كيف نشأت مشكلة الإقطاع في العمارة ؟

كيف نشأت مشكلة الإقطاع في العمارة ؟

د . حميد حسون العكيلي

كانت أراضي لواء العمارة تختلف عما هي عليه في الألويةِ الأُخرى، لأن معظمها أراضي أميرية صرفة، ولذلك نجد جميع مقاطعاتها تؤجر بطريقةِ المزايدة العلنية أو تطبق عليها طريقة العقود المباشرة.

كان العثمانيون يعتمدون في إعطاءِ حيازة الأرض إلى أكثرِ من شيخٍ، بُغية إضعاف كبار رؤساء العشائر، ومع ذلك ظلت أراضي العمارة تتداولها أيدي قليلة من الحائزين الذين وصل عددهم في عام 1906 إلى 19 حائزاً أو ملتزماً. ومما يجدر ذكره ان العثمانيين كانوا يعيدون تكرار توزيع الأراضي بين مختلف كبار شيوخ العشائر، فقد أُعيد تأجير المجر الكبير وهو من أغنى مقاطعات لواء العمارة تسع مرات في المدة (1865-1915)، وأُعيد كذلك تأجير أراضي مقاطعة الشهالة وهي من الأراضي المهمة في اللواء سبع مرات. بينما ظلت المجر الكبير في المدة من العام 1916 وحتى قيام الجمهورية بيدِ الشيخ مجيد الخليفة كان ذلك رغبة من البريطانيين والحكومات العراقية المتعاقبة في مكافأة أولئك الشيوخ على ما قدموه من مساندةٍ وتأييد لهم.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال البريطانيين للعراقِ، أصبح موضوع الأرض ورقة أساسية يلوّح بها المحتلون لكسبِ الشيوخ أو تعيين ولاءَهم. وعليه فقد ارتفع عدد المستأجرين للأراضي إلى 81 شخصاً في العام 1929 بعد ان كان 33 في العام 1918. فضلاً عن الدعمِ الكبير الذي حضى به زعماء العشائر لاسيما في المجال الاقتصادي، إذ عمدت قوات الاحتلال البريطاني إلى إصدارِ بيان اعترفت فيه بحقوقِ الشيوخ الكبار في التصرف في الأراضي التي تجاوزوا عليها، بالإضافةِ إلى استخدامِ الأراضي التي لم تفوض بعد كوسيلة لاستدراجِ بعض الشيوخ إلى جانبهم.

ومن اجل تثبيت نفوذ هؤلاء الشيوخ، ذهب الحكام السياسيون إلى المجاهرةِ بتأيدهم ومدهم بالسلاح وإعطائهم الهدايا والهبات، وكذلك إعفائهم من الضرائب ولكسبِ ود الشيوخ بصورةٍ أكبر، ذهبت سلطات الاحتلال إلى تجاهلِ التجاوزات على الأراضي الأميرية، والأمثلة كثيرة على ذلك في لواءِ العمارة، حيث كَتب الحاكم السياسي البريطاني لهذه المنطقة في عام 1918 «لقد ساعدنا في زمنِ الحرب استبقاؤنا شيوخاً ينفردون بملكياتٍ كبيرة، ولكن ليس هنالك من شكٍ في ان المقاطعات وفي حالاتٍ متعددة كبيرة جداً للمزارعِ الواحد، وهذا ما ينطبق بشكلٍ خاص على ملكياتِ محمد العريبي ومجيد وجوي وأبو ريشة، ولكن ما دام مختلف الشيوخ قد ساعدوا الحكومة البريطانية بشكلٍ منقطع النظير، فيبدو ان الوقت لم يكن مناسباً لتقسيمِ ممتلكاتهم إلى أجزاءٍ مختلفة، وكذلك لم يكن من السهلِ تحقيق مثل هذا التقسيم».

كان أمراً طبيعياً ان تَقدم قوات الاحتلال البريطاني على إعطاءِ شيوخ العمارة أراضٍ زراعية واسعة مقابل اجور زهيدة جداً، لا تتناسب أبداً وثراء هذه الأراضي وتعفيهم من الضرائب لسنواتٍ طويلة، نتيجة الخدمات الجليلة التي قدموها لهم، وفي هذا الإطار يتحدث الحاكم البريطاني لمنطقةِ العمارة عام 1918، قائلاً : «من المعروف جيداً أن الشيوخ الآن ينعمون بالثرواتِ, ويرجع ذلك إلى رخصِ إيجاراتهم في ظل إدارتنا, ... لقد اتبعنا سياسة سخية هاهنا ومن المحتمل انها ستعود علينا بالنفعِ، إذ ستغري الشيوخ بمساعدتنا بقدرِ ما يستطيعون».

لعل من المناسب هنا، ان نقف أمام هذا الكرم البريطاني مع شيوخ العشائر والذي دفعهم في نهايةِ الأمر إلى ان يغيروا جلدهم وان يبدلوا ولاءهم من العثمانيين إلى البريطانيين، محاولين تفسير ذلك للوصولِ إلى الأسباب الكامنة ورائهِ، والذي ساعدنا في هذه المحاولة هو ذلك المقال الذي كتبه فلاح قديم في جريدةِ «الجبهة الشعبية» في حزيران عام 1952، والذي حمل عنوان «حقيقة عن مشكلة الإقطاع في لواء العمارة» حيث أكد فيه، على إن البعض من شيوخ العشائر في لواءِ العمارة كانوا قد تلقوا في عام 1914 وعوداً قاطعة من السير برسي كوكس، كبير الممثلين السياسيين في الخليج العربي عن طريقِ شيخيّ الكويت والمحمرة، بأن بريطانيا سوف تخفض الضرائب عنهم وتجعل إيجار أراضيهم إلى مستوى الربع مقابل وقوفهم ضد فكرة الجهاد وانقلابهم على العثمانيين. ولم يكتفِ كوكس بذلك وإنما، زار العمارة في زورقٍ بخاريٍ سريع واجتمع مع كبارِ مشايخ العمارة وأعاد تأكيد وعوده لهم، فكان له ما أراد، فأنجز « الحر» ما وعد فلم يعتمد البريطانيون إلا على الشيوخِ في العمارة لإدارةِ الوضع فيها، ولم يرَ الشيوخ ناصراً غير البريطانيين.

غير ان دواعي الحق والموضوعية تدعونا للقولِ هنا, ان البعض من عشائر العمارة رفضت الارتماء بأحضانِ الإنكليز بالرغم من عرضهم عليها كميات كبيرة من الذهب الخالص. وفي المقدمة منها عشيرة بني لام التي كان يقودها شيخها غضبان البنية، التي فضلت الانتقال إلى الجانب الإيراني من منطقة الحويزة على ان تصبح أداة طيعة أو تابعة للبريطانيين.

ظلت عيون البريطانيين تنظر لشيوخِ العمارة بعينِ العطفِ والرعاية، وكيف تنسى وقفتهم «المشرفة» أيام الجهاد وأيام ثورة العشرين، إذ بادر المندوب السامي البريطاني في العام 1929 إلى تخفيض ما كان يدفعه شيوخ العمارة»الأشاوس» للدولةِ مقابل كل دونم يزرع بالشلب تخفيضاً كبيراً. مع ذلك ظلت المبالغ التي يدفعها المشايخ في العمارة لخزينة الدولة العراقية تعادل عائدات الأراضي في ألوية أربيل وكركوك والسليمانية والدليم وكربلاء كما يؤكد الباحث حنا بطاطو.

وإزاء هذا الوضع، أصبح عشرات الآلاف من الفلاحين دون أرض يزرعونها ويعيشون عليها، مما جعلهم يعانون شتى أنواع الفقر والحرمان وطغيان الإقطاعيين. وما زاد الطين بله كما يقولون في الأمثالِ إن السلطات الإدارية في لواءِ العمارة لم تحابي أولئك الإقطاعيين فقط وإنما، وضعت كل إمكانياتها لخدمتهم، بدعوى ان ذلك يضمن استثمار الأراضي الزراعية، وحصول الدولة على إيرادات مالية كانت بأمس الحاجة لها، فضلاً عن تأييدِ أولئك الإقطاعيين للنظامِ السياسي تأييداً على طولِ الخط. وفي الوقت نفسه كانت السلطات تتذرع بأن التعامل مع عددٍ قليلٍ من المستأجرين أكثر انسجاماً مع الوضع الأمني والاجتماعي في اللواء، كما تؤكد أحدى الوثائق الرسمية السرية.

كان من الطبيعي جداً , مع هكذا ظروف ومحاباة واضحة للإقطاعيين من لدن السلطات الإدارية في اللواء وحتى من قبل الحكومة، ان يمتنع عميد الإقطاع في العراق مجيد الخليفة مثلاً من دفعِ ما بذمتهِ للخزينةِ من مبالغٍ كبيرة وصلت في العام 1948، الذي شهد أسوأ أزمة مالية في فترةِ ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى 150 ألف دينار.

ولتجسيدِ ما نحن بصددهِ، نرجع إلى إحدى الوثائق الرسمية والسرية الصادرة من لواء العمارة والتي تعود إلى عشية الحرب العالمية الثانية، إذ قالت: « ان مقاطعات لواء العمارة كانت تدار بطريقة إقطاعية تقضي بإشباعِ عدد قليل وتجويع عشرات الألوف من أبناء المقاطعة» ومضت الوثيقة تقول :»وبالنظر لسعةِ المساحة التي كان يتصرف بها النفر القليل من جهة وضعف قابلية هذا النفر الاستثمارية والزراعية من جهةٍ أُخرى، فضلاً عن ضعفهم البارز في النواحي الأخرى تتجلى أثار الخراب والفوضى المنتشرة في المقاطعات التي كان بالإِمكانِ الاستفادة منها بصورةٍ أعم نفعاً وأجدى فائدة، لو وزعت بصورةٍ عادلة على أصحابِ العلاقة بالأراضي من دون تحيز أو محاباة «.

والغريب حقاً أن وزارة نوري السعيد الحادية عشر قامت بخطوةٍ عبرت فيها عن تجاهلها كل حقائق الواقع ومصلحة البلاد وتطورها الاقتصادي وأوضاع الفلاحين المزرية،ولم تراعِ فيها إلا مصلحة حلفائها والقريبين جداً على قلب رئيسها نوري السعيد، ذلك عندما قَدمت لائحة قانونية في صيفِ عام 1952، وافقت خلالها على منحِ الأراضي الأميرية في لواء العمارة حقوق لزمة تضاهي حقوق الطابو في الأراضي الأميرية الصرفة. وحَشد إقطاعيو العمارة كل ما أمكنهم حشده لإقرارِ هذه اللائحة في مراحلها التشريعية حتى صدورها بشكلٍ نهائي كقانون حمل الرقم 42 لعام 1952.من المناسب الحديث هنا: إن هذا القانون موضوع البحث، اعتبر أبناء المستأجر وإخوانه وأعمامه ومعظم أقربائه ملتزمين أوليين. كما أجاز القانون المذكور منح اللزمة إلى ورثةِ الملتزم في حال وفاته. زبدة القول، إن هذا القانون يُعد تراجُعاً كبيراً عن الإصلاح ومسايرة واضحة للإقطاعيين وخدمة لهم، في أراضي كانت تابعة للدولةِ رقبة وانتفاعاً. حاولت وزارة نوري السعيد الثانية عشرة تدارك الآثار السلبية التي خلفها القانون رقم 42 لسنة 1952، وذلك عندما أصدرت المرسوم رقم 28 لعام 1954، الذي ألغى القانون المذكور، ومنح الفلاح الحق في استئجارِ أراضي زراعية (أي حق لزمة) ، وبعد سنة من ذلك أصدرت حكومة نوري السعيد الثالثة عشر القانون رقم 53 لعام 1955، الذي أخذ بمبدأ توزيع الأراضي على الكثير من الفئات في ريف العمارة من بينها الفلاحين. لكن علينا ملاحظة ان حالة الفلاح التي كان يرثى لها من الفقرِ والحرمان لم تسمح له بالاستفادةِ من هذا القانون، وإذا ما حاول احدهم ان يستفيد من هذا الحق فإن هناك عقبات كبرى وقفت أمامه، من قبيل ارتفاع مستوى الأرض عند الأنهار، وحاجتها للإصلاح والأسمدة وغير ذلك مما أوقع الفلاح في ألمٍ وحيرة.

لا نتجنى على الحقيقة إذا ما قررنا وبارتياحٍ انه لم يحصل أي تغيير على حال الفلاح في لواء العمارة، إذ لم نقل إن حالته الاقتصادية والاجتماعية والصحية كانت تتجه نحو الأسوأ، بالمقابلِ أصبحت حيازات الإقطاعيين والمُلاّك كبيرة وكبيرة جداً حتى تفجرت ثورة 14 تموز 1958.

عن رسالة ( علاقة الاقطاع بالفلاح في العراق )