موليير.. فيلسوف المسرح

موليير.. فيلسوف المسرح

إميل أمين

أربعة قرون تمر هذه الأيام على مولد الأديب الفرنسي جان باتيست بوكلان (1622 - 1673)، الذي لا يعرف أحد حتى الساعة لماذا اتخذ لنفسه اسم الشهرة موليير وقد صار يعرف به وحده، وما الذي دعاه لهجر عالم القانون المستقر،

وكان ضماناً أكيداً للترقي في درجات الحياة السياسية والدبلوماسية الفرنسية في زمن الملك لويس الرابع عشر. وعلى رغم أن المعروف عنه كمعلومات موثقة قليل جداً، إذ لا نعرف الكثير عن شخصه وحياته، إلا أنه كان، مع ذلك، ولا يزال، علامة بارزة في المسرح الكوميدي الفرنسي الحديث والمعاصر. ولعل كل المؤكد بشأن موليير هو تاريخ مولده فقط، وذلك من شهادة العماد في كنيسة «سانت أوستش» في باريس، التي تعود لعام 1622، وتحديداً يوم 15 من شهر يناير من ذلك العام. وفي هذه المدينة، باريس، التي ستصبح لاحقاً عاصمة الإشعاع الثقافي والتنويري الأوروبي، رأى موليير النور، لأسرة أرستقراطية، ستقوده إلى الالتحاق بواحدة من أهم المدارس التي يشرف عليها الآباء اليسوعيون، عصب الرهبنة الكاثوليكية الفرنسية، كليرمون، وهناك تلقى أصول اللغة اللاتينية، التي كانت مدخله الرئيس لفهم ودراسة جميع أعمال المؤلفين الرومان المشهورين بسهولة، وقد ترجم في بواكير حياته قصيدة عن طبيعة الأشياء للفيلسوف الروماني القديم «لوكريتيوس»، إلى لغته الفرنسية الأم.

ولم تكن النظرة الأوروبية قبل أربعة قرون للفن عالية، ولاسيما أن فرنسا لم تكن تعرف سوى فرق متواضعة تقوم بعروض لتسلية البسطاء، فكان يكفي بعض المساحيق والألوان، لإدخال البهجة الوقتية على المشاهدين السذج في القرى والمدن الفرنسية. وفي الحادية والعشرين من عمره، وبعد أن حصل على شهادة متقدمة في القانون، جمع موليير عشرة ممثلين مبتدئين، وكون منهم فرقته الأولى، التي كانت بداية مسرح فرنسي أكثر احترافية. ولم تكن البدايات موفقة، غير أن إصرار موليير على بلوغ الكمال مسرحياً، دفعه لتحقيق ارتقاءات عالمية في الفن المسرحي.

ولم يكن المسرح بالنسبة لموليير وسيلة لكسب العيش، فقد آمن بأن الناس تأكل لتعيش، ولا تعيش لتأكل، والمعنى هنا رمزي واسع، ولهذا نراه وقد كرس حياته تكريساً كاملاً وشاملاً لعمله، وأعطى حياته كلها للمسرح ولعروضه غير النهائية. والحال أن موليير لم يكن رجلاً عادياً في التاريخ الفرنسي، فقد جرى العرف على أن ينظر إليه لاحقاً بشيء من التقدير، حتى إن رأيه بات مسموعاً في بلاط لويس الرابع عشر، والعديد من أفراد العائلة المالكة.

على أن الغموض الذي يلف حياته يفتح الباب لكثير من التساؤلات المثيرة، فعلى سبيل المثال، لا يعرف أحد لماذا حرص موليير على ضمان ألا يبقى سوى القليل جداً من المعلومات الخاصة بشخصه، فقد دمر عدداً كبيراً من أعماله، الأمر الذي يذكّر ببعض ما ينسب للرسام والنحات الإيطالي الأشهر مايكل أنجلو، من حرق لمعظم لوحاته قبل وفاته. ولذلك لم يعرف العالم حتى الساعة عن موليير إلا ما وصلنا من خلال أحد ممثلي فرقته المدعو «لاجرانج»، الذي لم تكمن أهميته في أدواره في جانب التمثيل، بقدر قيامه بكتابة مذكرات يومية عن الفرقة، وهو ما أعطى فكرة واسعة للمؤرخين عن الأحداث التي مرت بها الفرقة، وعن الموضوعات التي اهتم موليير بكتابتها وعرضها على الجماهير.

والحقيقة أن بعض مسرحيات موليير تبدو، في العمق والطرح، بداية لإرهاصات التنوير الأوروبي، وقد كان على اتصال بفولتير، أحد أركان فكر النهضة الأوروبية الحديثة، ولهذا جاءت مسرحياته لتبحث عن الحرية، وكتاباته المسرحية لتقود المشاهدين للارتقاء فوق الوعي السطحي الاعتيادي، وإعادة التفكير في المنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية. ومن المعروف في زمن موليير، أن الحديث عن الحرية تصريحاً لم يكن أمراً متاحاً أو مسموحاً، إذ كان ينظر إليه بوصفه تحريضاً وكلاماً خارج السياق المقبول.

وتتجلى إبداعات موليير خاصة في قدرته على تسخير الفن لخدمة كل ما من شأنه ترقية العقول، عبر التعابير والمعاني الغنية في نصوصه الشائقة، وفي عروضه المليئة بالمفاجآت الدرامية غير المتوقعة على خشبة المسرح.

وقد اعتبر غالبية النقاد الفرنسيين خاصة، والأوروبيين عامة، موليير فيلسوف الكوميديا الاجتماعية، ولم يكن ذلك مجرد لقب أجوف أطلق على الرجل الذي يعتبره الفرنسيون وحتى اليوم، رمز مسرح «الكوميدي فرانسيز» الشهير في باريس، ولم تتجاوز مسرحياته عروض الأوبرا الفرنسية.

وعبر نظرة اجتماعية ثاقبة، وقدرة فنية أصيلة، بالإضافة إلى ثروة لغوية عميقة، ظهرت أعمال موليير ومؤلفاته المسرحية الغنية بالتعبيرات الفنية والمعاني القوية على الصعيدين الإنساني والاجتماعي، والمغلفين بالكوميديا الساخرة الجميلة.

اتسم موليير، على عكس معظم معاصريه في عالم المسرح الفرنسي، بروح المثابرة والجد والاجتهاد، فاعتبر عالم المسرح بمثابة ساحة من ساحات أوروبا الحربية، ولذا جاء طموحه جامحاً غير محدود، ما جعله في سنوات قليلة أهم كاتب مسرحي في عصره، ليس في فرنسا فحسب، بل في عموم القارة الأوروبية أيضاً.

ويمكن القطع بأن موليير نقل المسرح الفرنسي من مرحلة العبث إلى عالم وفضاء النقد الاجتماعي الملتزم، وملامسة القضايا الأكثر أهمية وحساسية في المجتمع الفرنسي، في زمنه. ولم تكن مسرحياته، مثل «طرطوف»، و«البخيل»، و«المريض الوهمي»، و«البرجوازي النبيل»، و«عدو البشر»، سوى مكاشفة تعري أوجاع المجتمع الفرنسي، وتدعو الفرنسيين مع الضحك إلى البكاء، والتفكر في أوضاعهم ومآلاتهم، والخروج برؤى استشرافية لمستقبلهم، ولهذا كان مسرح موليير، بداية فجر الأنوار الأوروبية من غير أدنى شك.

وفي قصة موليير يكتشف الباحث أهمية رعاية الدولة للفن والعاملين في مجال الفنون، وهنا ليس سراً القول إنه من غير رعاية لويس الرابع عشر لموليير، لربما كان الرجل لقي حتفه مبكراً، بعد أن كشف في مسرحية «طرطوف» عن نقاط النفاق التي تسود بعض أجواء المتدينين الفرنسيين في ذلك الزمن، فقد أغضبت المسرحية عدداً من الجمعيات الكاثوليكية المتشددة لاهوتياً، التي منعته من عرضها لخمسة أعوام متتالية، وبسببها طالب بعضهم بحرقه حياً، لولا حماية ملك فرنسا يومها الذي كان يقدر الفنون، وقد عرف موليير طريقه إلى بلاط الملك من خلال دعوة وجهها له فيليب دوق أورلين شقيق لويس الرابع عشر نفسه.

ثم إن إخلاص موليير للعمل المسرحي، جعله يكتب مسرحياته بنفسه، ويتولى دور البطولة، على رغم المشاكل التي كان يلاقيها في بيته مع زوجته ومع السلطات المدنية والكنسية على حد سواء.

وخلال عرضه لمسرحيته الشهيرة، «المريض الوهمي»، عام 1673، نازع موليير، على مقعد لا يزال محفوظاً في إطار زجاجي في مسرح «الكوميدي فرانسيز»، وقد نقلته زوجته إلى بيته، غير أن داء الدرن كان قد تمكن منه وفجر شرايين صدره ليقضي نحبه في النهاية. وكانت معركة تلميذ اليسوعيين الأخيرة مع الكنيسة التي رفضت الصلاة عليه ودفنه حسب الطقوس المسيحية، الأمر الذي دعا زوجته للاستنجاد بالملك، الذي تدخل عند كبير أساقفة باريس، وقد نجحت مساعي الملك لدى الكنيسة، غير أنها اشترطت أن يدفن بالليل، ومن غير طقوس وصلوات جنائزية تقليدية. وللإمعان في إذلال موليير تم دفنه بعد أربعة أيام من وفاته عن عمر قصير ناهز 51 سنة، وفي مدافن سان جوزيف، المخصصة لدفن المنتحرين والأطفال الذين ماتوا قبل أن يتلقوا سر العماد وفق التقليد الكنسي!

في عام 1817 تم رد شيء من الكرامة لموليير، الذي نقلت رفاته إلى مدافن «بيير لاشيز»، المدفون فيها أعلام الحياة الفنية والأدبية والسياسية في فرنسا. ومع ذلك فقد فاق موليير عظماء فرنسيين مثل، راسين، وكورنيل، ولافونتين، وسيرانو، وغيرهم من الأدباء الذين عاشوا في عصره، ولعل مرد ذلك إلى الروح الإنسانية الوثابة التي قدم بها أعماله في سردية من التسامح الخلاق، وبعيداً عن التعصب أو التمذهب الوثوقي الدوغمائي.

والحال أن حياة موليير كانت، بمعنى ما، صفحة من الكوميديا الرفيعة، التي فتحت لها على يديه صفحة في التاريخ العالمي لا تزال وضاءة حتى الساعة تنير للشعوب مسارات عقلانية، وبهجة مسرحية، عبر بقاع وأصقاع العالم كافة.

عن جريدة الاتحاد الاماراتية