هاشم صالح وسؤال التّنوير

هاشم صالح وسؤال التّنوير

كه يلان مُحمد

تعاني المجتمعات العربية والإسلامية من الأزمة الحضارية المركبة فالتخلفُ متغلغلُ في مفاصل النظام السياسي وبرامج التعليم وآليات القراءة للدين فإنكار هذا الواقع البائس يزيدُ من عمق الأزمة ويثقلُ الأغلال على العقول لذلك فمن الضروري تسمية الأشياء بأسمائها وعدم الهروب من مواجهة المنظومة الفكرية المتداعية والتراكمات الجاثمة على حركة التاريخ

إذا أريد لهذه المجتمعات النهوض من كبوتها التاريخية والتعافي من قصورها العقلي طبعاً يتطلبُ تشخيص مواطن الداء وأسباب الإنحطاط الحضاري وجود مشاريع مساندة لخطاب العقل والتنوير الفكري ومن المعلوم أن الخوف من الفكر لدى السلطات السياسية لا يوازيه سوى الخوف من الموت حسب رأي “أدونيس” الأمر الذي يصعب إنطلاقة التيار العقلاني لاسيما في ظل تفاقم ظاهرة الجهل المؤسس بالدين وهمينة التطرف اللاهوتي وفوضى الفتاوى والعودة إلى معجم التكفير والزندقة والأبلسة. عليه يستحيل تحقيق السلام الإجتماعي في مثل هذا المُناخ المتفجر بالكراهية المذهبية والدينية والعرقية فالسلام كما يقول روسو لايحلُ بين شخصين يعتقدُ أحدهما بأنَّ الآخر يدخلُ الجحيم. كما أن السلام العالمي لا يتحقق قبل السلام بين الأديان “هانزكونغ” إذاً فإنَّ أساس المشكلة هو الخطأُ في قراءة النصوص الدينية وتوظيفها لأغراض سياسية بحتة بحيثُ يتخذُ الدين نمطاً أداتياً يغلبُ عليه المظهر الإستعراضي على حساب أبعاده الروحية. وعندما يكونُ الإهتمام بالقشور يسبقُ التبصر بالجوهر في التعاطي مع المفاهيم الدينية والفكرية والسياسية لن يحصل سوى الإرتداد إلى الوراء أو ما يسميه الكاتب والباحث السوري “هاشم صالح” السير بالمقلوب وهذا ما يؤرقه ويشتغلُ عليه منذ ثلاثة عقود ونيف في مؤلفاته التي ترصد مسيرة التنوير الأوروبي وتمكن قادتها المفكرين والفلاسفة من تقويض اللاهوت القروسطي وما حققه هؤلاء على الصعيد الفكري الذي كان نواةً للتحولات الجذرية في بنية الأنظمة السياسية ما يعني أن الثورة السياسية بدون المضمون الفكري لا يعقبها إلا التغيير في الشكليات دون المنظومة الكلية. فالثورة الحقيقية هي القبض على الجوهر على حد تعبير أدونيس. والخطوة الأولى في طريق التنوير تبدأ بفك الإنغلاقات الأصولية وذلك ما يمهدُ برأي صاحب “مدخل إلى التنوير الأوروبي” للإنتقال من مرحلة الأحادية المذهبية أو الدينية إلى مرحلة التعددية والتعايش بين المذاهب والأديان.

المقارنة

يعتمدُ هاشم صالح على مبدأ المقارنة بين ما مرَّ به الفضاء الأوروبي إبان القرون الوسطى من الإنكفاء العقلي وما يعيشُ فيه العالم الإسلامي والعربي من الأزمة مع قيم الحداثة ومن هنا يريدُ مؤلف “الإنسداد التاريخي” فهم ظاهرة التحنط الفكري في بيئاتنا على ضوء تجارب الفلاسفة الأوروبيين مع التيارات المتطرفة والأنظمة الإقطاعية الفاسدة. نعم قد يبدو أنَّ المجتمعات العربية معاصرة للغرب على المستوى الظاهري لكن تفصلها عصورُ من الإنقطاعات المعرفية والكشوفات العلمية عن العالم الحديث. فما يسودُ في الخطاب السياسي والديني الملغمتين بالتطرف اللاهوتي عن الفرقة الناجية مطابقُ للمنزع الإلغائي في المذهب الكاثوليكي الذي كان يرى بأنَّ خارج شرائعه لا نجاة للإنسان ما يعني وجود مسافة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب وفقاً لرأي هاشم صالح الأمر الذي يحدو به لمتابعة مشروع التنوير بحثاً عن الحلول لما يصطلح عليه بالإستعصاء التاريخي إذ يتوقف في كتابه “معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا” عند الفلاسفة الذين كانت أفكارهم قواماً للحداثة الغربية ومن خلال ما يقدمه يتضح أن هناك ترابطاً في موجات النهضة الأوروبية إلى أنْ يتمَ تتويجها على المستوى الفكري والمعرفي بتعريف كانط لمفهوم التنوير المتجسد في إنعتاق العقل من الوصاية والخروج من قصوره. على الرغم من إقامته في فرنسا منذ 1975 لكن يواكب صاحب “الإنسداد اللاهوتي” الأحداث المداهمة للعالم العربي فمنذ إنطلاقة الحراك الجماهيري في 2011 يراقبُ حيثيات المشهد عن كثب ويراجع آراءه أحياناً حيثُ يشيرُ في ” الإنتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” بأنَّه قد جانبه الصواب في وصفه للحركات الإحتجاجية بأنها ثورات تنويرية على غرار الثورة الفرنسية كما لا يفرق في كتابه الأخير “لماذا يشتعل العالم العربي؟ ”.

بين أردوغان وغيره من زعماء الأحزاب الدينية علماً بأنه قد اعتبر حزب العدالة والتنمية ممثلاً التيار العقلاني وطالب الاخوان السوري الإقتداء به. ويفهمُ مما ذكر آنفاً أن هاشم صالح أبعد ما يكون من الجمود ولا يتابعُ التطورات من البرج العاجي بل هو منخرط في الواقع وما يلفتُ الإنتباه في مؤلفاته هو تتبعه لتفاصيل الأحداث بما فيها حروب الفتاوي بين أتباع المذاهب وبذلك يضعُ القاريء أمام الصورة بأبعادها المُتكاملة كما لا تغيبُ تجاربه الذاتية في معاركة الإشكاليات التاريخية والثقافية إذ يحفرُ في أقبية الذات وينشقُ عن نفسه قبل الحديث عن الإنشقاق من التيار المتزمت وعلى هذا الصعيد يعلنُ ثورة على والده وما يعنه ذلك من دلالات رمزية فكان الوالد رجل الدين تكتنفهُ هيبة المقدس وهو يحاولُ تعامل مع ماضيه بمنهج ديكارتي أي قيام بتدميره وتفكيكه قبل إعادة التركيب. وهذه العملية يجبُ أن تمتدَ إلى المسلمات التراثية والطبقات التاريخية السحيقة ولا يمكن فهم جذور العنف والتخلف الفكري دون العودة إلى النص القادري الذي كان إيذاناً بهزيمة التيار العقلاني وتفوق الأحادية الطائفية والمذهبية. تقعُ على عبارة ديكارت ” قررت أن أدمر كل أفكاري السابقة” أكثر من مرة في فصول الكتاب وما يقولُه المؤلفُ عن الإنسان المبدع الخلاق الذي لن ينهض إلا بعد تصفية حساباته مع نفسه وبيئته الصغيرة تفصيل للصيغة الديكارتية يعترفُ هاشم صالح بأنَّه قد حفر في أعماق شخصيته قبل الدخول إلى المعترك التراثي. وكانت البداية مع دحض موقف التراثيين المعادي للشعر الحر في أطروحته التي قدمها تحت عنوان “اتجاهات النقد العربي الحديث "1950-1975".

تتواردُ في سياق الكتاب شواهدُ عن تجارب ذاتية وسلوكيات إجتماعية وسياسية تكشفُ عن رواسب العقلية الإصطفائية داخل المجتمعات الغربية غير أنّ ذلك ليس إلا حالاتٍ فردية قياساً بنجاح الغرب في تأسيس مفهوم المواطنة فالإنسان لدى فلاسفة الأنوار قيمة بحد ذاته بقطع النظر عن إنتماءاته الفرعية يقول مونتيسكو ” أنا إنسان بالضرورة ولستُ فرنسيا إلا بالمصادفة” وبهذا إكتملت القطيعة الأبستمولوجية مع الباراديغم اللاهوتي القروسطي. يقارنُ الكاتبُ بين آليات القراءة للاهوت الديني في الغرب وما هو متبعُ في جامعاتنا ويشيرُ في هذا الإطار إلى مسعى اللاهوتي السويسري هانز كونغ حيث طبق الأخير نظرية توماس كهن على تاريخ اللاهوت الديني يوجد باراديغم القرون الوسطى وباراديغم الإصلاح الديني إلى أن يصل باراديغم مابعد الحداثة. ويؤكدُ هاشم صالح على ضرورة أرخنة النص الديني والتمييز بين النصوص الكونية وما هو مطبوع بظروف تاريخية محددة.

التّفاؤل الفلسفي

رأى كثير من المتابعين في إنطلاقة الحراك الجماهيري في 2011 منعطفاً تاريخياً و بدوره تفاءلَ صاحب “مخاضات الحداثة التنويرية” بالحدث غير أنَّ التطورات اللاحقة لم تكن مثلما توقعه لذلك يصفُ في كتابه الجديد ما وقع بالربيع المشؤوم والظلامي ويتنبأ بأن الربيع الحقيقي سوف يكون في 2050 أو 2070 وأن إسلام الأنوار آتٍ دون أن يقدم معطيات مسوغة لهذا الرأي بل يؤكدُ في الفصل الأول من كتابه غياب أمارات ترهص بالربيع التنويري أزيد من مما سبق فإنَّ الكاتب يسخرُ مما يسميه بماركسيات مبتذلة وينفي وجود العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية فيما يضعُ العامل الإقتصادي في مقدمة أسباب إنفجارات الربيع العربي وبرأيه أن الدول النفطية تداركت التمرد الجماهيري مسبقا عن طريق تحسين المستوى المعيشي لمواطنيها ويذهب أبعد من ذلك في ” الإنتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” إذ يربط إندلاع الثورة الفرنسية وتأسيس دولة القانون بنشوء الطبقة البرجوازية التي احتضنت الأفكار الجديدة وهذا التحليل يتنافى مع رفضه لدور البنية التحتية في التحولات السياسية. الفكرة المحورية في “لماذا يشتعل العالم العربي” هي أن لاثورة سياسية دون ثورة فكرية تضيء لها الطريق. غير أنَّ مايحددهُ علامة للمثقف التنويري في هامش ص “81” يوحي بأنَّ العكس هو الصحيح ويسبق الزعماء السياسيون المثقفين في الإستنارة. يحملُ هاشم صالح المثقفين مسؤولية الوضع المزري لواقع المنطقة ولا يرى فيهم أكثر من الأبلة المفيد الذي يخدمُ قضية تناقض مع فكره العميق وحتى مع مصلحته. والحال هذه فإن الإستمرار في الفشل يحتمُ التعويل على الآخرين بنظر هاشم صالح لعبور بنا نحو ضفة التنوير وهذا يعني أن الخروج من القصور العقلي قد لا يتحققُ وتبقى المنطقة تحت حكم الوصاية. يترجحُ التفاؤلُ لدي صالح فهو يؤمنُ بما اكتشفه هيغل عن استخدام القوى السلبية المضادة لحركة التقدم من أجل التقدم ذاته. وهذا ما يصطلح عليه بمكر العقل. إذاً فإن الحمم البركانية التي تتفجر وإعتلاء القوى المتطرفة المثقلة بتاريخ دامٍ على سدة السلطة مخاضات لإنطلاقة التفكير العقلاني. مايجبُ الإشارة إليه أنَّ أسلوب هاشم صالح يتصفُ بالوضوح والخفة وهو يتفادى التقعر المفاهيمي والمصطلحات المعقدة في مناقشته للمناهج الفكرية. كما أنَّ شذرات مبثوثة من الذكريات والتجارب الذاتية وصداقاته الفكرية مع عفيف الأخضر وأدونيس وجورج طرابيشي هذا ناهيك عن صداقاته الغرامية وهي في محلٍ ثانٍ تضفي خصوصية لكتابه الأخير الذي ما يردُ في هوامش صفحاته لا يقل أهمية من المتن. ولو لا التكرار في بعض الصيغ والفقرات لكان الكتابُ قد جمع الى جانب الإفادة الفكرية والمتعة الذهنية الرشاقة في التناول أيضا.