فنان كبير وحملة ظالمة:محمد خان أكثر « مصرية » من الذين يهاجمونه!

فنان كبير وحملة ظالمة:محمد خان أكثر « مصرية » من الذين يهاجمونه!

رجاء النقاش

منذ سنوات تعرض المخرج الفنان محمد خان لحملة خفية من الاتهام والتجريح تقول إنه من أصل باكستاني، ولا يجوز له أن يمثل مصر في المهرجانات الدولية، فتمثيله لمصر في هذه المهرجانات باطل!

وفي الأسابيع الأخيرة تجددت الحملة مرة أخري وإن كان فرسانها في هذه المرة مختلفين.

وفي حياتنا الثقافية والفنية ظاهرة عجيب نعاني منها اليوم.. ومنذ عشرات السنين.

فكلما ظهر فنان جديد مبدع يحبه الناس ويتحمسون له.. بدأت الغيوم تنتشر وتتجمع لتوجيه الاتهامات إلي هذا الفنان وتعكير صفو نجاحه وإقبال الناس علي فنه الجميل.

ولم يسلم من هذه الغيوم الداكنة حتي العمالقة الكبار في الثقافة والفن.

طه حسين كتب عنه أحدهم كتابا لايزال في الأسواق حتي اليوم يقول فيه: إن طه حسين عميل للصهيونية والاستعمار الفرنسي.

وعبدالوهاب كتبوا عنه إنه حرامي وسارق ألحان وليس عنده أصالة فنية من أي نوع.

ونجيب محفوظ العظيم قالوا عنه إنه أخذ جائزة نوبل من تل أبيب في إسرائيل ولم يأخذها من ستكهولم في السويد!

وأم كلثوم قالوا عنها إنها موضة قديمة.

ولكن هؤلاء الكبار والعمالقة استطاعوا بنبوغهم ومحبة الناس لهم أن يسحقوا هذه الاتهامات السخيفة والظالمة.

وليس من الغريب أن يتعرض «محمد خان» لمثل هذه الحملة وهو يصعد - فيلما بعد فيلم - إلي القمة الفنية التي يستحقها بموهبته وأصالته.

ولا أظن أن محمد خان بحاجة إلي من يدافع عنه لأنه يملك «محاميا» بليغا هو فنه الجميل ويملك محامين آخرين أشد بلاغة هم: جمهوره ونقاده الفنيون الذين يعرفون قيمته وقدره.

ولكن الذين يهاجمون «محمد خان» الآن هم الذين يستحقون أن نوجه إليهم بعض الضربات «بالقلم».. «الرصاص»! !

إن هؤلاء الذين يهاجمون هذا الفنان الكبير لم يقرأوا تاريخ مصر، ولا يعرفون شيئاً عن شخصية مصر.

ولو أنهم قرأوا وفهموا لأدركوا أن «محمد خان» أكثر مصرية منهم.. رغم أن والده باكستاني وآباءهم مصريون!

فتاريخ مصر يقول لنا بوضوح وقوة:

إن «المصرية» ليست صفة يكتسبها الإنسان بشهادة الميلاد فقط، ولكنها تحتاج إلي شهادة أخري أهم وأبقي هي شهادة الحب والعطاء والعمل المخلص الأصيل.

وهذه الشهادة الأخيرة هي التي تعترف بها مصر وخاصة في ميدان الثقافة والفن قبل أي ميدان آخر.

وعندما نتابع سلسلة تاريخنا الأدبي والفني المعاصر، سوف نجد فيه كثيرا من الأسماء التي لمعت في سماء مصر وأصحابها من أصول غير مصرية.

أحمد شوقي أمير شعراء عصره من أصل تركي.

وبيرم التونسي صاحب أجمل الأغاني، وأجمل الكلمات في حب مصر.. هو من أب تونسي مهاجر إلي الإسكندرية.

عباس العقاد، أحد أمراء العقل العربي في العصر الحديث، من أصل كردي.

يحيي حقي صاحب «قنديل أم هاشم» وعاشق «السيدة زينب» وأحد الفنانين الذين عبروا عن الشخصية المصرية تعبيرا بالغ الصدق والعمق والجمال..

... يحيي حقي من أصل تركي.

وأحمد رامي مبدع أغاني أم كلثوم الكبيرة والجميلة من أصل ألباني.

هؤلاء جميعا وغيرهم رغم أصولهم غير المصرية، أحبوا مصر وأحبتهم مصر، وهم جزء من تاريخها الأصيل، وإذا «حذفنا» هذه الأسماء من تاريخنا المعاصر، فإن هذا التاريخ سوف يفقد أجمل صفحاته وأكثرها قوة وأصالة.

وما هي قيمة تاريخنا الثقافي والفني في العصر الحديث إذا حذفنا منه أسماء شوقي وبيرم التونسي والعقاد ورامي ويحيي حقي؟

إننا لو فعلنا ذلك سوف نكون مثل الذي يهدم الأهرام الثلاثة ومعها أبو الهول ومعبد الكرنك في الأقصر، بضربة واحدة.

ولست أدري لماذا نرفض أن يقوم الإرهابيون بمحاولات لتدمير آثارنا وتشويهها، ونسكت علي الإرهاب الآخر الذي يريد القضاء علي الموهبة في بلادنا بحجة أن أصحابها ليسوا من أصول مصرية؟

كيف نقبل مثل هذا الكلام الذي يرفضه عقل مصر وقلبها؟

إن مصر في موقعها الحضاري والجغرافي والتاريخي كانت علي مر العصور مكانا تلتقي فيه الموهبة الكبيرة في كل ميدان ومجال، وكان نابليون يقول عن مصر: «إنها رقبة العالم.. إنها أهم بلد في الدنيا».

هل أخذ نابليون «رشوة» من المصريين ليقول عن بلدهم هذا الكلام؟

إن الذين يرددون الاتهام ضد عباقرة مصر وفنانيها الموهوبين لم يقرأوا كلام نابليون، ولو قرأوه فلن يفهموه.

إن مصر لم تأخذ مكانتها فى حضارة العالم، إلا لأنها فتحت صدرها على مر التاريخ لكل الثقافات الإنسانية، ولم تتردد مصر يوما فى أن تستقبل المواهب الكبيرة وتخلطها بترابها ونيلها فيخرج من هذا الخليط ذهب خالص له بريق يخطف الأبصار.

وقد قرأت منذ أيام كلمات كتبتها وغنتها الممثلة الأمريكية المعروفة "شيرلى تمبل" تقول فيها: "يقولون إن مصر أم الدنيا.. ونحن نقول إن مصر هى كل الدنيا". وهذه الكلمات الجميلة ليست فنا يقوم على الخيال والمبالغة، ولكنها حقيقة تكاد تكون جزءا من حقائق العلم الثابتة... فمصر هى الدنيا كلها، لأن الكثيرين وفدوا إليها من كل أنحاء العالم واستقروا فيها وأحبوها وأعطوها كل حياتهم فأضافوا إليها وجعلوا من خريطتها الإنسانية أكبر بكثير من خريطتها الجغرافية.

ونحن عندما نمشى فى أجمل مدن مصر وهى مدينة الإسكندرية ونحب أن نتذكر أصل هذه المدينة فسوف نعرف أن الإسكندر المقدونى هو الذى بناها وأعطاها اسمه سنة 332 قبل الميلاد، فهل معنى ذلك أن الإسكندرية الجميلة ليست مدينة مصرية؟ وهل نطالب بهدمها لأن الذى بناها هو قائد عسكرى من جزيرة "مقدونيا" فى اليونان؟ !

إن هذا الكلام لا يعدو أن يكون نوعا من الهزل، وسوء الفهم، بل وسوء النية أيضا.

ونعود إلى موضوعنا الأصلى وهو هذا الاتهام السخيف للفنان محمد خان بأنه غير مصرى.

ومن الناحية الواقعية، نقول إن محمد خان إذا كان أبوه باكستانيا فأمه مصرية، وقد ولد فى مصر وعاش فيها وتنفس هواءها وشرب من ماء نيلها وأكل خبزها وشعر بأفراحها وأحزانها، مثله فى ذلك مثل جميع المصريين.

ونبغ محمد خان عندما نضج وأصبح مخرجا من مخرجى الصف الأول فى جيله، وتميز بأنه صاحب أفكار بديعة ورؤية عميقة للواقع والإنسان والحياة فى مصر، فانعكس ذلك على أفلامه الرائعة، ومنها "أحلام هند وكاميليا" ويكفى أن نذكر هذا الفيلم الذى أخرجه وكتب قصته محمد خان لنعرف - إذا كنا منصفين - إنه قصيدة سينمائية بديعة عن أحلام الإنسان المصرى البسيط وهمومه ومتاعبه، وضنى قلبه بحثا عن الأمن والسعادة.

وأفلام محمد كلها مليئة بهذا الفهم العميق لمصر ومشاكلها وهذه الرؤية الإنسانية الشاعرية لأحلامها وكفاحها من أجل الحرية والعدالة.

وبهذا الجهد الفنى الكبير المتصل يكون محمد خان قد أعطى لمصر أكثر ألف مرة مما أعطاه الذين يهاجمونه وآباؤهم مصريون!

وبذلك يكون محمد خان أكثر مصرية من هؤلاء، وأعز فى عين مصر منهم جميعا.

لقد بنى هذا الفنان تاريخا كبيرا من الفن الأصيل، أما هم فلم يفعلوا أكثر من أن يقذفوا الناس بالطوب والحجارة.

وسبب هذه الحملة واضح ولا يخفى على أصحاب الضمائر المخلصة.

إنها ليست حملة على محمد خان بل هى حملة على الفن الناجح الأصيل، لحساب الفن التافه السطحى، ولو كان محمد خان ممن يقدمون هذا الفن الرخيص لوجد بين من يهاجمونه الآن أنصاراً يدافعون عنه ويضعونه فوق الرءوس.

ولكن محمد خان فنان كبير، يعرف أن الفن تصوير صادق للحياة، ونقد للواقع حتى يتغير هذا الواقع ويتحول إلى واقع أجمل.

ومثل هذا الفن الرفيع لا يرضى أصحاب الأذواق السطحية الذين يريدون من السينما أن تكون رقصة وجسدا عاريا وإثارة لا معنى لها ولا قيمة.

وهؤلاء الذين يهاجمون هذا الفنان الكبير لا يحبون الفن الرفيع ولا يتحملونه لأنه فن يحتاج إلى جهد لفهمه وتذوقه.. وهم سطحيون، ودعاة للسطحية، وأنصار للذين يريدون للسينما أن تكون تجارة وشطارة... بل ودعارة فى بعض الأحيان.

وسوف يبقى محمد خان بفنه الأصيل رغم هجوم هؤلاء الذين لا نعرف لهم جنسية ولا أصلا فى الفن والثقافة.

سوف يبقى الفنان الكبيرة... ويذهبون هم كما تتبدد الغيوم أمام أشعة الشمس الساطعة.

· مجلة الكواكب 9/2/1993