عندما تكون السيرة.. تمثيلاً للإبداع..بلقيس شرارة في كتاب عن رفعة الجادرجي

عندما تكون السيرة.. تمثيلاً للإبداع..بلقيس شرارة في كتاب عن رفعة الجادرجي

د. خالد السلطاني

اصدرت الكاتبة العراقية بلقيس شرارة (1933) كتابا بعنوان «رفعة الجادرجي: حياة غنية حافلة بالانتاج» (منشورات المدى، لسنة 2021، وجاء بـ 288 صفحة من القطع المتوسط. وقد صمم غلاف الكتاب واشرف على صوره المعمار احمد الملاك).

والكتاب يتناول سيرة المعمار العراقي المعروف «رفعة الجادرجي» (1926 -2020)، الذي غادر عالمنا في مساء 10 نيسان من السنة الماضية. معلوم ان نشاط رفعة الجادرجي لم يقتصر على المنتج المعماري التطبيقي، وإنما شمل ايضاً الجانب التنظيري له، حيث اصدر عدة كتب تتعاطي مع موضوعة العمارة ونظرياتها. وقد عدت غالبية مشاريعه المعمارية من ضمن النماذج المهمة والرائدة في سردية عمارة الحداثة العراقية والاقليمية؛ وامست بعض امثلتها المبنية ايقونات حقيقية للبيئة المبنية التى تتواجد فيها.

هذا بالاضافة الى اهتماماته بالتصوير الفوتوغرافي وممارسته له، والذي استطاع من خلاله ان يوثق بمهارة عالية تحولات المجتمع العراقي ويصور ناسه ذَوي الاثنيات المتنوعة ويظهر بامانة امكنته المميزة بجغرافيتها المختلفة، فضلا على شغفه في الجانب الفلسفي والعلوم الانثروبولجية. ولطالما استقبلت كتاباته ومؤلفاته في قضايا التنظير المعماري وفي الشؤون الفنية والمعرفية، استقبالا حافلا من قبل كثر من القراء المهتمين بكونها اضافة لافتة في ذخيرة المكتبة العربية المعمارية والفنية واثراءاً للثقافة عموماً.

والكتاب الذي نعرض له في هذة المقالة، مكتوب بلغة رشيقة وبارعة ومترع بالاحاسيس الجياشة الصادقة عن مسيرة ذلك الرجل الذي كان زوجاً ورفيقا وصديقا لسنين، بل لعقود من السنين. وعن تلك الاعوام، التى قضتها معه وبصحبته كزوجة ورفيقة عمر، تنقل لنا بلقيس شرارة، خاصية تلك الصحبة الطويلة وأحاسيس البهجة والهناء والسعادة التى كانت تملء اجواء بيتهما، اذ انها، وكما كتبت في كتابها، تعرف “... بانني كنت محظوظة بالعيش معه أكثر من ستة عقود، عقود الفرح والمتعة، عقود السعادة والثقة والشراكة بيننا، التي دامت طيلة هذا الزمن. فأن تجد شخصاً يسندك ويدفعك في تحقيق طموحك، هو أهم ما في سيرة الإنسان. ما كان يلهمني هي طيبة النفس والكرم العميق الذي تجلى في تلك الذات التى فقدتها” (ص. 276). لكنها، أيضاً، تتذكر تماما كيف نقل جثمان رفعة من بيتهما بسيارة المستشفى، وتقول “غابت السيارة عن ناظري وأنا أتابعها في الظلمة حتى اختفت، ووجدت نفسي أردد أهكذا ينتهي الإنسان؟” (ص. 16). وفي مكان آخر تشير الى ذلك الفراغ والالم والاسى، الذي حلّ بها لرحيله؛ الرحيل الذي كان لديها، كما كتبت، بمثابة “لحظة قاتمة سوداء، انها لحظة الحزن والفراغ الذي احدثه في حياتي. الآن الأيام تذوي أمام ناظري والنهار يذوب في الليل، والعتمة في كل مكان مهيمنة على الوجود بفقدانه. إن هوة الفراغ الذي أحدثه، أضاعت توازني أحياناً. أحدق أحياناً بالظلمة لكيلا أبكي على نفسي، أحس بفراغ كبير، كشجرة خاوية من ماء الحياة”. (ص. 278). ولعل تلك الاحاسيس المحزنة التى انتابت “بلقيس شرارة”، وما برحت تنتابها بفقد زوجها ورفيقها، وفي إستعادة ايام حياتهما المشتركة، كانتا باعثاً لتأليف هذا الكتاب القيم الذي كرسته المؤلفة لحياة وعمل رفعة وابداعاته المعمارية والفنية والمعرفية، وربما وشيا ذينك الباعثان الرئيسيان، ايضاً، بمضمونه وبمتنه المسرود بتلك الحميمية الصادقة التى نحسها في كل كلمة من كلمات تلك السيرة المبدعة!

يتضمن كتاب “رفعة الجدارجي حياة غنية حافلة بالانتاج” اثنا عشر فصلا وثلاث ملاحق: الملحق الاول عبارة عن اعادة كلمة لبلقيس سبق وان نشرت في صحيفة المدى بعنوان “رحيل المعمار والمنظر رفعة الجادرجي”، والملحق الثاني مخصص الى ذكر محطات من سيرة رفعة الذاتية، اما الثالث فمكرس لذكر مشاريعه المصممة المنفذة منها وغير المنفذة. فضلا عن تسجيل المراجع والمصادر التى اعتمدتها المؤلفة في تأليف كتابها.

تدلل فصول الكتاب عن محتوياته وتشير عناوين تلك الفصول الى مواضيع متنه المكتوب. فمنذ الفصول الاولى نعرف الكثير عن عائلة رفعة الجاردجي، ودراسته للعمارة في لندن ومن ثم العودة الى الوطن والاشتراك مع عبد الله احسان كامل (1919 - 1985)، وأحسان شيرزاد (1920 – 2015) وغيرهم في تأسيس مكتب “الاستشاري العراقي”، كاحد اهم دور الخبرة المهنية في العراق وفي محيطه الاقليمي. بعد ذلك تسرد المؤلفة في الفصول التالية عن الاحداث المهمة التى عاشها الزوجان بدءا من سرد وقائع الخطبة والزواج، ثم حدث ثورة تموز 1958، وانقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم، تليه احداث تنوع الاهتمامات المهنية يعقبه حدث وفاة والد رفعة، الاستاذ كامل الجادرجي (1897 – 1968)، الشخصية الديمقراطية المعروفة. كما تأتي المؤلفة على ذكر اربعينيته في حفل تأبيني اقيم له ببغداد، وحضره كثر من العراقيين المقدرين لدور الجادرجي الاب في تعزيز القيم الديمقراطية والتقدم، واحتراما وتقديرا لنضاله الطويل في رؤية بلدنا بلدا متقدما ومسالما وديمقراطيا. واذكر تماما باني شخصيا مع لفيف من اصدقائنا حضرنا ذلك التأبين في قاعة الخلد، عرفاناً وامتنانا بفضل تلك الشخصية البارزة في تاريخ البلاد، كما حضر ايضا حفل التأبين سياسيون عرب بضمنهم الشخصية الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط.

بعد ذلك تتوالى فصول الكتاب، مسجلة الكاتبة فيها الاحداث الكبرى التى شهدتها هي، شخصيا، وشهدها معها رفعة: انقلاب 1968، ثم الحكم على رفعة بدواع كيدية بالسجن المؤبد، تليها احداث الحرب العبثية التى افتعلها النظام مع ايران، وطبعا ذكر المؤتمرات المهنية العديدة التى شارك بها رفعة والسفر الى الولايات المتحدة بدعوة من جامعات امريكية مرموقة، والسكن والعمل والدراسة في امريكا لفترات زمنية طويلة، ثم الرجوع الى لندن والاستقرار فيها والشروع في تأليف كتب تتعاطي مع الشأن المعماري المهني والتنظيري. يعقب ذلك ذكر انواع التقدير العالي الذي منح للمعمار العراقي من قبل منظمات عربية وعالمية، ثم احداث سقوط النظام البعثي والاحتلال الامريكي للعراق، فضلا على تسجيل مختلف الانشطة المعرفية والتنويرية التى قام بها رفعة لجهة تكريس رؤاه المهنية ونشرها على نطاق واسع في كتب ومؤلفات اعتبرها شخصياً مميزة واستثنائية وحتى غير مسبوقة في الخطاب المعماري المحلي والعربي على حدٍ سواء.

واذ انتقي حدث واحد من احداث فصول الكتاب المعنية في واقعة تأليف كتاب” الاخيضر والقصر البلوري” الصادر عام 1991، فما هذا سوى اشارة الى نوعية “ذهنية” رفعة الجاردجي، واصراره على الحياة والانجاز في اصعب الاوقات، واشدها ظلما وتعسفاً. واني وان كنت اعتبر هذا الكتاب (كما اشرت الى ذلك مراراه في كتاباتي السابقة)، بانه احد اهم الكتب الصادرة عربيا التى تتناول العمارة بمعناها الواسع وحضورها المؤثر؛ فاني اود ان اشير هنا، الى حدث مأثرة كتابة هذا المٌؤَلف القيم والنادر في الخطاب المعماري العربي. وانا أُسمّيها بـ “المأثرة” لان معارف محتوياته فريدة من نوعها، لكن الاهم في ذلك، باعتقادي، هو اسلوب وطريقة كتابته وزمنها ومكانها. فالكتاب إياه تمت كتابته في السجن، عندما كان رفعة فيه. وكان باعترافة لم يكتب شيئا مهما في اللغة العربية من قبل. اذ “..اني – وكما اعترف هو شخصيا- لم اكتب سطرا واحدا في حياتي باللغة العربية.. كنت أكتب بالانكليزية وكل دراساتي باللغة الإنكليزية، وكل كتبي ومعلوماتي باللغة الإنكليزية. ففي السجن كان معي الصديق عطا عبد الوهاب، “فكنا في بعض الحالات نتمشى مدة عشر دقائق او ربع ساعة، وكانوا يسمحون لنا بهذا، فكنت اتكلم أنا عن بعض الاشياء، فقال لي لماذا لا تكتب هذة المسائل؟ قلت له: سوف أكتب بالانكليزية، قال لي: لماذا لا تكتب بالعربية؟ قلت له: أنا لا اعرف العربية، قال لي: أكتب ,أنا اصحح لك”. وفي اول يوم تكلم فيه رفعة سجل عطا كل ما قاله، وثاني يوم “كتبت وصلّح، وثالث يوم كتبت وصلح اقل، في اليوم الرابع او الخامس، بدأت أنا أكتب ووصلنا الى ربع الكتاب، اصبحت تصليحاته قليلة لانه علمني في تلك الفترة الكتابة” (ص. 187 - 188).

قد تبدو تلك الكلمات التى يذكرها رفعة بصدد الاعداد وكتابه مؤلفه، سهلة في النطق وربما لاحت احداث سردها وكأنها ممتعة أو مثيرة. لكننا علينا ان تنذكر تلك الاجواء القاتمة المخيمة عليهما، ومدى الظلم والتعسف والغبن والتعسف الذي لحق بهما كليهما الاثنين (كان عطا، هو الآخر، وقتها محكوم..بالاعدام! وايضا بدوافع كيدية وغبر حقيقية وكاذبة!)، ولندرك ونتمعن ضغط الظروف القسرية التى تعايشا معها وقتذاك، ومع هذا يتم انجاز تلك “المأثرة” الكتابية التى تحدثت عنها. واعتقد ان مجرد استعادة تلك الحادثة والتذكير بها (وكما فعلت المؤلفة في كتابها ايضاً)، تعطي المتلقي فكرة عن اصرار وحزم وثبات ذلك الانسان المثقف، وتشي بنوعية “طينته”، مثلما تظهر توقه نحو المعرفة واحترام الآخر والاعتراف به وبانجازاته!

لقد قدمت بلقيس شرارة، مشكورة لنا في كتابها النافع والنفيس، سيرة رجل عراقي زاخرة بالابداع ومترعة بالانجازات المهنية والثقافية، رجل، يمكن ان يكون ممثلاً أميناً بحق عن رجالات ونساء الطبقة الوسطى العراقية، الذين بغالبيتهم ساهموا بجهد منقطع النظير، وحاولوا بعلمهم وعملهم الذي لا يضارع الى اثراء حياتنا الثقافية، وان يكون بلدنا: بلداً متقدماً وحضاريا، ً يسعد مواطنيه ويرفع من قيمتهم ويغني تطلعاتهم بحس انساني عال.

ان قراءة نصوص هذا الكتاب وتفحص مواده واحداثه المثيرة، التى اقترنت بسيرة رفعة الجادرجي، تستدعي مرة اخرى قيمة ما قدمه رفعة وما كان يمثله من قيم، ويستحضر، ايضا، صنوف الظلم والظلام والغبن غير المستحق الذي وقع على مصير هذا الانسان وعلى امثاله من العراقيين البررة.

شكرا، بلقيس، لهذا الجهد المميز في اصدار كتابك القيم عن رفعة، الذي ندعو الجميع للاطلاع عليه ولاسيما المهنيين منهم، ونعرب عن تعاضدنا المخلص معك لفقدك عزيزك: معمارنا البارع، وقدوتنا المعتبرة!