هكذا عرفت نجيب المانع

هكذا عرفت نجيب المانع

عبد اللطيف الشواف
قانوني ووزير راحل
ولد نجيب سنة 1927 ودرس المرحلة الأولى من دراسته (الابتدائية) في الزبير حيث قضى طفولته في البلدة التي كانت تعتني بالدعوة السلفية الاسلامية الى جانب اهتمامها بادبيات اللغة العربية والتراث وكانت (خلفا ثقافيا) للبصرة القديمة التي كان موقعها الى جانب الزبير في الصحراء،

بعيدة عن مياه الانهار او البحار التي كان يخافها العرب ويخافون من وقوفها حاجزا بين الجزيرة العربية وبينهم منذ ايام الفتح الاولى وتحرير الامصار ايام الخليفة الامام عمر بن الخطاب، ولذلك فان موقع المربد (السوق الادبي الشهير من اسواق العرب في صدر الاسلام) يقع قرب بلدة الزبير ولا يفصله عن الجزيرة ونجد فاصل مائي حيث كان محلا مأمونا لعقد الصفقات التجارية وندوات الشعر والادب.
ان للتاريخ الفكري للزبير – لاسيما بعد انتعاش الحركة الدينية فيها اثر في الهجرة اليها من نجد – وكان ذلك وراء اهتمام نجيب منذ صغره – بعلوم الجادة الاسلامية من فقهية وادبية ولغوية ووراء تضلعه بهذه العلوم التي تاسست للتضلع منها وبتقاليدها الاجتماعية جمعيات عديدة مثل (جمعية الاصلاح الاجتماعي) و(جمعية النجاة) وقد عملت هذه الجمعيات بما بذل من جهد في تاسيس مدارس ثقافية عديدة ومجلات ومنابر وعظ وارشاد بحيث ان الزبير على صغر رقعتها – كانت مهدا لبعض المصلحين في العالم الاسلامي في اواخر العهد العثماني كالشيخ حبيب والشيخ الشنقيطي والشيخ المجموعي كما قد زارها في اوائل هذا القرن المرحوم الشيخ رشيد رضا صاحب المنار في مصر. لقد اكمل المرحوم نجيب دراسته الثانوية في ثانوية العشار بالبصرة في دورة كل من الاساتذة الشعراء بدر السياب (خالد عبد العزيز الشواف المحامي والموظف والاديب الشاعر ومحمد علي اسماعيل وكان معهم صديق متأدب من الاذكياء هو الاستاذ عبد الرزاق الريس وقد سمعت انه عاد الى السعودية في المنطقة الشرقية وقاد حركة عمالية في الشركة الامريكية (ارامكو) ولم اسمع به بعد ذلك.
لقد اتصل نجيب بالثقافة العربية في ايام الحرب العالمية الثانية اتصالا مباشرة عن طريق الصحف والكتب القديمة التي تركت بعد تواجد الجيوش الاوروبية – بمئات الالاف - في قاعدة الشعيبة القريبة من الزبير. والشعيبة موقع استراتيجي وعقدة مواصلات بين الطرق الموصلة ما بين بوادي نجد والكويت وجنوبي العراق وما وراءها من الامصار – بمواقع العراق الجنوبية وحوض شط العرب وعربستان في ايران وقد كان لها شأن كبير في الحرب العالمية الاولى حيث تجمع فيها الجيش العثماني التركي مع المجاهدين وعشائر العراق العربية والكردية تحت الراية العثمانية الاسلامية وابلى فيها آل سعدون وآل فتله والهماوند والشيخ محمود البرزنجي الحفيد وعلماء النجف الحبوبي والشبيبي بلاء حسنا انتهى بمقتل قائد الجيش العثماني (عسكري بك) وانهزام المسلمين وتم على اثر ذلك احتلال جنوبي العراق من قبل الانجليز. وقد بقيت قاعدة الشعيبة قرينة لقاعدة الحبانية قرب بغداد، وفايد في مصر، واصبحت في العراق العالمية الثانية مطارا وقاعدة إمداد لتأمين طرق المواصلات بين جيوش الحلفاء في الغرب وجيوشهم في الشرق الاقصى وروسيا السوفيتية، حيث دارت المعارك الرهيبة في الحرب العالمية الثانية في جنوبي روسيا وانتهت بسقوط النازية وهتلر واحتلال برلين.
ويروي المرحوم نجيب نفسه وقد سجل ذلك في بعض كتاباته انه تعلم الانجليزية – عن طريق قراءته الكتب القديمة التي كان يبتاعها في سوق الكتب في الزبير والتي كان يعرضها الضباط والجنود الانجليز بعد ان كانوا ينتهون من قراءتها في معسكراتهم في قاعدة الشعيبة، وقد كان في تلك الكتب كثير من كلاسيكيات الادب الانجليزي التي كان قد سمع بها نجيب في دراسته بثانوية البصرة كمسرحيات شكسبير وغيرها.
لقد التقيت بنجيب بعد عودته للبصرة – عندما تخرج محاميا وازمع العمل في محاكم البصرة بعد انهائه الدراسة في كلية الحقوق اثناء ما كان عميدها المرحوم الاستاذ السيد منير القاضي وكان تخرجه عام 1947. وعند مجيئه الى البصرة وتوطد علاقاته بجماعة نادي المحامين آنذاك حيث تكامل العنصر الثالث من عناصر تكوينه النفسي والايديولوجي الثقافي، فالعنصر الاول هو ثقافته العربية وتولعه بعلوم القرآن وادبيات العرب والشعر العربي، والعنصر الثاني هو الثقافة الغربية متمثلة في اجادته اللغة الانجليزية والفرنسية واهتمامه بكلاسيكيات الغرب من شعر وموسيقى وغناء ورسم ونحت ورقص ومسرح، اما العنصر الثالث فيه فهو الايمان والعمل على تحقيق شعارات الحركة الوطنية في الحرية والمساواة والديمقراطية والتحرر من نفوذ الاستعمار والانتصار لقضايا الفقراء والعمال والنساء والجنود والفلاحين وهي الشعارات التي ارتفعت في ربوع الرافدين واحتضنتها جماهير الطبقة الوسطى العراقية منذ المشروطية العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908 بل قبل ذلك منذ اتصال العراق بالسوق الاقتصادية العاليمة في ايام مدحت باشا 1869 والتي انفتحت وتجددت معالمها باستمرار النضال ضد سيطرة الاستعمار في ثورة العشرين وما اعقبها من الصراع الوطني – الديمقراطي طيلة تاريخ العراق بعد الحرب العالمية الاولى في مشارف ثورة تموز 1958 وعندها صار نجيب ايديولوجيا – قريبا من الحزبين الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي واثر ذلك كثيرا في تكوينه وتوجهه السياسي والفكري.
لقد عمل نجيب اولا موظفا في شركة نفط الرافدين – المتفرعة من شرطة نفط خانقين البريطانية والتي كانت تعمل في توزيع المنتجات النفطية التي تقوم بتصفيتها شركة نفط خانقين نفسها على المستهلكين من سكنة المدن في العراق ومن المزارعين اللذين يستعملون المنتجات النفطية في تشغيل مكائن ضخ مياه الانهار لاغراض الارواء حيث كانت شركة نفط الرافدين تشتغل بالتسويق والتوزيع بعد التصفية التي كانت تتولاها شركة نفط خانقين، وكان المرحوم عبد العزيز المانع (عم نجيب)احد موزعي المنتجات النفطية في المراكب النهرية على مزارعي جنوبي العراق وقد كانت اجادة نجيب الكلام والقراءة بالانجليزية هي السبب في سهولة حصوله على العمل في شركة نفط الرافدين حيث بقي فيها الى حين انتهاء عملها بعد ثورة تموز 1958 وتصفيتها حيث انتقلت مهامها الى المؤسسة الوطنية للنفط (مديرية توزيع المنتجات النفطية) حيث تعين نجيب مديرا عاما لهذه المؤسسة الوطنية وجرى تعريق ادارات توزيع المنتجات النفطية، هذا الى ان عمل نجيب المانع في مديرية الاستيراد العامة بادارة المرحوم ناظم الزهاوي في العهد الملكي – كانت من اسباب ترشيحه في سنة 1960 لمهام تجارية في الاقتصاد الحكومي شبيهة باعمال الاستيراد العامة من الناحية النظرية عندما كانت دائرة مديرية الاموال المستوردة خلية نحل تعج بالتجار من المستوردين الباحثين وراء اجازات الاستيراد المحدودة الكمية والمركبة من جهة، وموظفيها من الشباب التقدميين من جهة اخرى واكثرهم جاء في السنوات 1948 – 1952 متعاونين مع الاستاذ ناظم الزهاوي يقومون بواجباتهم صباح ومساء بالهمة والنشاط والنزاهة والاخلاص مما عرفت به مديرية الاموال المستوردة العامة واصبحت من خصائصها وخصائص موظفيها في تلك الايام.
لقد كان نجيب موظفا في مديرية الاموال المستوردة مع كل من الاساتذة عامر عبد الله وجاسم الرجب وابراهيم العنيزي وعبد الواحد القيسي وعبد الرزاق القيسي وعبد الوهاب الحسك وفاضل الخطيب وعبد الرزاق الشيخ علي واكرم الوتري وحسين عبد العال وحسن عبد العال وفاضل مهدي واسماعيل الشيخ علي وعبد الله عياش وعبد الجبار وهبي وهادي علي وبدر السياب وعبد الحميد صالح واسعد الفريح واكرم توفيق واحسان جاسم شوقي وجميل اسود ولطفي الدليمي ونجيب المانع وطلعت الشيباني وشكري صالح زكي وزكي عبد الوهاب ويحي الوادي وكاتب هذه السطور عبد اللطيف الشواف وغيرهم من شباب العراق وفنانيه ومثقفيه وشعرائه الوطنيين والتقدميين والقوميين باختلاف توجهاتهم وتجمعاتهم السياسية مما كان لنشاطهم الفكري والسياسي اثر في التطورات اللاحقة في العراق قبل بوعد ثورة 14 تموز سنة 1958.
وقد استمر المرحوم نجيب مديرا لمصلحة توزيع المنتجات النفطية حوالي السنة نقل بعدها الى وزارة الخارجية العراقية بعد ان التقى بوزيرها المرحوم الاستاذ هاشم جواد – الذي اعجب بمزايا نجيب وكفاءته الخلقية والثقافية واجادته الانجليزية والفرنسية وبقي يشغل احدى مديريات وزارة الخارجية واظنها (الدائرة القنصلية) مدة تناهز السنة ثم بعدها فصله المرحوم عبد الكريم قاسم اثناء سفر المرحوم هاشم جواد لحضور اجتماعات هيئة الامم المتحدة في صيف 1961 وكان عبد الكريم وكيلا لوزير الخارجية آنذاك وكان سبب الفصل فيما سمعناه في حينه ان نجيبا كان قد كتب مقالا في جريدة الاهالي (جريدة الحزب الوطني الديمقراطي – وكان نجيب عضوا فيه) يصف فيه اعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري (بانه اغتيال وليس عقابا عن جريمة لأن لم تكن هناك محاكمات قانونية) – مما اغاظ عبد الكريم فاصدر الامر بفصل نجيب من وزارة الخارجية وبقي نجيب عاطلا طيلة ايام عبد الكريم قاسم.
ولما ان حدثت احداث 14 رمضان سنة 1963 وتأسست الشركة العربية لإعادة التأمين كشركة مشتركة بين الشركات العربية لاعادة التامين ومنها الشركة العراقية لإعادة التامين، وكان مديرها صديقنا هو الدكتور مصطفى رجب الذي عين نجيب في شركته ثم رشحه للعمل بالشركة العربية لاعادة التامين في مركزها ببيروت حيث سافر نجيب واقام هناك مع عائلته مختلطا بالاجواء الادبية والثقافية التي كانت تعجب بها بيروت في الستينات واول السبعينيات سواء الاجواء الثقافية الشرقية العربية حيث كانت تصدر هناك مجموعة مجلات كالاديب والاداب والعلوم وغيرها، كما كانت بيروت تعج بمظاهر الثقافة الغربية حيث ابتدأت المسارح تعرض المسرحيات الاوروبية واللبنانية والقطع الموسيقية والاغنيات الكلاسيكية وحيث كانت محلات بيع الاسطاونات تتنافس في عرض احدث تكنولوجيات التسجيلات الفاخرة وتكنولوجيا تسجيل الالات المتنوعة وقد زرته في بيروت فوجدته يسكن في شقة في محلة (الحمراء) ذات غرف ثلاث مليئة بالاسطوانات الكلاسيك بما يفوق عددها على الالوف وبالكتب العربية والشرقية باللغات الانجليزية والفرنسية والعربية مما ادى الى دخول نجيب في مشاكل مالية مع الدائنين باثمان الاسطوانات وغيرهم من الكفلاء والضامنين مما كانت سببا في انهاء علاقة نجيب بشركة التأمين العربية وقيام خصومة بينه وبين الشركة المذكورة ومديريها ادت الى عودته الى بغداد في السبعينيات والى قيام علاقات غير ودية مع كثير من الاوساط الثقافية والفكرية الادبية ادت الى التأثير على مكانته الادبية والفكرية في هذه الاوساط وغيرها من اوساط الثقافية العربية هناك بعد ان كانت اقامة نجيب في بيروت سببا في معرفته بالاوساط الثقافية العربية وسهلت عليه العمل في الترجمة عند عودته الى بغداد.
قام نجيب بترجمة كتب عديدة من كتب الادب والفكر الغربي وانتخب رئيسا لجمعية المترجمين عند تكوينها في بغداد حيث كلف رسميا ببعض الترجمات السياسية منها إحدى كتب مستشار الامن القومي الامريكي برجنسكي وغيرها من المؤلفات الادبية والفكرية الغربية ولكنه كان ملاحقا من الدائنين والكفلاء بما ترتب لهم بذمة المرحوم نجيب عما تجمع من هذه النفقات المتراكمة عن ثمن الكتب والاسطوانات التي تركها في بيروت لدى احد اصدقائه الذي خزنها في مخزن في محل منخفض من داره مما ادى الى انغمارها بمياه الامطار مما اعطب الكثير من الكتب والاسطوانات ادى الى اتلافها هذا علاوة على ما انفق على ادباء بيروت في نفقات الولائم التي اقامها احتفاء بهم وباصدقائه من بغداد عند زيارتهم ديوان اعادة التامين (العربية) وقد ادت المطالبات بهذه الديون والقلق الذي ترتب على نجيب نتيجة عدم تمكنه من السداد واعادة الجدولة – الى اضطراره الى ترك بغداد والهجرة مع ابنه البكر لبيد – الى خارج العراق حيث انتهى به المطاف بعد السعودية في المنطقة الشرقية ومن ثم الى جدة ومنها الى لندن وحيث كانت اخته السيدة سميرة المانع تقيم وتعمل مع زوجها الاستاذ صلاح نيازي حيث يصدر مع زوجته السيدة سميرة مجلة (الاغتراب الادبي) من سكنهما في (كنكستن) وتمتاز (مجلة الاغتراب الادبي) بالاصالة والعمق، وتنشر نتاج الادباء العرب من مغتربي الوطن العربي في اوروبا وبلاد الغرب وان كانت من الناحية التجارية – تلاقي مشاكل مالية حقيقية في تغطية نفقات الطبع والتحرير والتوزيع.
لقد عمل نجيب في لندن محررا في جريدة الشرق الأوسط الصادرة بالعربية فيها واشترى في البدء داراً، وكانت اقساط الدار ونفقات (لندن) سبباً آخر في دخول نجيب في أزمة مالية اخرى حملته على البيع وترك الدار التي اشتراها واستئجار دار أخرى مؤقتة وقريبة من مركز لندن ثم بحثه اللحوح والمتعب عن عمل يدر عليه مردودا يسد بدل الايجار ومصاريف البيت مما ادى الى وفاته اثناء ذلك متأثرا – كما اعتقد – صحيا وعصبيا ونفسيا نتيجة حاجته الماسة الى الايراد وما كانت تشكله الديون المستحقة عليه من الضغوط في الغربة اذ ادت حاجته الماسة الى المورد المالي الذي يغطي احتياجاته التي كان يعجز عن معالجتها وتدبيرها الى وفاته المفاجئة علما بانه قد فارق الحياة وهو جالس على كرسيه منتظرا خبرا مطمئنا عن طريق الفاكس عن عمل جديد في الترجمة يضمن له موردا مقبولا بعد ان اتفق مع جريدة الشرق الاوسط بان يعمل – غير متفرغ – وبالقطعة في الجريدة المذكورة لكي يستطيع ان يوفر لنفسه ولحسابه موارد اضافية يعالج بها التزاماته.
وقد سمعت منه في اواخر ايامه ثناء وامتنانا للاستاذ كنعان مكية (الكاتب العراقي المعروف) لأنه قد قدم نجيباً الى دار نشر بريطانية اتفق معها نجيب على اعداد وطبع ونشر قصة انجليزية يقوم نجيب بكتابتها للقراء البريطانيين وكان نجيب يأمل من وراء ذلك عائدا ماليا بالمستوى الغربي دائب الشكر في احاديثه يلهج بالثناء والعرفان على الاستاذ العمير (حيث كانت طريقة تعامله مع رؤساء العمل في مختلف الاعمال قد كونت له عقدة نفسية منذ ايام عمله في الحكومة بمصلحة المنتجات النفطية ووزارة الخارجية وشركتي التأمين العراقية والعربية والتي كان رؤساؤه فيها سببا في متاعبه وهمومه وبعض تصرفاته الحادة التي استمرت في عمله بجريدة الشرق الاوسط ايضا. لقد كان نجيب فنانا، وقد يصعب تطويع الفنان ليكون موظفا روتينيا.
عن كتاب عبد الكريم قاسم وشخصيات اخرى ـ لندن/ دار الحكمة