كيف نقرأ فيلماً لجان لوك غودار

كيف نقرأ فيلماً لجان لوك غودار

جواد بشارة

غرقت في السنوات الخمس الأخيرة في السياسة والكتابة السياسية والموضوعات العلمية وأهملت عشقي الأول، أي السينما، التي كرست لها أجمل سنوات العمر منذ الطفولة إلى يوم الناس هذا. وأثناء ترتيب وتنظيم مكتبتي الشخصية وأرشيفي الشخصي وقع نظري على كراسة محاضرات يعود تاريخها إلى عام 1980 ومعها شريط فيديو لفيلم “ الاحتقار” للمخرج الفرنسي المبدع،

وأحد أعمدة مدرسة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في سنوات الخمسينيات والستينيات في القرن الماضي، ألا وهو جان لوك غودار. فعدت بذاكرتي إلى الوراء إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين في محافظة بابل، عندما عرض هذا الفيلم للمرة الأولى في إحدى صالات السينما في مدينة الحلة، ولم يكن أحد في ذلك الوقت قد سمع باسم مخرج الفيلم أو يعني له الكثير عدا صديقي القديم، الذي أصبح مخرجاً سينمائياً مبدعاً هو الآخر اليوم، وهو الدكتور عباس فاضل. كان عدد قليل من المشاهدين قد ذهبوا لمشاهدة الفيلم بسبب وجود إسم نجمة الإغراء الفرنسية الشهيرة بريجيت باردو على ملصقه الدعائي، أملاً في التمتع ببعض مشاهد العري لا أكثر كما أعتقد، ولكن سرعان ما أصابهم الملل والخيبة فغادروا الصالة. ذهبت لمشاهدة الفيلم لأكثر من خمس مرات متتالية في محاولة لفهم واستيعاب وتحليل لغته الإخراجية وأبعاده الجمالية. وبعد مرور عقد من الزمن، كنت أواظب على حضور دروس السينما ومادة الإخراج حصراً عند المخرج الكبير إريك رومير زميل غودار في مدرسة الموجة الجديدة، ومحاضرات الباحث الكبير دومنيك نوغيز في السينما التجريبية ومحاضرات الأستاذ البروفيسور ميشيل ماري في اللغة السينمائية والتحليل الفيلمي، والذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم السينما في جامعة باريس 3 السوربون الجديدة. كانت الكراسة التي عثرت عليها بين أرشيفي عبارة عن نصوص وملاحظات دونتها من محاضرات الأستاذ البورفيسور ميشيل ماري حول مجموعة من المخرجين الطليعيين الذين كان يختار من كل واحد منهم فيلم نموذجي يقوم بتفكيكه وتحليله بغية استيعاب وفهم لغته الإخراجية ومن بين هؤلاء المخرجين كان قد اختار جان لوك غودار وفيلمه « الاحتقار» وآلان رينيه وفيلمه» مورييل». الملاحظات والهوامش والتعليقات ونصوص المحاضرات كتبت باللغة الفرنسية بالطبع لتساعدني في تأدية الامتحانات وإعداد العروض الطلابية Exposés التي كان يكلفنا بها الأساتذة لنلقيها على الزملاء. انتابتني رغبة ملحة لنقلها إلى اللغة العربية رغم قدمها بعد أن مر عليها ثلاثة عقود من الزمن بيد أنها في نظري ما تزال صالحة ومهمة كأفضل كتابات في مجال فهم الفيلم وتحليله وقراءته سينمائياً وهي تهم الطلاب والنقاد المبتدئين ومحبي أو هواة الفن السينمائي، وبالأخص طلاب السينما. تذكرت مدى معاناتي في شبابي وبداية عهدي مع الفن السينمائي عندما كنت أتمنى الحصول على مثل هذه النصوص القيمة والنادرة والدراسات والمحاضرات التي من شأنها أن تساهم في بناء التكوين السينمائي الصحيح والذوق السينمائي الرفيع. يعد فيلم الاحتقار لغودار واحداً من الآثار السينمائية الخالدة والبارزة جداً في حوليات السينما الفرنسية وفي تاريخ السينما العالمية المعاصر، وبالتالي فإن قراءته وفهمه يستدعي تفكيك وإعادة ترتيب بنيته الدرامية والسردية وتحليل ثيماته الرئيسية ودراسة شخصياته وخصوصياته الجمالية ومشاهده المميزة ومعرفة ظروف إنتاجه وإخراجه والفترة الزمنية التي رافقت خروجه وملابساتها إلى جانب سيرة حياة مخرجه وأعماله الأخرى ولو باختصار ورأي النقاد به وبأفلامه لاسيما الفيلم موضوع الدراسة وذلك من أجل مزيد من الفهم والتأمل.تبدأ كراسة المحاضرات التي ألقاها علينا الأستاذ البروفيسور ميشيل ماري بوصف الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والمعنوية التي كانت سائدة في فرنسا آنذاك أي في فترة صنع الفيلم. ففي سنة 1963 كانت الجمهورية الفرنسية الرابعة، بقيادة الجنرال ديغول، قد وضعت للتو نهاية لحرب الجزائر، بعد ثماني سنوات من الحرب الاستعمارية التي راح ضحيتها الكثيرون من الجانب الفرنسي وحوالي المليون شهيد من الجانب الجزائري، وكانت فرنسا على تماس مع تداعيات تلك الحرب وعلى شفا انفجار حرب أهلية داخلية بسبب حرب الجزائر وما تمخض عنها. شهد المجتمع الفرنسي، في فترة ما بعد الحرب، وخلال السنوات العشر التي تلت استقلال الجزائر، سلسلة من التحولات الجوهرية والتغيرات الهائلة في نمط المعيشة والذوق والمزاجية النفسية والسلوكية وطرق التفكير والسلوك والممارسات الثقافية. كان المخرج جان لوك غودار هو الشاهد على كل تلك التحولات حيث استلهم منها أغلب مواضيع أفلامه الأولى لاسيما فيلمه الذي أثار زوبعة من الاحتجاجات والانتقادات وعانى من مصاعب جمة مع جهاز الرقابة وهو فيلم “ امرأة متزوجة” إذ كان في البداية يحمل عنوان “ المرأة المتزوجة” بلام التعريف التي تعني التعميم وذلك سنة 1964 فقامت عليه قيامة الغضب ونظمت جمعيات النساء تظاهرات ضده لأنه اعتبر كل إمراة فرنسية متزوجة خائنة لا محالة للحياة الزوجية على غرار بطلة فيلمه. وكانت وسائل الإعلام تتعامل معه باعتباره أبرز مخرج من مخرجي جيله آنذاك وكان عمره 33 عاماً. كانت مدرسة الموجة الجديدة الفرنسية بين عامي 1960 و 1962 في حالة مراجعة للنفس والغربلة والنقد الذاتي بعد البداية المدوية التي بدأتها منتصرة بالضربة القاضية على السينما التقليدية أو الكلاسيكية الفرنسية التي كانت تعاني من أزمة وجود تمخضت عن عودة ما سمي آنذاك بـ “ سينما النوعية “ بعد النجاح التجاري لأفلام تقليدية مثل “ المنحل” والمطرقة والميزان من إخراج أندريه كايات صاحب الفيلم الشهير “ الموت حباً، والفيلم الكوميدي “ رجل ريو” من إخراج فيليب دي بروكا الذي مثله النجم الفرنسي جان بول بلموندو الذي ابتعد كثيراً عن شخصية البويهيمي التي جسدها في بداياته السينمائي قبل مرحلة النجومية في فيلم اللاهث أو على آخر نفس أو النفس الأخير لجان لوك غودار سنة 1959. كان أقطاب الموجة الجديدة الفرنسية من أمثال فرانسوا تروفو وكلود شابرول وإريك رومير وآلان رينيه وجاك ريفيت وجاك ديمي وجان روش وبيير كاست، من رفاق جان لوك غودار، يواجهون صعوبات في المواصلة وإعدادا المشاريع السينمائية الطليعية الجريئة ولا يجدون بسهولة التمويل اللازم بينما كان غودار يواصل إبداعه بوتيرة متصاعدة رغم العقبات المادية ومنع فيلمه “ الجندي الصغير” من العرض لأسباب سياسية وإثر آخر نجاح تجاري حققه في فيلم “ عاشت حياتها” حيث لم يوجه منتجوه بعد الفشل التجاري الذريع الذي لقيه فيلمه “ القناصون أو حاملو البنادق”. ويجب ألا ننسى أن بداية سنوات الستينيات في القرن الماضي كانت فترة إنهيار عظمة وجبروت هوليوود وأزمة أغلب استوديوهاتها الجبارة. وكانت الخسائر المالية والتجارية الهائلة قد انهالت على الشركات الإنتاجية الاحتكارية الكبرى بعد أن ضاعفت انتاجاتها السينمائية الدولية بغية كسب المزيد من الجمهور العالمي وضمان مجيء المشاهدين الموزعين على أصقاع الأرض. كان مخرجوا جيل الخمسينيات من الأمريكيين الذي أحبهم جان لوك غودار في فترة عمله كناقد سينمائي في مجلة كراسات السينما قبل تحوله للإخراج، قد فقدوا الحظوة لدى المنتجين الكبار في هوليوود كما فقدوا خصوصياتهم وأصالتهم الإبداعية التي تميزوا بها آنذاك وغرق البعض منهم في أعمال تجارية وملاحم كوسموبوليتية لايسعهم السيطرة عليها كحالة المخرج أنطوني مان في فيلم Le Cid سنة 1960 وسقوط الإمبراطورية الرومانية سنة 1964، وحالة المخرج نيكولاس راي في أفلام مثل ملك الملوك سنة 1961 و 55 يوماً في بكين سنة 1963، والمخرج جوزيف ل. مينكوفيتش الذي ضاع بين والتر زانوك ودلال وتغنج ونزوات النجمة أليزابيت تايلور حيث أنهى بصعوبة بالغة إخراج الفيلم التاريخي الشهير كليوباترا سنة 1963، وهو فيلم ذو ميزانية مرعبة أدت إلى خسارة وإفلاس شركة عملاقة مثل فوكس المنتجة له. أما مخرجو العصر الذهبي لهوليوود الذين بدأوا مع أوائل السينما من أمثال غريفيث وشابلن فقد كرمهم غودار في أفلامه وخاصة في فيلم الاحتقار عندما وضع ملصقات أو أفيشات أفلامهم على جدران ديكورات فيلمه، رغم أنهم كانوا في مرحلة خسوف لتاريخهم وتجربتهم الإبداعية. أما الملهمين الأوائل لغودار من أمثال روبير روسيلليني وجان رينوار فقد أداروا ظهورهم للسينما الاستعراضية والإنتاج الضخم الذي ميز هوليوود وتحولوا للكتابة التلفزيونية مع أفلام متواضعة تصلح للتلفزيون وليس للشاشة البيضاء مثل وصية الدكتور كورديلييه سنة 1961 و عصر الحديد سنة 1965. وهكذا في إطار هذا الظرف الزمني الذي شهد تقهقر وانحطاط السينما الكلاسيكية ونهاية مرحلة من مراحل التطور السينمائي فكر غودار في مشروع إعداد رواية البيرتو مورافيا “ الاحتقار” للسينما وفق مواصفات “ السينما التقليدية “ وليس السينما الطليعية التي برز فيها مع الاحتفاظ بخصوصيته ورؤيته الجمالية للسينما وهي رؤية متمردة ومجددة وجريئة ومجربة.