«اعترافات هتشكوك”.. سيرة نادرة عن سينمائي مثير للجدل!

«اعترافات هتشكوك”.. سيرة نادرة عن سينمائي مثير للجدل!

يوسف الشايب

كان ألفريد هتشكوك المولود في لندن، تحديداً في 12 آب 1899، بسن الرابعة أو الخامسة من عمره، عندما أرسله والده إلى “نقطة البوليس” ببرقية قرأها الضابط المسؤول ثم أغلق بعدها عليه باب الزنزانة لخمس أو عشر ثوانٍ، قبل أن يخاطبه غاضباً “هذا ما نفعله مع الأولاد الأشقياء”، إلا أنه لم يكن يتذكر حقيقة ما فعله، ولا محتوى البرقية، عندما أجرى الناقد السينمائي الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو، والذي خرج بكتاب عنوانه “اعترافات هتشكوك” صدر بالعربية حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، ضمن “سلسلة آفاق عالمية».

الطفولة والدراسة

وكانت أسرة هتشكوك تعشق المسرح، وكان عندما تتجمع الأسرة يجلس منزوياً في أحد الأركان صامتاً مكتفياً بالملاحظة والمراقبة، وعاش حياته هكذا، كما قال، مضيفاً: “عشت وحيداً.. ألعب وحدي، بل ولا أذكر أن كان لي أصدقاء.. ثم ذهبت إلى المدرسة في سن مبكرة بكليّة سانت إجنايتوس، وهي إحدى مدارس الجزويت بلندن في حين كانت أسرتي كاثوليكية، وهو أمر غير مألوف”، معترفاً: “ربما كانت هذه الفترة هي التي نمّت عندي الإحساس بالخوف، الخوف الأخلاقي، الخوف من ارتكاب الخطأ، وهو ما حاولت تجنبه دائماً، ربما خوفاً من العقاب الجسدي، كانوا في تلك الأيام يستخدمون عصاً من المطاط الصلب للعقاب. وأعتقد أنهم ما زالوا يستخدمونها في مدارس الجزويت. ولم يكن العقاب يوقع كيفما يجب، بل كان تنفيذه أشبه بتنفيذ حكم الإعدام، عندما تنتهي الدراسة تستدعى لمقابلة الأب الذي يدون اسمك بوقار في اللوحة مع بيان نوع العقاب الذي سيوقع عليك، بينما تقضي اليوم كله في انتظار توقيع العقوبة.

واعترف هتشكوك: كان ترتيبي الثالث أو الرابع في الفصل. ولم يحدث أن كنت أول فصلي باستثناء مرة أو مرتين.. كانوا يقولون: إنني طفل شارد الذهن.. عادة يسأل الأطفال عن مستقبلهم عندما يكبرون، وعندما قلت: إنني أحب أن أكون مهندساً وليس شرطياً.. أخذ كلامي على محمل الجد، وأرسلتني أسرتي إلى إحدى المدارس المتخصصة، وهي مدرسة الهندسة والملاحة، حيث درست الميكانيكا، والصوتيات، والكهرباء، والملاحة.

وأضاف: في تلك الفترة عرفت شيئاً من الهندسة، ونظرية قوانين القوة والحركة والكهرباء.. كان عليّ أن أعيش فعملت في شركة “هنلي” للتلغراف.. في نفس الوقت كنت أدرس الفن في جامعة لندن، وفي الشركة تخصصت في اللاسلكي، وأصبحت خبيراً فنياً، وأنا في التاسعة عشرة من عمري.

شغف السينما الأول

وعبّر هتشكوك في المقابلة (الكتاب)، عن شغفه المبكر في السينما، بالقول: كنت مهتماً بالسينما منذ سنوات سبقت دراستي الجامعية.. كنت أحب السينما والمسرح، وعادة ما أحضر وحدي الحفلات الأولى، وفي السادسة عشرة كنت أقرأ الصحف السينمائية.. ليست صحف الهواة بل المجلات المتخصصة، ولأنني كنت أدرس الفن في جامعة لندن فقد نقلتني الشركة إلى قسم الإعلانات حيث أتيحت لي الفرصة للرسم.

وأضاف: رغم ترددي على المسرح، فقد كنت أفضل السينما، خاصة الأفلام الأميركية، شاهدت أفلام شارلي شابلن، وغريفث، وكل أفلام ممثلي شركة “برامونت” المشهورين مثل: بستركيتون، ودوغلاس فيربانكس، وماري بيكفورد، وكذلك الأفلام الألمانية لشركة “ديكلا بيسكوب”، وهي الشركة التي سبقت شركة “أوفا” وكان يعمل لحسابها “مورناو».

وأشار هتشكوك إلى أن فيلم (Dar Mud Tod) وهو أشهر أفلام شركة “ديكلا بيسكوب” الألمانية كان لها تأثير خاص عليه، وقال: أتذكر أن بطل الفيلم كان برنارد جوتزيك، وفيما بعد أعجبت بأفلام “مورناو”.. في العام 1920 كان يعرض فيلم “السيد الأمير”، وكان اسمه عندما عرض في إنكلترا “ويفلز”.. أما غريفث فأذكر له بشكل خاص فيلميه “مولد أمّة” و”تعصّب».

من كواليس البدايات

وعن بداية عمله في السينما تاركاً شركة “هنلي”، قال هتشكوك: قرأت في إحدى الصحف التجارية أن شركة أميركية، وهي شركة “برامونت” للممثلين المشهورين ستفتح فرعاً لها في إلينجتون بلندن، وتبني أستوديو هناك. بل وأعلنوا عن برنامج الإنتاج. وكان من ضمنها فيلم مأخوذ عن كتاب لا أذكر اسمه، وأثناء عملي في الشركة قرأت الكتاب ووضعت رسوماً تعبّر عن العناوين، وأقصد بالعناوين الكلام الذي كان يحلّ محلّ الحوار في الأفلام الصامتة.

وفصّل: كانت هذه العناوين ترسم في ذلك الوقت على بطاقة عنوان السرد أو الحوار مع رسم صغير.. كان شيئاً ساذجاً، وكثير من الأفلام الرديئة أنقذت بتغيير الكلمات، فمثلاً لو كان الفيلم سخيفاً فإنهم يحشون فيه عناوين ضاحكة وكوميدية ومن ثم تنجح.. كان شيئاً مضحكاً، وكان بالإمكان فعل أي شيء، كأن تضع نهاية الفيلم في المقدمة.. أي شيء!!

وتذكّر: في العام 1922، وكنت في الثالثة والعشرين من عمري، وكنت في تلك الشركة التي كوّنها ميشيل بالكون مع فيكتور سافيل وجون فريدمان، واشتروا حق أداء مسرحية “من امرأة لامرأة” وطلبوا كتابة السيناريو لها، فعرضت عليهم ذلك فقالوا: أنت؟ وما هي تجربتك؟ فما كان مني إلا أن عرضت عليهم الإعداد الذي قمت به كتمرين، فأعجبوا به وعهدوا لي بكتابة السيناريو.. كانت فيلماً من بكرتين إلا أنه لم يتم.. الحكاية أن امرأة كانت تعمل بالأستوديو مع شابلن، وكان كل من يعمل معه يعتبر نجماً.. وكانت قد كتبت قصة عادية ووجدنا بعض المال في الوقت الذي كان فيه الأميركان قد أغلقوا الأستوديو.

حكايات الفيلم الأول

وعن فيلمه الأول كمخرج بعنوان “حديقة اللذة”، قصّ هتشكوك الكثير في هذا الكتاب، ومنها عمل زوجته المستقبلية “ألما” معه في الفيلم الذي تم تصويره في “جنوا” الإيطالية وهو إنتاج مشترك إنكليزي ألماني، وكان من بطولة نجمة هوليوود فرجينيا فالي، التي اصطحبتها زوجته إلى باريس لشراء الملابس قبل الالتقاء في إيطاليا، وكيف ضاعت حقيبة الممثل مايلز ماندر، وحين عثر عليها قفز من القطار ليأخذها من حيث نسيها، ولحق به رجال الشرطة للاشتباه بشيء ما وراءه، وكيف طُلب منه إخفاء الكاميرا بل وتهريبها على الحدود الإيطالية، كي لا تفرض عليهم الجمارك، ونجحوا في الأمر، لكن الأفلام الخام تمت مصادرتها، فتم شراء أفلام بديلة في إيطاليا بعشرين جنيهاً إسترلينياً، ما أثر على موازنة الفيلم التي هي من مسؤولياته أيضاً، وإن كان يكرهها كما أكد.

وتحدث هتشكوك عن الفتاة الألمانية التي كان من المقرر أن تلقي بنفسها في البحر، وتعذر ذلك بسبب “الحيض”، وكيف تم استبدالها بأخرى أكثر بدانة.. “وفي كل مرّة كان يحاول فيها البطل انتشالها تسقط منه في الماء فيضحك الجمهور الذي كان في موقع التصوير، يتفرج على ما يجري”.. واعترف: كنت مرعوباً من أن تعرف فيرجينيا فالي أنه أول أفلامي، أو أننا نعاني من أزمة مالية، خاصة بعد أن رفضت ومعها ممثلة ترافقها إنزالهما في فندق “ويستمنستر”، وأصرت على الإقامة في فندق “كلاريدج”، وبدأ التصوير، وكنا نصور مشاهد الليل في الشمس ثم نصبع الفيلم باللون الأزرق، وكان عليّ أن أسألها بعد كل لقطة عن النتيجة.

ولفت إلى أنه استنفذ مقدمة أجره من الشركة البريطانية، وأموالاً إضافية أرسلت من الشركة الألمانية في المصاريف التي لم يكن يحسب حسابها، كبدل ِإيجار الزوارق، ومستحقات الفندق، وثمن الحمولة الزائدة في القطار، والأموال المفقودة جراء تحويل العملة الإيطالية إلى الفرنك السويسري، وركوب مواصلة أخرى إلى زيورخ جراء تأخر القطار، وقضاء ليلة غير مبرمجة في المدينة السويسرية، ومبلغ خمسة وثلاثين فرنكاً عوضاً عن حقيبة كنت أحملها ارتطمت بزجاج نافذة القطار وحطمته.. لقد حملت الحقائب كي أوفر أجرة من يقومون بذلك في المحطة.. كانت هذه أشياء حصلت من بين ما حصل في أول تصوير خارجي لي.

وختم حول الفيلم الأول له: صورت المشاهد الداخلية في ميونيخ، وعرضنا النسخة النهائية على ميشيل بالكون الذي حضر إلى لندن. كان في نهاية الفيلم مشهد يتجه فيه الشرير بعصبية إلى باتسي ويهددها بالسيف في الوقت الذي يصل فيه الطبيب ومعه مسدس، وكل ما فعلته هو أن صورته في مقدمة الصورة بينما البطلة والمجنون في الخلفية، ويطلق الطبيب الرصاصة عليه فيصيبه وتعيده الصدمة إلى صوابه، ثم يلتفت إلى الطبيب، قبل أن ينهار نازفاً ويموت، إلا أن أحد المنتجين الألمان اعترض على المشهد باعتباره “غير معقول ومليئاً بالقسوة”، وفي نهاية العرض قال بالكون: إن الملفت للنظر من الناحية الفنية محاكاة الفيلم للأفلام الأميركية.. لقي الفيلم ترحاباً من الصحافة، فقد خرجت “ديلي إكسبرس” اللندنية بعنوان يصفني بالشاب ذي العقل الراجح.

حكايات أخرى

كثيرة هي الحكايات التي اتسعت لها ما يقارب الثلاثمائة وخمسين صفحة، منها اعتبار المخرج الذي ارتبط عند الجمهور بالإثارة البوليسية والتشويق، أن فيلم “النزيل” هو أول فيلم “ينتمي لهتشكوك فعلاً، بينما اعتبر فيلم “حلقة الملاكمة”، وإن كان بينهما عديد الأفلام، “الثاني لهتشكوك بعد النزيل”، متذكراً كيف قابله الجمهور بحفاوة، في حين قال عن أول أفلامه الناطقة العام 1928 “ابتزاز”: إن قصته كانت بسيطة وإنه لم يخرج كما أراد له، وتم تقديمه بنفس طريقة فيلم “النزيل”.. “لقد قرر منتجو الفيلم بعد تردد أن يكون الفيلم كله صامتاً إلا في الفصل الأخير لإعلانهم أنه ناطق بعض أجزائه”، مشدداً على أنه لم يكن ليقدم فيلماً عن رواية “الجريمة والعقاب” لدوستوفسكي، لأنه “كي تصنع هذا النص بلغة السينما، فإن الأمر سيؤدي لك لتصنع فيلماً يستغرق ما بين ست إلى عشر ساعات من العرض، كي يكون فيلماً جيداً».

ولطالما شدد هتشكوك على ضرورة التفريق ما بين “التشويق” و”الإثارة”، وأن “الغموض نادراً ما يكون مشوقاً، بل يخلق نوعاً من حب الاستطلاع دونما عاطفة أو شعور، والشعور عنصر مهم في التشويق، وأن “تجاهل النقاد للمخرج يجعله يتوجه مباشرة لاعتراف الجمهور».

يتحدث هتشكوك بعد ذلك بالكثير الكثير من التفصيل عن أفلامه، ولكن المتعة في أن الكتاب يتعرض بالتحليل والدراسة لهذه الأفلام من خلال حوار طويل أجراه معه تروفو الناقد والمخرج والمنتج، كعلم من أعلام ما عرف بالموجة الفرنسية الجديدة التي روجت لما سميّ “سينما المؤلف”، حيث المخرج ليس مجرد حرفي وجزء من نظام فني، وهو ما كان عليه هتشكوك الذي كانت له رؤيته الفنية وعوالمه الخاصة.

عن موقع الميادين