فالتر بنيامين.. مسودات العالم الداخلي للفكرة

فالتر بنيامين.. مسودات العالم الداخلي للفكرة

دارا عبدالله

منذ حوالي عشرين عامًا، تم الانتهاء من طباعة كلّ الرسائل التي كتبها الكاتب الألماني فالتر بنيامين (1892-1940)، وجمعت في ستة مجلّدات. في العام الماضي، قامت “أكاديمية الفن” في برلين بنشر كتاب مصوّر من أرشيفها، يحتوي على مسودات بنيامين الشخصية، والتي لم ينشرها في فترة حياته. يتضمّن الكتاب المصوّر حوالي مئتي نص، وإذا جعلنا الفهم معيارًا، يمكن تقسيمها إلى نوعين من النصوص: مفهومة وغير مفهومة.

النصوص المفهومة هي الرسائل التي استُلِمَت، والمقاطع عن أحداث مؤرَّخة في أمكنة وأزمنة محددة، ومسوّدات المقالات القريبة من المقالات، والأفكار في مراحل نضجها الأخيرة. أمّا غير المفهومة فهي الأرقام الغامضة، والأحداث غير المؤرخّة، والرسائل التي لم تُستلَم، والجمل القلقة المليئة بالأخطاء الإملائيّة، والافتراضات غير المترابطة، والكلمات التي بقيت ألغازًا، والسطور الغامقة التي تمَّ الشطب عليها بعزم لتصبح غير مقروءة.

في القسم المفهوم، المواكبة الزمنية واضحة مع الأفكار التي نشرها بنيامين فعليًا في مقالاته وكتبه. المقاطع التي تتحدّث عن مفهوم “سياسة الأدب” مثلًا متوافقة زمنيًا مع الفترة التي نشر فيها مقالات في نظرية النقد الفني. يدعم بنيامين في مسوّداته غير المنشورة نقده المعروف لممارسة “سياسة الأدب”، من خلال الإشارات إلى تنازلات شخصيًة قدّمها هو بنفسه تماشيًا مع اعتبارات سياسيّة. تنازلات لم يكن ليقدمها لولا الضائقة الاقتصادية التي عاشها خلال سنوات المنفى، وهو هارب من الحزب القومي الاشتراكي العمالي في ألمانيا. ولكن الرقم 13، الوارد في إحدى المسودات، لا يمكن فهمه أبدًا. لن يلاحق أحد رقمًا ربمّا يدل إلى شقة في شارع أو أعداد جثث أو موعد طبيب.

يظهر الكتاب المُصوَّر حالات يعيشها ممارسو الكتابة، كعجز صياغة جملة أمام الورقة البيضاء، أو صعوبة تجميع الأفكار، أو ما يتمّ حذفه والتخلّي عنه، أو التلميحات والإشارات والأشخاص التي تكشف العالم الداخلي للفكرة. في إحدى صفحات الكتاب المصوّر توجد عبارة غامضة تقول: “من الشيء الثاني إلى الشيء الثالث”، والتي كتبها بنيامين بالتزامن مع اشتغاله حول مفهوم “هالة” العمل الفني (Aura). من أين يأتي الربط بالضبط بين عبارة “من الشيء الثاني إلى الشيء الثالث” في الكتاب المصوّر، ومفهوم “الهالة” في نصّه المشهور حول الأمر عام 1935، والذي أحدث تأثيرًا مدويًا في عالم الفن المعاصر.

لفهم الربط، لا بدّ من شرح بعض الأفكار الواردة في الفصول الأولى من المجلّد الأوّل لكتاب “رأس المال” لماركس. عند ماركس، القيمة الاستعمالية هي الشيء داخلًا في طور الاستهلاك. القيمة الاستعمالية للقلم مثلًا هي الكتابة، والقيمة الاستعمالية للسلاح هي القتل والترهيب. القيمة الاستعمالية هي الخاصيّة الاستخدامية المباشرة للشيء. أمّا القيمة التبادلية فهي الشيء داخلًا في طوري البيع والشراء. تنتقل القيم الاستعماليّة من مالك إلى مالك عن طريق القيمة التبادليّة. تاريخيًا، في المقايضات البسيطة كانت القيمة التبادلية هي بيوض الدجاج أو رؤوس الماشية. ولا توجد بنية اجتماعية بدون الاتفاق على قيمة تبادليّة. وإذا استدعى الأمر، “العبيد يصبحون نقدًا” كما يقول ماركس. القيمة التبادلية الموحّدة، أي المال بشكله الحالي، هو الشكل التاريخي الأكثر تطوّرًا للقيمة.

بناء عليه، يحصر ماركس الشيء وجوديًا في ثلاث حالات فقط. في الحالة الأولى، يمتلك الشيء قيمة استعمالية من الطبيعة، كالأرض البكر والمراعي الطبيعية والمياه الجوفية، ولكنه لا يمتلك قيمة تبادلية، لأنّه ليس نتاجَ عمل بشري، بل هو موجود مسبقًا من الطبيعة. في الحالة الثانية، يمتلك الشيء قيمة استعمالية، لكنها تلبي فقط حاجة فرديّة لشخصٍ معين، ولا تلبّي أي حاجة اجتماعيّة مشتركة. الشيء في الحالة الثانية لا يمتلك قيمة تبادليّة، لأنّ قابلية الشيء للتبادل تتطلب تلبيته لحاجة اجتماعية مشتركة. الناس لا يشترون أشياءً لا تلبّي حاجاتها. العمل الفنّي والتذكارات التي تمتلك معاني في الذاكرة وأعمال النحت المعاصرة، مثلًا، هي أشياء تلبي فقط حاجة فرديّة، ونوع العمل الموجود فيها هو عمل فردي.

لكنّ الشيء في الحالة الثالثة يمتلك القيمتين، الاستعمالية والتبادليّة، لأنّ العمل المتخثّر في الشيء الثالث هو عمل اجتماعي، كالهواتف المحمولة والثياب والسيارات. يوجد الشيء إذًا في ثلاث حالات: من الطبيعة وبدون عمل بشري في الحالة الأولى، ومن عمل بشري فردي في الحالة الثانية، ومن عمل بشري اجتماعي في الحالة الثالثة. يسمّي ماركس الشيء في الحالة الثالثة بـ “السلعة» Die Ware، وهي “الخلية الأوّلى في جسد النظام الرأسمالي”. بالمناسبة، “رأس المال” هو دراسة التناقض بين القيمتين الاستعمالية والتبادلية داخل هذه “الخلية الأولى».

الآن يتوضّح أكثر غموض عبارة بنيامين: “من الشيء الثاني إلى الشيء الثالث”. العبارة الحادة هي السؤال الخفي في نصه حول مفهوم “الهالة”. إذا كان العمل الفني، بحسب ماركس، شيئًا لا يمتلك قيمة تبادليّة، كيف تحوّل إذًا في ظل النظام الرأسمالي إلى سلعة لها قيمة محددة، وأحيانًا مفتوحة على اللانهاية في المزادات؟ وكأنّ العمل الفردي الموجود في المنجز الفني يصبح عملًا اجتماعيًا، وكأنّ الشيء الثاني يصبح الشيء الثالث.

الكتاب المصوّر يكشف أيضًا بعض المآسي والأسرار الشخصية. ثمّة مسودة رسالة يبدو أن بنيامين شقها من المنتصف مكتوبة عام 1917 وموجّهة إلى والديه. الرسالة مكتوبة بروح مرحة ولا تحتوي على أي محاولة تشطيب. في رسالة أخرى، شبه مشطوبة بالكامل، مكتوبة عام 1936، ثمّة بعض الجمل القابلة للقراءة بصعوبة. في تلك الفترة، كان بنيامين يعاني من صعوبات مالية، إذْ تتضمن الرسالة عبارات مثل: “أتمنى أن تبقيني على رأس عملي”، والجهة المُخاطَبَة مجهولة. تكشف رسالة أخرى أنّ بنيامين الذي نشر كتابًا عن الحشيش، مارس لعبة القمار أيضًا أثناء زيارته موناكو، وتحديدًا كازينو “مونتي كارلو” التاريخي. يلمّح الكاتب الذي ولد في برلين عام 1892 إلى الحادثة بلغته الخاصة: “لعبت براحة بال، لأنّ حزني من مغادرة برلين لن يتركني».

عاش بنيامين قصّة حب صامتة مع فتاة ألمانية - روسية اسمها أولغا باريم، والتي رفضت عروضه للزواج مرارًا. يقول في رسالة كتبت قبيل انتحاره بدون أي عنوان أو أيّ إشارة إلى أي اسم: “صوتكِ في رأسي حبلٌ يلفّ جسدي. لا يمكنني الابتعاد عمّا في رأسي، وإذا غادر صوتك سيشتدّ الحبل ويُقطِّع جسدي. منذ اللحظة الأولى وأنتِ تدخلين الغرفة، أصمتُ لأنّ في فمي ثلاثَ كلمات فقط: أرجوكِ ابقي هنا. أكتب لك كثيرًا في غيابك، وأبقى صامتاً في حضورك، وكأنني يدٌ ممدودة تنسحب لحظة المُصافحة. أريد فقط بعض الذكريات وأنتِ ترتدين معطف الفرو الرمادي”. في سبتمبر/ أيلول من عام 1940، انتحر بنيامين في جبال البرانس على الحدود الفرنسية الإسبانية، خوفًا من الوقوع في قبضة النازيين، بدون أنْ يرسل هذه الرسالة إلى باريم، وتوفّيت باريم دون أن تقرأها.

عن العربي الجديد