بين الأثري والشاعر الرصافي.. هكذا انقذنا الشاعر الرصافي من الموت! .. رسالة نادرة من الأثري للرصافي

بين الأثري والشاعر الرصافي.. هكذا انقذنا الشاعر الرصافي من الموت! .. رسالة نادرة من الأثري للرصافي

إعداد: رفعة عبد الرزاق محمد

كتب الاستاذ الشيخ محمد بهجة الاثري عن صديقه الشاعر الكبير الرصافي استجابة لطلب مجلة (الوادي) البغدادية التي أصدرها الصحفي الرائد خالد الدرة بمناسبة الاحتفال بذكرى الرصافي، فتحدث عن ذكرياته مع الرصافي، ومما ذكره:

كنت أقرض الشعر و انا طالب اتلقى العلم على الاستاذ الرصافي ومربيه الاكبر الامام محمود شكري الآلوسي فنظمت قصيدة رائية ارحب فيها به وكان بين الامام الآلوسي وتلميذه، حيث أعطيتها الى شخص القاها في الحفل بالنيابة عني ولم يعلم احد عن اسم قائلها وقد دفعني شعوري لنظم هذه القصيدة لاكبار ادب الرصافي.

وكنت في قرارة نفسي افتقد الجانب الشعري الذي انزع اليه بطبيعتي فوجدت في شعر الرصافي وشوقي وحافظ ابراهيم والزركلي وامثالهم من حداة الركب العربي الى المجد فتعلقت بحماسيات الرصافي وطنياته كما اكبرت شاعرية شوقي اكبارا لاحد له، ومن هنا نشأت بيني وبين المرحوم الزهاوي خصومة ادبية اذ وجدته يتحامل على هذين الشاعرين تحاملا لا مسوغ له ولا سيما من مثله فدخلت معه في سلسلة طويلة من المناقشات الادبية كان ميدانها جريدتي العاصمة والعراق وكان ذلك دفاعا عن شعر شوقي وقد ساء الزهاوي موقفي وموقف جريدة العاصمة لصاحبها الاستاذ حسن غصيبة وكان الاستاذ ابراهيم صالح شكر يكتب فيها فهاجمنا جميعا بقصيدته:

ملؤا صدور الصحف حقدا والحقد قد سموه نقدا

فناقضتها فورا بقصيدة تسامع بها الادباء ولم ابح لنفسي نشرها لانها كانت قاسية ومطلعها:

يا شاعرا قد ساء قصدا واني لعمر الله ادا

وانتهى خبرها الى المرحوم الرصافي فاحب سماعها مني فلما انشدتها اياه طرب لها ولم يخف انكاره لمسلك الزهاوي في الاستخفاف بالادباء والشعراء وشجعني على المضي في الشعر.

وكان الرصافي لا يحب من الزهاوي دعواه وحبه للظهور ويجد في ذلك منافسة له تحد من مكانته فكان يسره ان تضعف مكانة الزهاوي ولكنه لا يطلب بلسانه من احد ولا اسمعه يذكره بسوء. وكانت الايام تباعد بينا تارة وتقرب اخرى فكنا احيانا، نفترق على خلاف وقد يبلغ بنا احيانا الى حد الجفوة فاذا التقينا في طريق فلا اسلم عليه ولا يسلم علي ولكنا مع ذلك يحترم احدنا الاخر، وقد اتفق ان هاجمته مرة في جريدة الاستقلال بمقال مسهب في بعض الموضوعات الاجتماعية لم اخرج فيه عن حدود الذوق والادب كعادتي فيما اكتب. وكان الرصافي يومئذ يصدر جريدة الامل ولى في هذه الجريدة من قبل بعض الآثار الادبية ومنها تحيتي الشعرية لثورة عبد الكريم الريفي فكتب الرصافي كلمة عتاب رقيقة لم ينس فيها سورة غضبه والاشادة بي والاشارة الى لحمة الادب التي تجمع بينا وما يتوقعه لي من مستقبل زاهر ثم لا ادري من بعد كيف التقينا على وفاق؟

واعتقد ان مرد ذلك فيما بيننا الى روح الاستاذية التي جمعتنا وجعلت منا اخوي مدرسة واحدة اذا باعدت بينهما بعض الآراء فتأبى طبيعتها الا ان يبقيا وفيين لمدرستهما الاولى واصولها التي جمعت بين قلبيهما.وكنا في مصر حين بدأ نوع من التقارب بين البلاد العربية ورأت السياسة يومئذ ان تستقدم اناسا من مصر يذيعون المودة بين البلدين وان توفد بعوثا عراقية الى البلاد العربية لتوثيق الآواصر وقد وقع الاختيار علي يومئذ من قبل الوزارة الهاشمية ان اقوم بقسطى من ذلك في الجانب العربي الاسلامي وان اشارك في عدة وفود اوفدتها الحكومات وكان في بعضها الاستاذ الرصافي. وكان الوفد الذي اشترك فيه الرصافي هو الوفد النيابي ولكن هذا الوفد لا يمثل النواب ولكن يمثل اخلاطا من الموظفين وبعض الوجوه ونفر من النواب وكبار الموظفين وكان الرصافي بينهم كالتائه لا يجد طمأنينة الا ان اجتمع به انا وبعض الادباء وكان غاضبا حاقدا متألما.

وعند رجوعنا كان الرصافي سببا في انقاذنا من تيه في بادية الشام قد يكون مؤداه الموت كان الرصافي معنا في السيارة وهي تخب بنا طوال الليل لا تكاد تغمض له جفن وكان جالسا بجواري في السيارة وكان لاينقطع عن التدخين والتطلع الى السماء ولم اشعر الا بصرخة تنطلق من فيه يقول للسائق قف لقد اهلكتنا فوقفت السيارة واستيقظ الركب وطفقوا ينظرون ما الامر وكان الرصافي يراقب سير السيارة واذا هي كانت تسير باتجاه معاكس وقد عرف ذلك من مراقبته للنجوم فلما نزل الركب وتطلعوا ونظروا الى السماء تحققوا صدق كلامه فامر السائق بالاستدارة واخذ يوجهه وجهة العراق حتى انتهى بنا المطاف الى الطريق العام.

م. الوادي لسنة 1959 (العدد الخاص بالرصافي)

وكان العلامة محمد بهجة الأثري قد عزم على مبارحة العراق إلى الشام في صيف 1925م طلبا للراحة والجمام فكلفه الرصافي أن يراجع صديقه الأديب صلاح اللبابيدي ويستفسر منه عن الديوان ورسالة تمائم التعليم والتربية وما تم من أمرهما وقد صدع الأثري بالأمر وها هو في هذه الرسالة ينهي إلى الرصافي ما توصل من المساعي في هذا الامر. ويبدو أن الرسالة قد وقعت من الرصافي موقعا حسنا واستهوته طلاوة عباراتها الأدبية المنتقاة ونسق خطها الجميل الأنيق فاحتفظ بها طوال حياته، على قلة مبالاته بمثل هذه الأمور، وقد نشرها الباحث العراقي عبد الحميد الرشودي في كتابه رسائل الرصافي". الصادر عن دار المدى.

شاعر العرب وشيخ الأدب

أهدي إليك جزيل السلام ووافر الاحترام. وبعد فأنتم أعلم بما يعتور الضارب في الأرض من ضروب المشاغل والمتاعب وبما يشغل أمثالنا من مقابلات واجتماعات حين نحلّ بلدًا كدمشق لنا فيه أصدقاء حفيّون ومحبون مكرّمون.

فأرجو أن تشمل مسامحتكم إبطائي بالكتابة إليكم.

استطعت في أول الأسبوع السالف أن أسافر إلى بيروت لإنتاج مسألة الديوان، فاجتمعت بصاحبكم الأديب اللبابيدي فهشّ للقائي وبش، وأولاني من الحفاوة ما أولى، وأدب لي مأدبة فاخرة حضرها جمع من الأدباء، وآنسني بلطفه وعذب حديثه حتى أخجلني من إفراطه في العذوبة والخصر.

وهو شديد الشوق إلى لقائكم، حفي بالسؤال عنكم وتعرّف أحوالكم، وقد ناولته كتابكم إليه وحدثته في شأن الديوان وقصائد «تمائم التربية» فأتاني في اليوم الثاني إلى «قصر البحر» حيث اختير لي النزول فيه، بالديوان ومعه دراسة للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي، ووعدني بنسخة من «تمائم التربية» وقد نجز طبعها منذ مدة طويلة، وأعد لكم منها "250" نسخة، ثم اتفق لي من أحوالي الصحية ما أوجب براحي إلى «زحلة» طلبا للجمام فلم أتمكن من لقائه، ولا هو أنجز الوعد لانشغاله فكلفت بعض من حضر المأدبة من الأدباء أن يأخذ منه نسخة من "التمائم" ويبعث بها إليّ في زحلة، وأرجو أن يفعل.

وقفت في جريدة الفيحاء الدمشقية (ج 101،100) على مقالين لهما «ذيل» لم يتم تمامه بعد!! لكاتب متستر باسم "ابن جلا" تهجم فيه عليكم، ولو كان «ابن جلا» حقا لوضع عن وجهه لثامه، وقد نعته صاحب الجريدة بـ «الكاتب العربي الكبير»، وما أرخص الألقاب عند أصحاب الجرائد! وقد زعم أنه «قصد بنقده النزيه خدمة الأدب» وهما غاية في الغثاثة والسخف، قرأناهما في جمع من أدباء دمشق، فأسفنا على الأسفاف الذي هبط إليه الكاتب. وقد تحقق عندي أن هذا الكاتب هو الشيخ جميل الزهاوي، ذلك أن ابن أخيه[3] كان زارني منذ ستة أشهر في بغداد وطلب مني أن أصغي إلى ماكتب في نقد شعركم ردًا على نقدكم ديوان عمه، فأصغيت إلى ماتلا عليّ (وماهو من قلمه ولكنه من قلم عمه) وناقشته في كثير مما كتب، فقام مغاضبا وولى ولم يعقب، وقد سمعت إذ أنا ببغداد أن الشيخ الزهاوي حاول كثيرا أن تنشر الصحف مقالاته باسم مستعار، فلم يجب طلبه، حتى إذ قدم صاحب جريدة الفيحاء بغداد في هذه الأيام، دفعها إليه مع طائفة من ترجمة الرباعيات الخيامية، فنشرها، وليتكم وقفتم على تلك الترجمة الركيكة المهلهلة، ويمينا لو أن الخيَّام كان حيا وقرأها لأقام الدنيا عليه عتابا وإنكارا.

وسلامي على الأستاذ ساطع بك الحصري، والأستاذ أبي قيس ومن يؤم ناديكم من الأصدقاء، ومني إليكم إكرم التحيات.