مع مدرسة الإستشراق الألماني

مع مدرسة الإستشراق الألماني

د. أنور محمود زناتي

على الرغم من اتصالِ ألمانيا بالشرق منذ الحروب الصليبية الأولى، وانشقاقها بعد ذلك عن الكنيسة الكاثوليكية إثرَ حركة «مارتن لوثر»؛ فإن الدراسات الاستشراقية الألمانية لم تزدهرْ إلا في القرن الثامن عشر، متأخِّرة في ذلك عن بقية دول أوروبا، ولم يشارك العلماء الألمان في الدراسات العربية اشتراكًا فعليًّا إلا بعد أن توغَّل الأتراك في قلب أوروبا، التي بدأتْ تهتم بدراسة لغات العالَم الإسلامي.

ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهرْ نتيجةً للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنجلترا وهولندا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه.

والاستشراق الألماني يمتاز بالموضوعية والعمق، وساهم المستشرقون الألمان أكثرَ من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية، وخصوصًا كتب المراجع والأصول المهمة، ونشر المخطوطات، فإن أهمَّ ما قام به المستشرقون الألمان وضعُ المعاجم العربية؛ فقد وضع فرايتاج (1788 - 1861) المعجمَ العربي اللاتيني في أربعة أجزاء، ثم وضع فيشر (1865 - 1949م) معجمًا للغة العربية الفصحي، وقاموس هانزفير (1909 - 1981م) العربي - الألماني للغة العربية المعاصرة، وقاموس شراكل (1923م) الألماني - العربي، الذي صدر سنة 1974، والقاموس الضخم للغة العربية الفصحى الذي عمل عليه أولمان (1931) في جامعة توبنجن، وفي سنة 1980م كان قد وصل إلى حرف الكاف (ك)، وفي سنة 2000 انتقل العمل على هذا القاموس إلى جامعة ميونيخ، ووصل إلى حرف الميم (م)، وإن العمل على هذا القاموس سيستغرق مائة سنة ونيِّفًا، على الرغم من الإمكانات التكنولوجية والمادية المتوفرة، وعلى رغم أن الذي يعمل على هذا القاموس هو فريق عمل! ومن حسن الحظ وسوئه في آنٍ واحد أن آلافَ المخطوطات العربية والإسلامية قد وجدتْ طريقَها نحو المكتبات الألمانية، فربما لو ظلَّت قابعةً في أماكنها لقُضِي عليها، وقد آلت إلى المكتبات الألمانية في الجامعات والبلديات، من خلال الشراء والاستيلاء عليها من الأقطار العربية، لكنها - وبحق - وجدت مَن يسعى إلى حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل على تحقيقها، وإن نظرة في أعداد هذه المخطوطات لتوضِّح لنا أهميتَها كذخائرَ تراثية لا تقدَّر بثمن.

وقد حَظِيتْ مكتبة برلين الوطنية بنصيبِ الأسد من هذه المخطوطات؛ إذ إن عددها يربو على عشرةِ آلاف مخطوط، فُهرِست في عشرة مجلدات، وفي مكتبة جامعة جوتنجن - جنوب ألمانيا - نحو ثلاثة آلاف مخطوط من نفائس التراث العربي، والكثير من المخطوطات الذخائر، ناهيك عمَّا بها من كلِّ إصدارات العالَم العربي والإسلامي من كتب ودوريات منذ اختراع المطبعة، جاوز عمر بعضها المائة عام، واختفتْ من المكتبات العربية، وصار الحصول على بعضها ضربًا من المستحيل، كل ذلك محفوظ بمكتبة جامعة توبنجن؛ مما يجعل دورها دورًا ثنائيًّا في خدمة المخطوط والمطبوع من الفكر العربي، لم يقتصر دَور المستشرقين الألمان على حفظ هذه المخطوطات فحسب، بل عمدوا إلى تحقيقها تحقيقًا علميًّا ذا فهارس متعددة، واستوجب تحقيقهم وضعَ مؤلفات تعد عُمُدًا في موضوعاتها؛ كالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الذي وضعه المستشرق الألماني فلوجل 1802 - 1870م[5]، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومعجم شواهد العربية، وناشر كشف الظنون لحاجي خليفة، وكتاب الفهرست لابن النديم، وواضع فهرست المخطوطات العربية الموجودة في فيينا، وهي بحق مؤلفات رائدة يعتمد عليها المحققون العرب، وقد حقَّق المستشرقون الألمان عددًا كبيرًا من أمهات التراث العربي؛ مثل: الكامل للمبرد، وتاريخ الطبري الذي استمرَّ تسعة عشر عامًا من العمل المتواصل، ومؤلفات البيروني، وبدائع الزهور لابن إياس، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والفهرست لابن النديم، ومؤلفات ابن جني، وعددًا كبيرًا من دواوين الشعراء القدامى، وقد عكف "إيفالد فاجنر» على ديوان أبي فراس نحو عشرين عامًا حتى أكمله تحقيقًا.

ولا يمكن لأي دارسٍ في الأدب والنقد العربيينِ أن يتجاهَل أعمال مستشرقين ألمان كبارٍ مثل كارل بروكلمان، وكتابه: تاريخ الأدب العربي، على الرغم مما ورد فيه من بعض الأخطاء التي حاول دارسون عرب أن يتداركوها عليه؛ كما فعل عبدالله بن محمد الحبشي- لكن يبقى لكتاب بروكلمان فضلُ السبق في التعريف بالتراث العربي الإسلامي المخطوط في جميع مكتبات العالم، وهو جهدٌ فردي لم نستطعْ نحن - للأسف - فرادى وجماعات أن نقوم به، وقد أحسن الدكتور محمود فهمي حجازي وجمعٌ من المهتمين باللغة الألمانية - في ترجمته لهذا الكتاب ترجمةً وافية أفادت المتلقِّي العربي.

كما أن هناك معاجم وضعتْ في الألمانية؛ مثل معجم هانزفير (العربي - الألماني)، يعدُّ معجمًا رائدًا، كما يعدُّ كتاب العربية ليوهان فوك من المصادرِ التي لا يستغنى عنها، وقد تحدَّث نجيب العقيقي في كتاب: "المستشرقون" عن بعض المستشرقين الألمان، وعن إسهاماتهم الفكرية، كما قام بعض الأساتذة من المستشرقين الألمان البارزين بالتدريس في بعض الجامعات العربية، وخصوصًا في جامعة القاهرة؛ أمثال: ليتمان، وبرجستراشر، وشاده، وشاخت، كما أن أول مدير للمكتبة الخديوية في القاهرة كان المستشرق الألماني شتيرن، وعُيِّن بعض المستشرقين الألمان أعضاءً في مجامع اللغة العربية؛ تقديرًا لما قدَّموه من خدمات للغة العربية والدراسات الإسلامية.

وقد ازدهرتِ الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضلِ إنشاء كراسيَّ عديدة لتعلُّم العربية في ألمانيا، وازدياد المكتبات الشرقية التي اكتظت بالآلاف من المخطوطات والمؤلفات العربية والشرقية النادرة، وتأسيس الجمعيات الشرقية؛ كالجمعية الشرقية الألمانية، وإنشاء المجلات المتخصِّصة، منها: مجلة عالم الإسلام، التي أنشأها مارتن هارتمان، ومجلة: إسلاميات، التي أنشأها فيشر، وبرز في هذا المجال «فريدريش روجار» تلميذُ المستشرق النمساوي الكبير «جوزيف بورجشتاله»، وكذلك «هاينريش بارث».

ونجد أيضًا «آهلفارت» الذي تعلَّم العربية وأتقنها، وهو الذي وضع فهرس مكتبة برلين عن المخطوطات العربية.

ومن كبار المستشرقين «يوليوس فلهوزن»، الذي برز في مجال الدراسات الإسلامية؛ فحقَّق تاريخ الطبري، وكذلك نجد «تيودور نولدكه» الشهير، و»كارل بروكلمان» صاحب تاريخ الأدب العربي الذي يعدُّ موسوعة لا غِنى عنها لأيِّ باحثٍ في مجال الدراسات الإسلامية، كما أشرنا آنفًا، بجانب دَورهِم انصبَّ اهتمامُهم على تعلُّم اللغة العربية وتعليمها، ولقد كان للمعاهد الاستشراقية في الألمانيتين - قبل الوحدة - وفي الدول الناطقة بالألمانية؛ مثل: النمسا، وسويسرا، وجانب كبير من هولندا، وبلجيكا، ولوكسمبورج، وغيرهم - دورٌ كبيرٌ في نشر اللغة العربية، وقلَّ أن نجدَ مدينةً كبرى في ألمانيا دون أن نرى مركزًا لتعليم اللغة العربية.

وهنالك عددٌ لا بأس به من المجلاَّت المتخصِّصة في الآداب العربية والإسلامية، أو في أمور السياسة والاقتصاد بالمنطقة، وربما كان من أهمِّ هذه الدوريات مجلة عالَم الإسلام Die welt des Islam، وهي مجلَّة تُعنَى بالتراث والحداثة في الإسلام، وفيها مقالات لا غنَى للباحث عن الاطلاع عليها، ومن أسفٍ أنَّ ما ينشر فيها لا يترجَم إلى العربية.

وهنالك مجلةُ الشرق، وهي مجلة تُعنَى بالأمور المعاصرة في العالَم الإسلامي المعاصر، كما أننا لا نغفلُ دَور المتاحف الإسلامية المنتشرة في ربوع ألمانيا، ومعظمها عبارة عن مجموعات فنية خاصة لهُوَاةٍ جَمَعوها - ومعظمهم من المستشرقين - خلال رحلاتهم نحو الشرق، وإذا تجاوزنا عرضًا عن كيفية الجمع وما اعتراها من شبهات السرقة، إلا أن فتحَها للجمهور مجَّانًا يعرف المشاهد الأوروبي بحضارة الإسلام وفنونه المبدعة، بما فيها من نفائس المخطوطات، والمصاحف، والوثائق النادرة.

مستقبل الاستشراق الألماني:

إن المتتبِّع لحركة الاستشراق الألماني ربما يعودُ بها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، إلا أن البداية الحقيقية المنظَّمة ولدتْ على يد جمعية المستشرقين الألمان (DMC) - وهي في منعطف طرق - فجماعة (DAVO) استقطبت الشبابَ ومَن لم يجد دورًا في (DMG) من كبار المستشرقين؛ لأنها قد احتفظتْ بطابعٍ تقليدي وطقوسٍ جامدة لم يجدْ فيها الشباب دَورهم، ولم يجد فيها ما يصبو إليه؛ فأعضاء الجمعية الكبار وجَّهوا اهتمامهم إلى علوم الشريعة والفلسفة الإسلامية، والفَلك، والنحو، والمعاجم، والتحقيق، والشعر والنثر، وهي أمورٌ لم يعدْ لها من الشباب مَن يتحمَّس لها كثيرًا، لكن هذا الجيل الجديد لم يهتمَّ كثيرًا بعلوم اللغات الشرقية القديمة، وإنما يودُّ أن يقفزَ عليها؛ معتمدًا على مصادر باللغة الألمانية والإنجليزية، وأحيانًا بالفرنسية، مغفِلاً المصدر العربي حتى لو كان مختلفًا معه.

إضافة إلى ذلك نجدُ أن المستشرقين الألمان لديهم مناهجُ يستخدمونها في أبحاثهم الجزئية، لكننا نَفتَقِدُ منهجًا كليًّا للاستشراق نفسه، ولقد خدم بعضُ المستشرقين الكنيسةَ، ولكن هذا الدور يظل محدودًا لانتشار الاتجاه العلماني، وتحول الكنائس في ألمانيا إلى مزارات سياحية، بل لم يجدْ أحد القساوسة بدًّا من تأجيرِ إحدى الكنائس إلى مخزنٍ للبضائع عندما لم يجد مصلِّين، ولكن هذا لا ينفي وجودَ بعض المتعصِّبين ضد الإسلام، وليس بالضرورةِ أن يكونوا مع المسيحية، ولقد وجد بعضُ المحايدين أنفسَهم في حالِ حربٍِ ضد الإعلام الغربي الذي يوجِّه التهم للعرب والمسلمين طيلة الوقت، فساير بعضهم الإعلام، بل تحوَّل واحد منهم مثل «كونسلمان» إلى بوقٍ إعلامي خطير ضدَّ الإسلام، لكن المستشرقين الألمان لا يعدُّونه واحدًا منهم؛ لأنه نشأ إعلاميًّا وعمل في الحقل الإعلامي.

لكل ما سبق، فإن الاستشراق الألماني يظلُّ بمعزلٍ عن الاستشراقات الأميركية والبريطانية والفرنسية، ويظل له تميُّزه الواضح حتى لو اختلفنا معه، بَيْدَ أن هذا الاختلاف يجعلُنا نردِّد مع الشاعر الألماني الكبير جوته: «مَن عَرَف نفسَه أدرك أن الشرق والغرب لا يفترقانِ