يعتبره برتراند راسل أهم كتبه.

ارشيف جريدة الحياة