محمد بهجت الاثري..العالم الموسوعي ومعلم الاجيال ومنقح التراث وفارس اللغة والشعر

محمد بهجت الاثري..العالم الموسوعي ومعلم الاجيال ومنقح التراث وفارس اللغة والشعر

سرور ميرزا محمود

زخرت ذاكرة بغداد أسمائهم ومكانتهم وابداعهم، لها الاثر الجلي والمؤثر في مختلف الميادين، بعضها غادر الحياة تاركا وراءه ارثاً تنهل منه الأجيال، واعطت حياتهم العلمية والمهنية والاجتماعية وحتى السياسية مناراً للأقتداء، نذكر اولئك الاخيار ونتأسى بهم، مما يشكل دفعا معنويا للجيل والاجيال القادمة في مواصلة المسيرة العلمية والمهنية، فيستمر خيرهم زمنا طويلاً، فهناك رجال يبقون في ذاكرة الشعوب والأفراد، وقد عرفنا بعض من هؤلاء العلماء، ومنهم العلامة الشيخ محمد بهجت الأثري.

محمد بهجة بن محمود أفندي ابن عبد القادر بن احمد بن محمود، من عائلة معروفة في عالم الاقتصاد والتجارة ولها أملاك وأراضي على امتداد العراق، يعود أصل عائلته إلى منطقة ديار بكر، غادرتها على أثر خلاف مع السلطات باتجاه أربيل، ومنها إلى بغداد حيث استقرت في جانب الرصافة من بغداد، وكان لوالده متجر في شارع المتنبي، ولد لأب عربي وام تركمانية في محلة جديد حسن باشا في جانب الرصافة من قلب بغداد بتأريخ 28|9| 1902م، وكانت أحسن أحياء بغداد، على مقربة من نهر دجلة وجسرها جسر بغداد او جسر الشاعر العربي علي بن الجهم صاحب:

عيون المها بين الرصافة والجسر*** جلبن الهوى من حيث أدري ولا ادري،

ومن المدرسة المستنصرية العباسية المعروفة في التراث العربي الإسلامي، تحيط به المساجد الكبرى والدواوين الرئيسية للحكومة وأسواق التجارة وخاناتها الكبيرة، عاش ايام الطفولة والشباب كما ورد على لسانه:

قد كان من حسن الحظ ان والدي وانا اول اولادة كان حريصا غاية الحرص على تهذيبي وتثقيفي فكان ان اشركني في اعماله،ويجب ان اتعلم اي علم فاستفدت من هذا التوجيه السديد، وساقتني الحياة يمينا وشمالا تارة تاجرا معه وتارة معتنيا بعلم الخيل والفروسية، وقد كان لوالدي اهتمام عريق موروث من ابيه وجدة بالخيل والفروسية وجربت شؤوناً مختلفه لا اظنها اتيحت لغيري من طبقتي في العمر والنشاة، وكل ماكان يدور حولي كنت اتامله وبيتنا في وسط حافل بالمدارس بين المساجد والجوامع الضخمة، وكنت اسمع اناء الليل واطراف النهار اسم الله الاعلى تجلجل به الاصوات من الماذن واري الصالحين في حي من علماء ووجهاء وفضلاء لهم السلوك الرفيع والمنزولة الكريمة،هذا ميدان واسع لامجال الان للخوض في اوصافه وموحياته الى العقل والقلب ولكنني استطيع ان اقول كان هذه العوامل كلها وهي غاية في النفس.

تعلم مبادئ القرآن والكتابة على امرأة كانت تعلم الصبيان في حيه ثم قرأ القرآن الكريم في كُتّابٍ آخر فأتم قرائته وهو ابن ست سنوات وتلقى ثقافته الإبتدائية باللغة التركية وتعلم الفرنسية كما درس في المدارس الرسمية وبعد الإحتلال البريطاني للعراق سنة 1917 تعلم اللغة الإنجليزية على مدرسين مختصين، ثم انصرف إلى التخصص بالعلوم العربية والإسلامية فأخذ عن علماء العراق ولازم خاصة دروس العلامة الأديب الشاعر اللغوي علي علاء الدين الألوسي البغدادي،

بعدها درس على علامة العراق وأديبه السيد محمود شكري الألوسي ولازمه مدة أربع سنوات حتى وفاته، أخذ عنه البحث والتحقيق وطريقة التأليف، لقبه الألوسي بالأثري لشدة ولوعه بالأثر (الحديث الشريف)، واهتمامه بالبحث عن الآثار العلمية واصلها، يذكر أن العلامة الألوسي هو الذي أطلق على الشاعر معروف عبد الغني الجباري " الرصافي" لقبه الذي اشتهر به، حين قال له<<سيكون لك يا معروف شأن فيما بعد، فان كانت الكرخ تفتخر بمعروف الكرخي فما احرى الرصافة ان تفتخر بمعروف الرصافي>>،، على أن صفة الرصافي جاءت من حنكته في رصف العروض والقوافي لنبوغ شاعريته المبكر، وليس من نسبته إلى جانب الرصافة من بغداد، حيث مقام الشاعر ومركز مدرسة الألوسي في جامع الحيدرخانة، وكل من لقبي "الأثري، والرصافي" لم يعرف بهما أحد غيرهما.

درس الأثري النحو والصرف والبلاغة والعروض واللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه وتاريخ العرب والأنساب والبحث والمناظرة والحكمة والمنطق والهيئة، دخل الرشدية العسكرية فلم تقوَ بنيته على التدريس العسكري فأمضى دور النقاهة مداوماً في محكمة الاستئناف يتدرب على الإنشاء التركي، وأولع من يومه بالشعر والنثر والبحث والنقد والتحقيق والنشر، ولما بلغ العشرين من عمره عين مدرسا، فدرس العربية وآدابها في ثانوية التفيض الاهلية عام(1924-1925)،

ومدرساً في الثانوية المركزية عام 1926م، ثم مفتشا للغة العربية في ديوان المعارف، ودرب على التجارة والفروسية، وترك الوظيفة ليتفرغ للتخصص في العربية وعلومها، مضى في بداية العشرينيات يكتب الفصول الأدبية في الصحف، تولى رئاسة تحرير مجلة البدائع الأسبوعية وجعلها ميدان جهاده الاجتماعي والأدبي، وطفق يبحث عن مخلفات السلف في الأدب واللغة.

عمل معلما في مدرسة التفيض الاهلية عام (1924 - 1925م) ومدرسا في الثانوية المركزية عام 1926م، عين رئيس تشريفات في الديوان الملكي العراقي (أوّل عهد الملك فيصل الأوّل)، وعين مديرا لاوقاف بغداد عام 1936م يوم كانت المساجد هي المدارس الشعبية عند العراقيين، ثم مفتشا اختصاصيا للغة العربية والدين حتى عام 1941م، وفي عام 1941 أنضم إلى ثورة مايس وساندها بشعره، وبعد فشل الثورة أصدرت الحكومة آنذاك أمراً بفصله واعتقاله جزاء مساندته الثورة، عضو لجنة التأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف عام 1944م، تدريس اللغة والأدب وفلسفة علم الكلام لطلبة كلية الشرطة، انتخب عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي عام 1948م ونائبا لرئيسه، نائب رئيس المجمع العلمي العراقي عام1949م، عضو في العديد من مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة والمغرب والهند وغيرها.

بعد ثورة 14 تموز عام 1958 اختير مديرا عاما للاوقاف، فكانت له أعمال مشهورة في تعمير المساجد، ومنها مسجد 14 رمضان الواقع عند نصب الجندي المجهول، والتي تسمى الان ساحة الفردوس، واشرف على اكمال اعماره ومنها استقدامه لأفضل المهندسين وخبراء الزخرفة من المملكة المغربية.

محاضر في عدد من الجامعات العربية والغربية، منها الجامعة الامريكية في بيروت ومعهد الدراسات العليا في القاهرة،عضو كامل العضوية في المجمع العلمي العراقي (1979)، وعضوا مشاركا في اكاديمية المملكة المغربية عام 1980م، واختير عضوا مؤازرا في مجمع اللغة العربية الاردني عام 1981، ومَثّل العراق في عدد من المؤتمرات الدولية التي اقيمت في جامعة القرويين في المغرب العربي وجامعة الرياض وجامعة محمد بن سعود الاسلامية واتحاد المجامع العلمية العربية، وشارك في عديد من الندوات العلمية والفكرية داخل القطر وخارجه،ومنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بغداد عام 1992م.

في عام 1963 أحيل على التقاعد، إلا أنه لم ينقطع عن البحث والمشاركة والانتاج العلمي والأدبي المتنوع، فوضع عديد المؤلفات، لم يطبع منها غير القليل.

توفِّي العلامة محمد بهجة الأثري، رحمه الله، ببغداد في 25-3-1996م/6-ذو القعدة – 1416هـ، واقيم مجلس الفاتحة على روحه في في جامع 14 رمضان في الجندي المجهول وهو نفس الجامع الذي اشرف على بنائه، وقد أصدر المجمع العلمي العراقي كتاباً تذكارياً في تكريمه والإشادة بجهوده العلمية،ضم عدة بحوث عن سيرته وشعره ومشاركاته العلمية،، وأطلق اسمه على إحدى قاعات المجمع، كما كُتبت عنه أكثر من رسالة جامعية.

كان من أفذاذ علماء العراق في القرن العشرين، الذين نبغوا بعلومهم وآدابهم حتى ذاع صيتهم، عرف عالماً لغوياً وتأريخياً ومحققاً بارعاً، كما عرف شاعراً اصيلاً بروح عربية نابعة من وجدانه الوطني، وله ديوانان ضخمان يشملان قصائد عصماء، جمع مكتبة عامرة وهي من اكبر مكتبات بغداد،هو في فلسفته متفائل وواقعي لأبعد حد، هذه الفلسفة القائمة على التفاؤل والاهام الروحي بالمثابرة لبلوغ الهدف الانساني بالحياة، جسدها، وظف فيها إبداعه الفلسفي في رسم الحياة المعرفية والاجتماعية والتأريخية التراثية منها والشعرية، وهكذا فالحياة في نظر محمد بهجت الاثري موجودة يجدر بالإنسان أن يغتنمها منفتحا على جمالها ومستمتعا بما تقدمه من نعمة خلقها رب الطبيعة.

برع في فن الخط على قاعدة نس تعليق، وكان خطه أشبه بخط استاذه محمود شكري الألوسي في الرسم والضبط، وله نماذج من خطه في المجمع العلمي العراقي، فهل سلمت عندما استبيحت بعد العدوان فتم سرقة وتخريب ما موجود في تلك المؤسسة العريقة؟، وقد خط وكتب كثيرا من الكتب لنفسه ولأستاذه، نشر بحوثاً ودراسات يقدر عددها 50 في اللغة والتأريخ والحضارة والفكر، له العديد من المؤلفات تصل إلى خمسة وعشرين مؤلفا، كما له تحقيقات لعدد من كتب التراث المهمة للمكتبة الحديثة منها «بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي»، و «أم الرجز للعجلي»، و«كتاب النغم لابن المنجم» و«صورة الأرض للإدريسي» و«فريدة القصر وجريدة العصر» للعماد الاصفهاني "الجزء الخاص بالعراق" مشاركة مع د.جميل سعيد، و«مناقب بغداد لابن الجوزي»، و«أدب الكتابة لأبي بكر المولى», و«قسم شعراء العراق للعماد الاصفهاني»، <<تحقيق كتاب تاريخ نجد لأستاذه العلامة محمود شكري الآلوسي>> القاهرة 1998.، <<تحقيق كتاب تاريخ دمشق- بغداد>>1980، <<مصادر تاريخ الجزيرة>> دراسات ج1 1979، <<تحقيق تفسير أرجوزة أبي نؤاس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد والامين لابن جنّي>> دمشق.1980

اما دواوينه الشعرية: الأول: ملاحم وأزهار (1974) في القاهرة، والثاني: ديوان الأثري- ج1 (1990) عن المجمع العلمي في بغداد، والثالث: ديوان الأثري- ج2 (1996) عن المجمع العلمي في بغداد، اصدر المجمع العلمي العراقي عام (1994) لمناسبة بلوغه التسعين كتابا ضمّ دراسات وبحوثا في سيرته وشعره ونشاطاته العلمية، كما أصدر المجمع العلمي كتاباً في تكريمه والإشادة بجهوده العلمية، ولا تزال له مخطوطات وآثار قلمية كثيرة لم تطبع بعد.