جاك القدري ومعلمه  للتنويري ديدرو مساهمة فرنسية في روايات الطريق

جاك القدري ومعلمه للتنويري ديدرو مساهمة فرنسية في روايات الطريق

إبراهيم العريس

منذ مفتتح كتابه “جاك القدري ومعلمه” يحدد لنا الكاتب والفيلسوف والموسوعي الفرنسي ديني ديدرو أن أحداث الكتاب تجري “على الطريق” دون أن يحدد ما الطريق وأين تقع، بل إنه يكتفي منذ السطور الأولى كذلك بأن ينقل لنا أسئلة لا شك أنه يفترض أننا نطرحها بأنفسنا ما إن نبدأ بالقراءة.

أسئلة من نوع “كيف التقى هذان الرجلان في عبورهما معاً تلك الطريق؟ هل تراهما التقيا صدفة كما يحدث مع كل الناس؟” أو “بماذا ندعوهما إن كان هذا يهمكم؟” أو “من أين هما آتيان؟ هل من المكان الأقرب إلى حيث نلتقيهما؟ وإلى أين هما ذاهبان؟ هل يمكن لامرئ أن يعرف حقاً إلى أين هو ذاهب؟”... إلخ.

في النهاية نعرف أن من لدينا هنا في ذلك الترحال سيداً وخادماً، تماماً كما الحال في رواية “تريستان شاندي” لستيرن التي كانت صدرت بالإنجليزية قبل الرواية التي نحن في صددها بسنوات قليلة، والتي سارت بدورها في هذا السياق بالذات على خطى رواية الإسباني تسربانتس الكبرى والمؤسسة “دون كيخوتي دي لا مانشا” لتشكل الروايات الثلاث معاً نوعاً من أدب طريق ستستعيره سينما القرن العشرين كثيراً، ولكن ليس هذا ما يهمنا هنا، ما يهمنا هو رواية ديدرو التي يمكن اعتبارها من أهم روايات هذا المبدع الكبير حتى وإن كانت تفوقها شهرة أعمال أخرى له مثل “الراهبة” لأسباب رقابية طبعاً، و”الموسوعة” لأسباب علمية وأخرى تتعلق بالدور الذي لعبه هذا العمل الجماعي الكبير في تاريخ الأفكار كما في تاريخ الوعي الممهد للثورة الفرنسية، حتى وإن كان الثوار سريعاً ما سينسون هذا الفضل لديدرو إلى درجة نبشهم قبره وإخفائه بحيث لم يعد له مقر أبدي حتى اليوم.

طبعاً حكاية ديني ديدرو (1713 – 1784) معروفة وكذلك يعرف الجميع كثيراً عن الظلم الذي لحق به تاريخياً حتى لاقاه في قصر كاترين الثانية ملكة روسيا التي استدعته لإعجابها بفنه وعلمه ثم اشترت مكتبته، فكانت النتيجة أنه عاش لديها آخر سنوات حياته من دون أن ينتج ما هو جدير بفكره وضاعت مكتبته وتشتتت بحيث تبخرت معها مخطوطات كثيرة ودفاتر بخطه، لكن “جاك القدري ومعلمه” سلمت من ذلك المصير حتى وإن لم يقيض لها أن تنشر للمرة الأولى إلا بعد سنوات من رحيل كاتبها. ومهما يكن من أمر لئن كانت هذه الرواية تعتبر فرنسية تماماً، فإن ديدرو لم يكتب حرفاً منها في فرنسا، ولا هي طبعت وصدرت للمرة الأولى في فرنسا، بل خارجها من دون اسم المؤلف، ناهيك بأنها لم تعرف من قبل الجمهور العريض أول الأمر إلا في ألمانيا وتحديداً من خلال ترجمة الشاعر شيللر لواحدة من حكاياتها ستكون الأشهر بين تلك الحكايات وهي المعروفة بعنوان “مدام بوميراي والمركيز دي آسي”. ونقول واحدة من حكاياتها لأن هذه الرواية تتألف، على طريقة “ألف ليلة وليلة” مثلاً، من عدد كبير من الحكايات. وهي حكايات يرويها في البنية المركزية للرواية الخادم جاك الملقب بالقدري من جراء إيمانه بالأقدار ودورها في حياتنا، لسيده، للتسرية عنه خلال ذلك السفر الطويل الذي يقومان به معاً.

بدأ ديدرو كتابة الصفحات الأولى من “جاك القدري” في مدينة لاهاي الهولندية في عام 1773، إذ نزل بها وهو في طريقه إلى روسيا حيث يلبي دعوة راعيته الإمبراطورة كاترين الثانية. وهناك في روسيا بعد سنوات وقبل رحيله عن عالمنا اختتم ديدرو كتابته للرواية لكنه لم ينشرها، ومن هنا احتاجت للانتظار ثمانية أعوام بعد موته لتنشر ولكن بالألمانية أولاً، قبل أن تنتظر أربعة أعوام أخرى لتنشر للمرة الأولى بالفرنسية عام 1796 بعد أن نشر جزء منها في “مراسلات” غريم. وعلى هذا النحو عرفت هذه الرواية التي ستضحى من أشهر أعمال ديدرو مصيراً غريباً من المؤكد أن الكاتب لم يتوقعه حين ذكرته رواية ستيرن بـ”دون كيخوتي”، فقرر أن يجرب حظه في نص يشكل معادلاً فرنسياً لهما!

ولكن لماذا كان على رواية “جاك القدري” أن تنتظر كل تلك السنين قبل أن تظهر؟ ببساطة لأن ديدرو كان قد بذل جهوداً كبيرة في إنجاز مقالات ونصوص أخيرة من موسوعته تتوزع على ستة مجلدات، ما أنهك كهولته وقد بات في الستين من عمره وبات في حاجة إلى فترة راحة طويلة. ومن هنا حين دعته إمبراطورة روسيا لزيارتها والإقامة ردحاً من الزمن في حمايتها وضيافتها لبى الدعوة من دون تردد، معتبراً الإقامة في البلاد الروسية فترة من الراحة. وهكذا لئن كان قد انصرف حتى من قبل وصوله إلى روسيا، لكتابة تلك الرواية الأخيرة، التي ستكون واحدة من آخر أعماله الكبرى، لم يكن يفكر لا بنشرها ولا حتى بأنه يمكن أن ينجزها. كانت نوعاً من استراحة محارب بالنسبة إليه. ومن هنا تعامل معها كأنها نوع من إيقاظ وعي لدى من سيتاح لهم أن يقرأوها لاحقاً، من دون أن يحاول حتى التركيز فيها على حكايات قد تمس شغاف القلوب. كان يكتب كأنه يكتب لنفسه، وهو الذي من الواضح أنه إنما أراد أن يرسم صورة لشخصيتي الرواية المحوريتين تصورهما معاً أنا/آخر له. أي إنه كان في النص يخاطب نفسه كأنه يرسم جردة فكرية لجهود حياته. ومن الواضح أنه نجح في ذلك إلى درجة رغب معها في أن يبقي العمل عملاً خاصاً به بعيداً من القراء والمتطفلين.

وفي هذا تختلف هذه الرواية عن روايتيه الكبيرتين الأخريين “الراهبة” و”ابن أخ رامو”، ولكن ليس عن العشرات الأخرى من نصوصه الفكرية والعلمية. ومن هنا أيضاً تلك الروح المرحة الساخرة المتدفقة حيوية ومرحاً، التي تلوح من خلال طريقة الخادم في إخبار سيده الذي بدأ بالتدريج يطلب مزيداً ومزيداً ويحس بحاجته المتزايدة إلى خادمه، ولا سيما حين كان هذا يتفنن في رواية حكايات غرامياته التي لا تنتهي، وسيده فاتح أذنيه فضولاً وعينيه تشوقاً وشفتيه ببلاهة شديدة، وقد راح الخادم يسيطر عليه أكثر وأكثر حكاية بعد حكاية، تماماً كما تمكنت شهرزاد من السيطرة على مليكها حكاية بعد حكاية، بل إن ديدرو الذي يتضح تماماً من خلال هذه الرواية أنه مثل ستيرن وتسربانتس من قبله كان يعرف “الليالي العربية” تماماً، حاكاها كل المحاكاة في الأقل في قطعه حكايات الخادم دائماً عند لحظة تشويقية تزيد فضول السيد و”انحناءه” أمام لعبة خادمه، لأسباب تبدو للوهلة الأولى غير مقصودة في لعبة تشويقية تليق بهتشكوك!

ولكن ما الذي كان الخادم يرويه ونقله ديدرو هنا بلغة مرحة لم تكن معهودة لديه وهو العالم الجاد والروائي المأساوي؟ كالعادة، كل أنواع الحكايات ومن بينها حكايات خاصة به وأخرى خاصة حتى بسيده كانت قد أفلتت من ملاحظة هذا الأخير حين حدثت وها هو ذا الخادم يعيد إحياءها الآن على مسمعه، ولكن أيضاً حكايات أخرى فيها ما ينتمي إلى المغامرات وما يتسم بطابع الوعظ الأخلاقي. وحكايات نميمة تتعلق بأناس يعرفهم وأخرى تتعلق بأناس لن يدرك السيد أبداً في ظل لهفته وتشوقه أن خادمه قد اخترعهم من دون أن يكون لهم وجود مدعياً معرفته بهم من قرب، بل حتى زاعماً أن السيد يعرفهم كذلك ولكن يبدو أنه نسيهم... وعلى هذا النحو تمضي الرحلة وتمضي معها حكاياتها التي من الصعب معرفة الكيفية التي تولد بها إحداها من سابقتها لتلد ما يليها. ففي النهاية إذا كنا نشعر ونحن نقرأ هذه الرواية بالمتعة نفسها التي يستشعرها السيد مستمعاً والخادم حكواتياً، فإن ما نجده أمامنا هنا يبدو لنا متجاوزاً هذا: يبدو ذا علاقة مباشرة بسر الحكي وجوهر لعبة التلقي مطروحة بكل تركيبيتها. ولعل هذا ما جعل كتاباً كباراً، من آخرهم ميلان كونديرا يفردون لـ”جاك القدري ومعلمه” مكانة بالغة الأهمية في تاريخ الأدب والنظرية الأدبية.

عن الانبدبندت