كتاب الأسطورة بيليه .. قصة حياتي

كتاب الأسطورة بيليه .. قصة حياتي

د. محمد مخلوف

بيليه هو« ايقونة عالمية».. إنه ليس مجرد لاعب كرة قدم هائل قادر على إلهاب مشاعر مدرجات كاملة وإنما هو أيضاً رجل عظيم في خدمة القضايا النبيلة، هكذا يقدم ناشر هذا الكتاب، «ملك كرة القدم»لقارئيه.

استرعى بيليه انتباه مدربي كرة القدم وهو في الحادية عشرة من عمره عندما كان يمسح الأحذية للحصول على بعض النقود القليلة والتمتع بمشاهدة مباريات كرة القدم، وأصبح لاعباً محترفاً وهو في الخامسة عشرة من العمر، وبعد عامين فقط شارك في بطولة كأس العالم لكرة القدم ليقود بلاده للفوز في المباراة النهائية ضد السويد بخمسة أهداف مقابل هدفين.

»من أنا« ؟ يتساءل بيليه في تقديمه لهذا الكتاب. ويجيب: »أنا طفل كان يتسلّى في الشوارع بحذاء محشو بالخرق قبل أن يصبح لاعب كرة قدم يلعب بكرة حقيقية، وعلى أرض ملاعب رسمية ومجهّزة وفي إطار فرق كتبت التاريخ. رأيت العالم وقابلت شخصيات فريدة ورائعة، ولم أكن أتصور أبداً أنني سأسمو إلى هذا العلو«.

بيليه وُلد فقيراً في بيت مبني بأحجار القرميد التي جرى جمعها من هنا وهناك.

عام 1944 تغيرت حياة الأسرة بعد أن أصبح والده لاعب كرة أسماه والده اديسون بعد وصول الكهرباء إلى مدينته!

»مهما كان عدد السنوات التي تفصلنا عن فترة شبابنا الأولى فإننا لا ننساها أبداً«، هكذا يبدأ »بيليه« حديثه عن قصة حياته، فالذكريات هي بالنسبة له مثل فيلم لا يراه سوى صاحبه، بينما تشكل الطفولة الجزء الأفضل من هذا الفيلم.

»بيليه« من مواليد بلدة »تريس كوراسويز« أي »القلوب الثلاثة« الموجودة شمال مدينة »ريودوجانيرو«، ومنطقتها ثمينة بالمعادن خاصة الذهب الذي كان قد جذب بسبب وفرته وقيمته الكثير من المستعمرين البرتغاليين الأوائل الذين أقاموا فيها.

ولد بيليه يوم 23 أكتوبر 1940، يقول: »لقد ولدت فقيراً في بيت مبني بأحجار القرميد التي جرى جمعها من هنا وهناك، لكنه لم يكن منزلاً متيناً، كما قد يتبادر إلى الذهن فحالته البائسة كانت بادية للعيان وبأنه قد ينهار في أية لحظة، الشارع الذي يتواجد فيه هذا المنزل يحمل اليوم اسم »بيليه«.

وتحكي جدته له أنه يوم ولادته كان طفلاً صغير الحجم جداً، وكان التعليق الأول لعمه جورج »بكل الحالات أنه أسود تماماً«. فاقترب منه والده دوندينو« وأمسك بساقيه النحيلتين وقال: »سوف يصبح لاعب كرة قدم كبيراً«.

كانت والدة بيليه ابنة سائق عربة خيل في بلدة »تريس كوراسويز«. أما والده جواد راموس دو ناسيمنتو«، الملقب بـ »دوندينو« فقد صادف والدته عندما كان يؤدي الخدمة العسكرية في تلك البلدة التي قدم إليها من قرية صغيرة تبعد عنها حوالي مئة كيلومتر.

وكان الأب لاعب كرة قدم مع فريق »اتليتيكو« الذي كان نادياً للهواة ولا يدفع تقريباً أي شيء للاعبين.. ولم تكن هناك آنذاك أية مكافأة عند الفوز في المباريات. فكل ما كان يؤمنه لقب لاعب كرة القدم هو الشهرة مع نيل بعض المكانة الاجتماعية.

ويشير بيليه أن الكهرباء قد وصلت إلى بلدته قبل ولادته بفترة قليلة. ومن أجل الاحتفال بذلك الحدث أطلق عليه والده اسم »اديسون« مثل مخترع الكهرباء الشهير »توماس اديسون« ولا يعرف »بيليه« سبب كتابة تاريخ ميلاده خطأ، ذلك أن جواز سفره الأول يحمل تاريخ 21 أكتوبر بدلاً من 23، ولا يزال هذا الخطأ ساري المفعول حتى الآن.

حياة صعبة

لم تكن حياة الأسرة سهلة في بلدة »تريس كوراسويز« وقد أصبحت أكثر صعوبة بعد ولادة أخيه جايير »زوكا« الذي ولد في المنزل نفسه الذي رأى بيليه فيه النور. لم تكن الأم ترغب أبداً بأن يصبح الطفل لاعب كرة قدم مثل والده، بل تطمح بأن يصبح »طبيباً« فهذا »طموح معقول«. وهذا ما يعلق عليه »بيليه« بالقول: »تعرفون ما جرى فيما بعد«، إذ أنني أحببت كرة القدم بمقدار ما أحبها والدي«،

ذلك أن والده كما يشرح لم يكن يتقن أي شيء بمقدار اتقانه لكرة القدم وكان مثله مثل عشرات الآلاف من الشباب البرازيليين، يأمل بأن يبتسم له الحظ ويستطيع أن يؤمن لأسرته سبل عيشها بواسطة »المهنة« التي يحبها أي أن يصبح لاعباً محترفاً في ميدان كرة القدم.

وكاد ذات يوم أن يحقق حلمه، كان ذلك عام 1942 »آتليتي كو مينيرو« أفضل ناد في مدينة »بيلوهوريزانت« عاصمة منطقة »ميتاس جيريس«.. لقد كان نادياً معروفاً على المستوى الوطني البرازيلي، وكان يلعب مع »الكبار« وكان اختباره الأول هو مباراة ودية مع نادي »ساو كريستوفاو« من ريو دي جانيرو،العاصمة، وكان يضم في عداد لاعبيه المدافع »اوغوستو« الذي سيصبح »كابتن« فريق البرازيل لخوض مباريات كأس العالم عام 1950. وفي تلك المباراة التجربة الأولى اصطدم »اوغوستو« مع والد بيليه أثناء اللعب ما أدى إلى جرح خطير في ركبة هذا الأخير ما منعه من لعب مباراة الاختبار الثانية.. هكذا انتهى حلمه في أن يكون بين »النخبة«.

ويصف بيليه والده بأنه كان »لاعب كرة جيد.. وهدّاف، طوله مئة وثمانون سنتمتراً، وبارعاً بضربات الرأس« وكان هناك آنذاك لاعب برازيلي شهير بضربات الرأس اسمه »بالتازار« مما جعل المقربين من والده يطلقون عليه تسمية »بالتازار الارياف«.

ويقول بيليه كانت كرة القدم في دم اسرتنا وكان عمه فرانسيسكو الذي توفي في سن مبكرة مهاجماً جيداً، وأفضل من والده حسب قوله وقد روى أصدقاء والده له أن اباه كان قد سجل خمسة أهداف برأسه في مباراة واحدة، لكن صغر سنه آنذاك يمنعه من تذكر ذلك،

ويروي أيضاً في هذا السياق إلى أنه عندما سجل هدفه الرقم 1000، قام بعض الصحافيين بالتحقيق للتأكد من معلومة تسجيل والده لخمسة أهداف في مباراة واحدة! وقد توضح لهم أن المعلومة صحيحة، فقالوا: إن الرقم القياسي الوحيد الذي لا يعود لبيليه إنما يعود لوالده.

وفي عام 1944 استجد الحدث الذي غيّر مجرى حياة أسرة بيليه كلها، وخاصة مجرى حياته هو شخصياً. لقد تلقى الأب آنذاك دعوة من نادي »بورورا لكرة القدم في شمال غرب ساوباولو. واقترحوا عليه بالوقت نفسه أن يكون أحد أفراد فريق النادي، وموظفاً في الحكومة المحلية.

وكانت فرحة الأم كبيرة بأن وجد زوجها أخيراً عملاً في القطاع العام، ما يعني تأمين دخل ثابت واستقرار حياة الأسرة. لقد استقلّت الأسرة كلها القطار في الطريق نحو »بورورا« وقد كان ذلك »رائعاً جداً« كما يصف بيليه الرحلة ليؤكد قوله: »كانت الذكرى الحقيقية الأولى في حياتي«.

كان عمره آنذاك يبلغ الرابعة بالكاد وكان قد أمضى الرحلة كلها ووجهه ملتصق بالنافذة، نافذة القطار، كي لا يفوته شيء من المناظر التي تتوالى أمام عينيه. ولا ينسى أن يشير إلى أنه من حسن حظه كان القطار يسير ببطء شديد.

»لقد اكتشفت بلادي للمرة الأولى« على حد قوله. ثم يضيف أنه كاد أن يسقط من النافذة عندما اجتاز القطار أحد المنعطفات، إلا أن والده أمسك به وجذبه بقوة إلى الخلف. كان يمكن لوجودي على الأرض أن ينتهي في ذلك اليوم، لكن ينبغي الاعتقاد أن الإله قد حماني«.

التخلص من الفقر

وصلت الأسرة إلى »يورو« بتاريخ 5 سبتمبر 1944.. وهناك استطاع الأب أن يعبر عن قدراته كلاعب كرة قدم وأن يتخلص بالوقت نفسه من المتاعب المالية التي واجهته دائماً قبل ذلك. وأحس »بيليه« أنه يعيش في »مركز العالم«.

فمدينة »يورو« كانت أكبر بكثير من كل الأماكن التي عاش بها أو رآها.. إذ كانت فيها مخازن ودار سينما وفنادق عدة. وكان عدد سكانها يبلغ ثمانين ألف نسمة، أي ما كان يعتبر بلده كبيرة داخل البرازيل. هذا فضلاً عن أنها كانت ملتقى خطوط حديدية عدة. لقد كانت مدينة جديدة بالنسبة لبيليه وبالتالي بداية لحياة جديدة.

لكن الأمور تعقّدت منذ البداية، ذلك أن نادي »لوزيتانا« الذي كان قد قدّم العقد لوالده انتقل إلى يد مالك آخر، وغيّر اسمه ليصبح »نادي اتليتيك يورو«. ولم يحترم المسؤولون الجدد التزامات سابقيهم، فإذا كانوا قد احترموا القسم الخاص باللعب في الفريق الرياضي فإنهم لم يحترموا الالتزام بالعمل الوظيفي،والذي كان في الواقع السبب الرئيسي لقدوم الأسرة إلى مدينة »يورو«. و»هكذا رجعنا إلى النقطة التي انطلقنا منها، بينما ازداد عدد أفراد الأسرة بولادة ابنة«.. هذا بالإضافة إلى العم جورج وجدة بيليه من ناحية أمه التي قدمت للإقامة معهم.

في عام 1946 فاز فريق الأب بـ»بطولة المناطق الداخلية« من البرازيل والتي كان يشارك فيها أفضل النوادي.. »لقد سجل والدي عدداً كبيراً من الأحداث، وأعلنوا أنه أفضل لاعب في الدوري«. هكذا عمّت شهرته في المنطقة كلها.

لكن هبّت الرياح مرّة أخرى بما لا تشتهي السفن.. إذ ساءت حالة ركبة الأب، وأمضى بيليه الكثير من الوقت وهو يضع الضمادات الباردة على ركبة أبيه الذي تضاءلت مشاركته في المباريات شيئاً فشيئاً، ثم توقفت نهائياً. وكانت فترة جديدة صعبة في حياة الأسرة قد بدأت.

يقول بيليه: »كنا زوكا اخوه ــ وماريا لوسيا ــ اخته ـــ وأنا نمشي حفاة القدمين، ولم نكن نلبس سوى الثياب الستعملة. وكان بيتنا الذي تتخلل الأمطار سقفه صغيراً جداً علينا كلنا. وأتذكر أنه لم يكن لدينا أحياناً أي دخل منتظم وكانت أمنا تعطينا أحياناً قطعة من الخبز والقليل من الموز كوجبة طعام«..

ثم يشير بأنه، هو واخوته، لم يعرفوا »المجاعة« تماماً، على عكس الكثير من البرازيليين، ولكن كان هناك خوف مستمر من عدم إيجاد ما يؤكل في المنزل. وكان ذلك درساً كبيراً يعبر عنه بيليه بالقول: إن أحد الأشياء التي تعلمتها خلال 65 سنة من عمري هو أن الخوف من الحياة أكثر ما يثير الرعب في النفوس.

ماسح الأحذية

ساهم جميع أفراد الأسرة في تأمين عيشها. فالعم جورج عمل في إحدى المؤسسات. وكانت العمّة »ماريا«، أخت والد بيليه، تجلب لهم بين الفترة والأخرى الأطعمة، وأحياناً الملابس، عندما تأتي لزيارتهم من ساوبالو. وعن نفسه يقول بيليه: »أنا أيضاً شمّرت عن ساعدي وافترض أن عمري كان سبع سنوات عندما جمعت، بمساعدة عمّي جورج، المال الكافي لشراء العدة المطلوبة لمسح الأحذية،

وكنت على قناعة بأنني سوف أجمع الأموال الكثيرة عبر تلميع الأحذية في الأحياء الراقية«. لكن والدته أصرت على أن يمارس »مهنته« في المناطق القريبة من المنزل ولدى أبناء حيهم..»لكن بسبب أن نصف سكان شارعنا كانوا حفاة لم أقتنع بحججها«،يردف بيليه مع تأكيده بأنه لم يتجرأ على مخالفة والدته »السيدة سيليست« وبقي في الجوار حيث أخذ يضرب على الأبواب من أجل تقديم »خدماته« كماسح أحذية. ويؤكد بيليه أن الجميع كانوا لطفاء معه، أن مشكلته هي أنه لم يكن عنده سوى زبون واحد، ولم يكن يعرف ما هو الأجر الذي ينبغي أن يطلبه منه.

يقول: »كان الدرس الأول هو معرفة الزبائن الذين ينبغي التوجه لهم. والدرس الثاني معرفة الأجور. انهما مبدآن لم أحفظهما أبداً طيلة حياتي«. لكن بيليه أدرك أن اتقان مهنة مسح الأحذية كان له فائدة جانبية. إذ كان يتدرب على »المهنة« عبر مسح حذاء والده لكرة القدم وكذلك الحذاء الذي كانت عمته ماريا قد جلبته له من ساو باولو وكان لابن »رب العمل« الذي تشتغل عنده.

مع ذلك يؤكد بيليه قوله: »لم أكن أنتعلهما إلا في المناسبات الخاصة وقد احتفظت بهما حتى ذلك اليوم ــ ربما كانت تلك المناسبة الأكثر خصوصية من بين جميع المناسبات ــ الذي أردت فيه أن أرى ماذا يفعل ضرب الكرة بحذاء بدلاً من ضربها بأقدام عارية.

استطاع »بيليه« أن يقنع والدته بعد ذلك بأنه ينبغي توسيع دائرة مسح الأحذية بأبعد من شارعهم وقد قبلت مكرهة أن يرافق أباه إلى ملعب نادي »يورو اتليتيك« في أيام المباريات فهناك سيكون ما يكفي من الأحذية لمسحها

ثم انه يبقى تحت رقابة والده ولو من بعيد. هكذا كان يتنقل في مدرجات الملعب، وقد عاد من هناك ببعض النقود. ودفع هذا »النجاح« والدته إلى التساهل أكثر، وهكذا أبدأ بـ »العمل« في محطة القطار.

بعد عام تقريباً من مزاولة مهنة مسح الأحذية تحسنت أحوال الأسرة إذ وجد الأب عملاً في مركز طبي ــ اجتماعي حيث كان يقوم بعمليات التنظيف والترتيب والنقل. لكن كانت الحكومة هي التي تدفع المرتب مما أمن قدراً أكبر من الاستقرار بالقياس إلى فترة الأعمال الصغيرة السابقة. يقول بيليه: »وللمرة الأولى منذ سنوات ابتعد شبح البؤس عن منزلنا، لكنه لم يختف بشكل كامل«.

صرامة وعقوبات

بالإضافة إلى »العمل« كانت أمه صارمة جداً فيما يتعلق بضرورة ذهابه إلى المدرسة. وكان يفترض نظرياً أن يبقى أربع سنوات في المدرسة الابتدائية قبل إمضاء نفس المدة تقريباً في التعليم المتوسط. ثم يذهب بعدها التلامذة المجدين والمثابرين إلى الثانوية فالجامعة. كان ذلك يمثل دهراً بالنسبة للطفل الصغير.

يقول: »كان إرسال طفل فقير إلى المدرسة يتطلب إعداداً كبيراً. وكانت أمي وجدتي تخيطان لي سراويلي القصيرة الممزقة وكذلك القمصان المصنوعة من أقمشة أكياس القمح (من القماش الجيد، 100% قطن)«.

ويذكر أن أهله اشتروا له مجموعة أقلام ملونة استهلكها خلال زمن قياسي إذ كان يرسم كل ما يراه أمامه. وفي اليوم الأول رافقه أبوه إلى المدرسة.. كان منضبطاً في البداية لكنه سرعان ما أصبح »مهرج« الصف، على حد قوله.

وقد عاقبته مدرسته كثيراً بالركوع على حبات من الفاصولياء »القاسية كالحصى« ومما »ساهم في تقوية ركبتي من أجل العمل الذي ينتظرهما لاحقا«، كما يحكي بيليه.

باختصار يصف نفسه بأنه »لم يكن تلميذاً لامعا«. لكنه يستدرك قائلاً: »كنت أريد التعلم ولم أكن غبياً، لكننا كنا، المدرسة وأنا، عالمين متنافرين«. ويذكر أنه كان يحلم عندما كان عمره سبع أو ثماني سنوات بأن يصبح طياراً.

وقد كان يذهب غالباً إلى مقربة من »نادي الطيران« كي يتفرج على إقلاع الطائرات وهبوطها. لم يرفض والده الفكرة عندما عرضها الطفل عليه وإنما قال له بأن ذلك يتطلب منه القراءة والكتابة أولاً. لقد حدثه عندها »للمرة الأولى بجدية من رجل إلى رجل«.

هكذا أصبحت المدرسة هامة بالنسبة للابن الذي أدرك بأنه لن يضع قدمه في طائرة كملاح إلا إذا تعلم. كانت مدينة »بورو« قد أصبحت »مدينة« الطفل ثم المراهق أديسون (بيليه).. وقد تعرف فيها على كثير من الأصدقاء بينهم سود وبيض بل وبعض اليابانيين.

السباحة

»كان الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي فعلاً هو الملعب«، كما يقول ثم يضيف: »إذا كان هناك شيء لم أكن أتعب منه أبداً فهو السباحة«. وكان يذهب غالباً مع أصدقائه للسباحة حتى في النهر المحاذي لسكة القطار.

كانوا يهربون من الدورس من أجل ممارسة هوايتهم. وكاد بيليه ان يغرق ذات يوم بصحبة رفيق له عندما مد لهم رجل عابر ما يمسكون به للاقتراب من الشاطئ بعيداً عن مجرى تيار النهر. يقول بيليه عن تلك الحادثة »عندما هدأت انفعالاتي، اعتراني الإحساس بأن الإله يرعاني، مثلما حدث في المرة الأولى عندما كدت أن أسقط من القطار«.

كان بيليه ورفاقه يسبحون في النهر بثياب المدرسة ثم كانوا ينشرونها على أغصان الاشجار إلى ان تجف.. لكن والدته كانت تكتشف بعض المرات لطخات الوحل على ثيابه مما كان يدفعها لصفعه.

يقول: »عندما أصبحت أباً فقط أدركت كم كانت أمي رائعة. ورغم انها قد وصفتني ذات يوم بأنني ابن نموذجي، فإنني كنت أعرف كم هي الحقيقة بعيدة عن ذلك، على الأقل خلال سنوات طفولتي«.

وكانت والدته ترغمه أحياناً على البقاء في البيت للدراسة.. أي حرمانه من رفقة أصدقائه وإنجاز وظائفه بالوقت نفسه، في ظل الرقابة الصارمة. بكل الأحوال لم تكن المدرسة والدراسة هوى الطفل بيليه، وانما كان مصدر سعادته خلال تلك السنوات كلها يكمن في كرة القدم.

يقول »ان كل ما أملكه أنا مدين به لكرة القدم. ولو كنت استطيع تغيير اسمي لجعلته اديسون ارانتس دوناسيمونتو فوتبال«. انه يرى في كون والده لاعب كرة قدم نقطة الانطلاقة الحقيقية في مسيرته اذا كان مثل الكثير من الأطفال يريد تقليد والده »لقد كان يسجل الكثير من الأهداف وانتزع إعجاب الجميع،ولم أكن أحلم بأن ألعب ذات يوم باسم البرازيل أو أن أفوز بكأس العالم، لاشيء من هذا كله وإنما كنت أكرر دائماً لأصدقائي: ذات يوم سأكون جيداً في اللعب مثل أبي«.

اللاعب الهزيل

البرازيل هي بلد كرة القدم بامتياز. ويشير بيليه الى ان طفولته قد تشربت بهذه اللعبة التي مارسها مع أصحابه في الشوارع والساحات.. وكان حلمه الأول ان يستطيع المشاركة في المباريات التي ينظمها من هم الأكبر سناً منه ولكن لم يكن من السهل الحصول على مكان في فريق،

كما يقول ليضيف بأنهم كانوا يعيرونه بـ »الهزيل« وقد حدث وطردوه ذات مرة من اللعب فما كان من ذلك إلا ان أنعش رغبته باللعب أكثر، وكان هو ورفاقه يتجمعون حول ملاعب الأكبر سناً، كان عمرهم 10 سنوات تقريباً ـ الذين يعتبرون أنفسهم ملوك الشارع.

لكن ما ان كانت الكرة تخرج من الملعب حتى يحتفظ بها الصغار ويلعبوا بها فيما بينهم مع إدراكهم ان ثمن ذلك سيكون تلقي العديد من الصفعات ومن الركلات على مؤخراتهم.

كان السؤال الذي يتردد لدى الأطفال باستمرار هو: متى سنلعب المرة المقبلة؟ وأين؟ وبالطبع لم يكونوا يمتلكون اعتدة وألبسة رياضية، بل وحتى لا يمتلكون كرة..

وإنما كان عليهم ان يكتفوا بجورب أو أي قطعة لباس يحشونها بالورق والخرق ويخيطونها كي تشبه إلى أقصى درجة ممكنة الكرة، وكانت الكرة تكبر شيئاً فشيئاً منذ ان يقع بيدنا جورب جديد أو ثوب قديم والذي كنا نأخذه أحياناً عن حبال نشر الغسيل غير المحروسة. كما يقول.

وماذا عن الملاعب؟

يقول: لقد لعبت المباريات الدولية في حياتي بملعب روبنسن اترودا الفاخر، اي في الشارع الذي كنت أسكن فيه. وكانت الأحذية القديمة تأخذ مكان العارضات في كل طرف من الشارع بينما تلعب المنازل دور خطوط التماس الجانبية.

وفي ذلك »الملعب« اكتشف »بيليه« مواهبه. يقول: بالإضافة الى فرح التسلية مع اصدقائي، اكتشفت في ذلك الشارع قدرتي في السيطرة على الكرة كي أرسلها حيث أشاء وبالسرعة التي أشاء، وحتى لو لم يكن ذلك سهلاً بواسطة كرة ـ جورب«. وبالوقت نفسه اصبحت لعبة كرة القدم بالنسبة له أكثر من مجرد تمضية للوقت، اذ غدت »وسواسا« لا يفارقه.

وكانت أمه قد لاحظت ذلك مما أثار لديها قلقاً كبيراً عليه، لاسيما وهي تعرف من تجربة والده ـ زوجها ـ ان كرة القدم مضيعة للوقت.. وبالتالي كان يصعب عليها ان ترى ابنها »ينحدر« نحو نفس المصير واشترطت ان يشارك أخوه زوكا في اللعب كي تتركه يلعب وكان ذلك في البداية امراً مزعجاً،لان زوكا كان صغيراً جداً ولا يصلح في شيء. وكان يجري غالباً نحو المنزل باكياً عندما يعترضه ولد أكبر منه وينتزع الكرة منه، لكن زوكا كان أخي وكان جواز سفري الى اللعب.

طفل هائج خيالي

كان بيليه، كما يصف نفسه، طفلاً هائجاً بمقدار ما هو مسكوناً بالخيال. وكان يريد ان يؤسس »نادي كرة قدم حقيقي« مع أفراد »عصابته« الساكنين بالشارع نفسه أو الحي..

ولذلك كان يحرص على تطبيق قواعد اللعب الصارمة في الملعب امام بيتهم تقليداً لأبيه أو لأولئك الكبار الذين كانوا يتدربون في الملعب الحقيقي غير البعيد.. لكن تأسيس نادي حقيقي يتطلب تجهيزات وألبسه وكرة.. لكن أين يمكن الحصول على الأموال اللازمة؟كان لابد من الحصول عليها بكل الأحوال.

كانت الفكرة الأولى التي خرج بها »بيليه« لأعضاء »النادي« الذين كانوا يجتمعون في باحة منزله أوعند أحد »الأعضاء« الآخرين هي جمع صور اللاعبين الكبار، الشائعة آنذاك،والتركيز على النوادي الكبرى في ريو دو جانيرو اوساو باولو، وتشكيل مجموعة كاملة أو مجموعتين بقصد مبادلتهما بكرة حقيقية. قبل الجميع الفكرة ووضع كل منهم ما بحوزته من صور. والتجهيزات؟اقترح احدهم فكرة جمع القطع الحديدية وعلب المحفوظات الفارغة والزجاجات وكل ما هو موجود في الشارع.. ثم إعادة بيعها. واقترح آخر جمع الخشب المكرّس للتدفئة.. والنتيجة؟

يقول بيليه: »لم يتبيّن ان أياً من هذين المشروعين مجدياً ماديا. اذ جمعنا كل شيء من الشارع حتى أبسط النفايات.. ولم يبق شارع أو ساحة لم نمر بها وننقب عمّا فيها. وكانت النتيجة هزيلة. وقد اكتشفنا اننا لم نكن وحدنا الذين بدأنا البحث عن تلك الكنوز«.

سرقة

في الاجتماع الثاني اقترح صبي ان يقوم »أعضاء النادي« ببيع الفول السوداني أمام مدخل السيرك ودار السينما. لكن كيف الحصول على هذه السلعة؟. لقد كشف لهم صاحب الاقتراح عن استراتيجية وهي: »سوف ننشله من مخازن سور وكابانا«.. أي من المستودع الموجود بالقرب من السكة الحديدية. تذكّر »بيليه« عندها والدته التي رددت أمام مسامعه باستمرار ان السرقة هي أكبر الخطايا.

لكن صاحب الفكرة شرحها بحماس وقال بان بضعة كيلوغرامات أقل من هذا المستودع الكبيرة ليست جريمة ثم ختم كلامه قائلاً: »إن أولئك الذين لا يريدون عمل ذلك هم مجرد حقيرين صغار: »كانت هذه الجملة كافية كي تحسم الأمر ليبدأ التحضير لـــ »الهجوم«.

ووقع الاختيار على »بيليه« كي يكون أحد المشاركين في عملية »السطو« الأولى يقول: »عندما قمنا بتمزيق احد الأكياس الهائلة خرج سيل من حبّات الفول السوداني.. وكانت قلوبنا تخفق بشدة ونحن نجمع غنيمتنا. لقد ملأنا جيوبنا وقمصاننا. وكان شركاؤنا ينتظروننا في الخارج لأخذ الحصاد الثمين. لقد نفذّنا المهمة بنجاح وخرجنا نجري ونحن نضحك بشكل جنوني لا نستطيع السيطرة عليه«.

وبنفس الوقت استمرت عملية جمع الصور.. وتم الحصول على الكرة التي احتفظ بها »بيليه« نفسه على أساس انه هو صاحب الفكرة، ومن يمتلك الكرة هو الكابتن غير الرسمي لنادي سيت دو سيتابرو لكرة القدم ـــ اسم الشارع«.

يقول بيليه: « هكذا تشكّل الفريق في النهاية.. وكان ثمرة جهودنا، نحن أبناء الأحياء الفقيرة الذين يريدون أن يلعبوا كرة القدم«.

عن جريدة البيان الاماراتية