دينيس ديدرو.. الفلسفة في خدمة الحقيقة

دينيس ديدرو.. الفلسفة في خدمة الحقيقة

علي حسين

عندما كان يفيق من غيبوبته، كان يردد ما قاله له يوما صديقه جان جاك روسو “ نحن كائنات شُرفت بقوة التفكير “، ثم يذهب إلى الغيبوبة من جديد. كان قد اصيب بورم في رئتيه، قال الاطباء لعائلته ان لا أمل في الشفاء.

أوصى ان تذهب مكتبته الكبيرة الى كاترين الثانية امبراطورة روسيا.كانت كاترين ترتبط بعلاقة صداقة مع معظم فلاسفة فرنسا وحرصت على أن تقرأ كتبهم ووجهت دعوات الى فولتير وروسو ودلامبير، بل انها كانت ترغب ان يتولى احدهم تعليم ابنها، وكان ديدرو قد تلقى في حياته مساعدات مالية من كاترين لاكمال مشروع “ الموسوعة الفلسفية “، فعندما توقف المشروع بسبب الضائقة المالية التي كان يعاني منها قرر ديدرو بيع مكتبته لتغطية النفقات، اقترحت عليه امبراطورة روسيا ان تشتري منه المكتبة بالسعر الذي يريده شرط ان تظل الكتب في بيته لاكمال مشروع “ الموسوعة الفلسفية “، وخصصت له راتبا شهريا بصفته أمين المكتبة.

عام 1750 يكتب دينيس ديدرو:” إن وجود الإنسان هو الذي يجعل الأشياء الأخرى مثيرة للاهتمام. فلماذا لا نجعله المركز الذي تتركز عليه شتى النواحي.. إن الإنسان هو الكلمة الوحيدة التي علينا أن نبدأ منها”..منذ ذلك الحين أصبحت الفلسفة مهتمة بدراسة الإنسان، وأصبح موضوع علاقة الإنسان بإرادته وقدراته هو المستودع العظيم لأفكار فلاسفة التنوير الفرنسي.

كانت الموسوعة التي اشرف على اصدارها ديدرو تعد المستودع الاهم لافكار عصر التنوير. صدر المجلد الاول منها عام 1751 وجاء في الافتتاحية التي كتبها ديدرو:” إننا نهدف إلى نقد التعصب الديني الأعمى وكذلك التعصب السياسي أو بالأحرى الاستبداد السياسي، هذا بالإضافة إلى مدح الروح النقدية للعقل وحرية الفكر. ففرنسا بحاجة إلى أن تتنفس بحرية، إلى أن تتقن الروح النقدية الإبداعية بعد سبات طويل. آن أن تستيقظ فرنسا! فقد سبقها الآخرون”. في العام التالي يصدر المجلد الثاني وستحاول الحكومة الفرنسية ان توقف اصدارها بحجة انها معادية للدين، لكن اصرار ديدرو ومعه زميله دالمبير ووقوف المفكرين الفرنسيين مع المشروع اتاح للموسوعة ان تصدر حتى عام 1870 بخمسة وثلاثين مجلدا. كان هدف الموسوعة السعي الى كل العقائد والعلوم بلا أي مجاملة أو مراعاة. فكل شيء ينبغي أن يخضع لسلاح النقد ومنظار العقل، بما فيه التراث المسيحي المقدس نفسه. ولهذا السبب، اصطدم ديدرو برجال الدين الذين حاولوا عرقلة مشروعه، بل أوقفوه أكثر من مرة قبل أن يعود إلى مواصلة العمل من جديد.

ولد”دينيس ديدرو” في الخامس من تشرين الأول عام 1713 في مدينة لونكريه بفرنسا. وكان ذلك بعد سنة من ميلاد جان جاك روسو. كان ابنا لتاجر صغير تمنى ان يصبح احد اولاده قسيسا، وينقل دنيس عن والده قوله “أي بني، أن العقل وسادة ممتازة وثيرة ولكني أجد إثارة وراحة أكثر حين أسند رأسي إلى وسادة الدين والقوانين “. ألتحق بمدرسة يسوعية وفي الثانية عشرة من عمره حلق شعر رأسه وارتدى لباس الكاهن، وعاش حياة الزهد والتقشف، حيث عقد العزم على أن يكون راهبا وفسر ما جرى له، بأنه نوعا من انواع حماسة المراهقين، وانه كان على خطأ ، كان الوالد فرحا بابنه الذي سيحقق له حلمه ، لكن دينيس اكتشف ان باريس مدينة للهو وليست للعبادة. فخلع ثوب الكاهن ، وأنصرف إلى دراسة القانون نهارا والتدريب عند أحد المحامين ليلا. لكنه سرعان ما يترك القانون، وقال لوالده انه لا يريد أن يصبح محامياً، وحين سأله ما هي المهنة التي يرغب بها، أجاب:” إني أهوى المطالعة، ولا شيء سواها اقترحه لنفسي، لأني لا أطمع بشيء أكثر”، تنقل من مهنة الى اخرى. وعانى آلام الفقر حيث كان يسكن في غرفة على احد سطوح البنايات، منع عنه والده النقود، لكن والدته كانت تمده ببعض المعونة بشكل خفي. عمل مدرسا في بعض بيوت الطبقة الارستقراطية ، كتب عظات للقساوسة، أشتغل بائعا للكتب، وفي نفس الوقت تابع دراسته في الرياضيات واللاتينية واليونانية والإنجليزية، والإيطالية. عام 1741 يصبح حاسماً في حياته حيث يلتقي بشاب جاء الى باريس من الريف ليجرب حظه في المسرح، كان هذا الشاب اسمه جان جاك روسو الذي ارتبط معه بصداقة وثيقة منذ ذلك التاريخ.

كان ديدرو يشبه نفسه بالريح، فهو دائم الإندفاع نحو الاطلاع على أي نوع من أنواع المعرفة، تعرض للمطاردة والسجن بسبب اراءه، في السجن كان يخطط لإصدار كتاب موسوعي كانت فكرته قد ظهرت لأول مرة عندما اقترح عليه أحد تجار الكتب القيام بترجمة قاموس فلسفي من الانكليزية الى الفرنسية، لكن ديدرو اقنعه بأن يجمع مقالات مختلفة بأقلام رواد الفكر في ذلك العصر وإصدارها في مجلد كبير، وقد تطور الامر ليتحول الكتاب الى موسوعة كتب فيها روسو عن الموسيقى وعن الاقتصاد، وقدم مونتسكيو مقالاً عن الذوق، ونجد فولتير يكتب في القسم الأدبي، فيما كتب ديدرو عن الطبيعة، حيث طرح آراء في النشوء والتطور سبقت نظرية داروين. كانت الموسوعة صرحاً للمعرفة شاركت فيه أكبر العقول، حيث سعى ديدرو من خلالها الى إبراز المعارف الجديدة، مستهدفاً زعزعة مجتمع مدفون في ماض مغبر، وقد بلورت الموسوعة فلسفة الأنوار التي شهدت بروز النهضة الأوروبية الحديثة، بعدها أصدر ديدرو كتاباً بعنوان”اعترافات راهبة”وجه فيه نقداً شديداً للأديرة.

عاش ديدرو قصة حب مثيرة، كانت المراة التي احبها تكبره باربع سنوات. كتب لها “أن خطابات غرامي الأخيرة موجهة لك، ولتعاقبني السماء باعتباري أشر الناس وأشدهم خيانة وغدراً إذا سطرت كتاب غرام إلى أحد غيرك”. وافقت عائلتها على الزواج منه شريطة ان يحصل على موافقة والده الذي وجد ان ابنه شاب كسول لا يصلح للزواج ، في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1743 يعلن عن زواجه من انطوانيت رغم معارضة الاهل.

استسلم في شبابه الى فنتة الفلسفة، لأنها تحفزه على طرح الاسئلة ، وقد تأثر بكتابات مونتاني ووجد في صفحات كتابه “ المقالات “ مرجعا اساسيا لدراسة احوال البشر، يتفرغ لدراسة الفلسفة اليونانية والرومانية ويكتب مقالات عن ديموقريطس، وأبيقوز وتسحره سخرية لوكريتس في كتابه “ في طبيعة الاشياء “، يتعلم الانكليزية ليقرا كتابات فرانسيس بيكون ودعوته إلى قهر الطبيعة وطريق البحث العلمي المنظم، اعلن ان التجربة أداة عظيمة للعقل. درس التشريح والفيزياء، في عام 1745 ترجم كتاب الفيلسوف الإنكليزي شافتسبري “ استعلام حول الفضيلة والجدارة”، واضاف اليه عددا من التأملات.وقد كان شافتسبري ينطلق من فكرة تؤمن بوجود مفهوم شامل للصواب والخطأ، وان ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات انه يدرك التوجه الصحيح بعقله، بل ويسعى إليه، وهنا يدخل هذا السلوك فيما يطلق عليه “ مفهوم الفضيلة” التي يرى شافتسبري أن هدفها الأعم هو الرقي بالإنسانية ككل، لأن السلوك الفردي القويم يجب أن ينصب على خلق نظام عام قويم، واضاف ديدرو الى فكرة شافتسبري عن الفضيلة أن قانوناً أخلاقياً مؤسساً على العقل، لا على الدين، يفيد النظام الاجتماعي بدرجة كافية.

عام 1746، اصدر كتابا بعنوان “أفكار فلسفية” دون أن يضع اسمه عليه وقد نسب الكتاب الى عدد من الفلاسفة منهم فولتير. وفيه يقدم دفاعا عن “الانفعالات” التي يرى انها يمكن ان ترتفع بالنفس إلى الأشياء العظيمة، لكنه يرى ان الانفعالات بدون نظام ستصبح مدمرة، ولا بد من إيجاد طريقة ليكبح الواحد جماح الآخر. ومن هنا نحتاج إلى العقل، وينبغي أن يكون أعظم هاد ومرشد لنا، وكان هذا الكتاب محاولة مبكرة في عصر التنوير للتوفيق بين العقل والوجدان، بين فولتير وروسو.

عام 1784، يعاني ديدرو من آلام في الرئة والمعدة، لم تمهله طويلاً، وأثناء مرضه زاره أحد القساوسة طالباً منه أن يعلن توبته، فقال له باسما:”إني أوافقك أيها السيد الخوري، لكن ذلك سيكون من جانبي كذبة وقحة لايصدقها أحد”. وخلافا لمعاصريه روسو وفولتير، لم يدفن ديدرو في مقبرة العظماء “البانتيون”، بالرغم من انه يعد المرجع الاول لفلسفة التنوير في فرنسا، وكان له تاثير في مجالات كثيرة، فلسفة، وفنون، ورواية، حيث تعد روايته “ جاك القدري “ اهم عمل روائي فلسفي تنويري، وتوصف بانها رواية الحرية. كان ديدرو قبل كتابة “ جاك القدري “ قد عثر على رواية “ حياة تريسترام شاندي وآراؤه “ التي كتبها الانكليزي لورنس ستيرن، وسيكتب في السادس والعشرين من ايلول عالم 1762 رسالة الى صوفي فولان يقول فيها:” تورطت منذ ايام بقراءة الكتاب الاكثر جنونا والاكثر حكمة والاكثر مرحا بين كافة الكتب “. توصف جاك القدري بانها رواية مغامرات يتناول من خلالها ديدرو العلاقة بين الخادم جاك وسيده، وينتقد من خلالها النظام الفكري الذي تفرضه مؤسسات السلطة والكنيسة لتقييد حرية الانسان، من خلال اشاعة مفاهيم تتعلق بحماية المقدس الديني والسياسي، حيث يرى ديدرو ان هذه المؤسسات تحاول ان تشيع وعيا زائفا بين الناس، وتسعى الى تحصين المؤسسة الدينية من كل اشكال النقد، حيث نشاهد جاك وهو يسخر من الافكار الذرائعية ومن الافكار اللاهوتية التي تتلاعب بمشاعر الانسان. اثارت جاك القدري الكثير من النقاشات واعتبرها غوته بعد ان قام بقترجمتها الى الالمانية الشرارة التي اشعلت ضياء التنوير في اوربا.

في التاسع من حزيران عام 1749 ينشر ديدرو كتابا صغير الحجم بعنوان “ رسالة حول العميان لخدمة المبصرين “ والكتاب عبارة عن رسالة موجهة إلى مدام بويسبيه. يبدأ فيها بوصف زيارة قام بها مع مجموعة من الاصدقاء لمزرعة يديرها رجل اعمى. وقد أذهلهم روح النظام عند الرجل حيث كانت حواسه الباقية أقوى من حواس الناس العاديين. وكيف ان تجربته في الحياة ان افكار الانسان عن الصواب والخطأ ليست مستمدة من الدين او القوانين، بل من خبرتنا الحسية. بل وحتى فكرتنا عن الله يجب تعليمها، وهي أيضاً مثل فكرتنا عن الأخلاق، نسبية متنوعة. ويؤكد ديدرو في رسالة حول العميان على أهمية أن تعود المعرفة الإنسانية الى التجربة، وإن الأفكار ليست مقياساً للوجود، كما أن فهم رأي من الآراء وإدراكه لايمكن أن يصبح برهاناً عليه، وإن التجربة الإنسانية لايمكن أن تكون الحد النهائي لحقيقة وجود الكائنات.

في رسالة الى العميان يقوم ديدرو بسؤال المزارع الاعمى حول موضوعة الاخلاق، وكيف ينظر الى ثنائية الخير والشر، فيلاحظ ان المزارع يكره السرقة لانها طريقة سهلة للشر يقوم بها الانسان دون ان يلحظ احد ذلك، وهو لا يعتقد ان الفضيلة ترتبط بملابس الانسان او بكونه عاريا، فهو لايفهم لماذا يغطي الانسان جزء من جسمه ويعتبره كشفه امرا منافيا للاخلاق، فالخير مرهون عنده بطريقة احساسه به، وتاثيره عليه، فلا فرق بين انسان يرتدي ملابس وانسان عاري، لانه في النهاية لا يرى ذلك، وايضا لا يعتقد ان الامر يلحق ضررا بالانسان وهو يرى ان المبصرين لا يحترمون القانون إلا لنهم يخافون منه، فلولا الخوف لم يجدوا اي ضرر في قتل الإنسان، يتوصل ديدرو الى ان أغلب مبادئ المبصرين تبدو للمزارع الاعمى غير معقولة، فهو يدرك الأشياء، ويفهمها، حسبما تتيح له حواسه، ومن ذلك فالعميان لا يهتمون كثيرا للظواهر المرئية، فلا يأبهون مثلا لحركة الكواكب، فيما يراها المبصرون عبرة من الخالق..

أثار الكتاب عند صدوره ضجة كبيرة، دفعت فولتير الى أن يرسل له رسالة حماسية يقول فيها:”قرأت في سرور بالغ كتابك الذي يذكر الشيء الكثير ويوحي بشيء أكثر. وكنت منذ أمد أقدرك أعظم التقدير، بقدر ما أحتقر أولئك الأغبياء الذين ينقصون من قدر ما لا يفهمون، ولكني أعترف لك أني لست من رأي صاحبك الأعمى الذي ينكر وجود إله، لأنه ولد أعمى. وربما كنت مخطئاً، ولكن لو أني في مكانه لاعترفت بوجود كائن أعظم بارع وهبني إضافات كثيرة تكمّل البصر. أود من كل قلبي أن أتحدث إليك، وليس يهمني أن تعتقد إنك واحد من مخلوقاته، أو إنك جزء دقيق التنظيم من مادة أبدية ضرورية. وقبل مغادرتي لونفيل أرجو أن تشرفني بتناول عشاء فلسفي معي، في داري بصحبة بعض الحكماء».

ويرد عليه ديدرو قائلاً:”سيدي الأستاذ العزيز: إن اللحظة التي تسلمت فيها خطابك من أسعد لحظات الحياة، ليس يهمني مطلقاً أن تؤمن بالله أولا تؤمن به، لقد قال مونتاني إن العالم كرة تخلى عنها الإله للفلاسفة ليهيموا على وجوههم مطوفين حولها”.، وبسبب هذا الكتاب قامت الشّرطة باقتياد ديدرو إلى السّجن، حيث ثارت ضده الكنيسة ووجدت ان على الحكومة ان توقف هجماته ضد الدين وإيقافه عند حده، حيث سجن في قلعة فنسان “ بعد ان صادرت الشرطة النسخ المطبوعة من كتاب “ رسالة حول العميان “ وفي السجن وضع بمفرده في زنزانة، وسمح له بالاحتفاظ بكتاب كان في جيبه عند اعتقاله “الفردوس المفقود” لجون ميلتون، حيث قضى فترة السجن يقرا الكتاب بعناية ويضع عليه تعليقات وحواشي ، واستخدم الصفحات الخالية من الكتاب في تدوين بعض الافكار.

لعل الفكرة الاساسية التي اراد ديدرو ايصالها من خلال “ رسالة حول العميان “ ان المبصرين من رجال الدين اخفقوا في رؤية العالم، فاتهموا سواهم بالعمى.