هكذا قرأت كارل ماركس

هكذا قرأت كارل ماركس

د . علي الوردي
في قراءته للماركسية يتمسك الوردي بمنهجه الموضوعي فيكشف الايجابيات والسلبيات في هذه النظرية التي يصفها بأنها أهم المنعطفات في التاريخ البشري الحديث. ان النظرية الماركسية نظرية عظيمة بلاشك وقد احدثت في العالم تغييراً هائلا

يندر ان نجد له نظيرا في تاريخ البشر، ولكنها مع ذلك لا يمكن ان تكون كاملة خالية من العيوب تماما. فهي ما دامت من صنع البشر فلا بد ان تكون معرضة للخطأ والنقص على وجه من الوجوه.
يجب ان لا ننسي ان ماركس لم يأت بنظريته وحياً من السماء، بل هو استمدها من المعلومات التي توفرت لديه في حياته، ولهذا رأيناه يغير بعض الجوانب من نظريته مرة بعد مرة عند عثوره علي معلومات جديدة، ومن الممكن القول انه لو امتد به العمر فترة اطول، وعثر علي معلومات اخري، لربما كانت نظريته بغير الصورة التي تركها عند موته.
يعتقد بعض الماركسيين ولاسيما المتعصبين منهم ان النظرية الماركسية في اسسها كاملة خالدة، وهم ينسبون اليها صفة (العلمية) ويعتقدون انها مادامت كذلك فلابد ان تكون صحيحة تماما لا عيب فيها ولا يجوز ان يشك فيها احد. انهم ينسون ان العلم في تغير مستمر، وانه لا يزال في بداية الطريق، ولا ندري ماذا يخبئ المستقبل لنا من اعاجيب، وربما صار الذي نعده اليوم صحيحا غير صحيح غدا. الواقع أني أجد في الماركسية جوانب مشرقة تجذبني اليها، وقد اتيح لي ان ازور بعض البلاد الاشتراكية، كروسيا والصين وجيكوسلوفاكيا وبولونيا ، فلم املك نفسي من الاعجاب بما شاهدت فيها من مزايا قلما نجد لها مثيلا في البلاد الرأسمالية، واعترف اني عندما درست مؤخرا بعض معالم الاشتراكية في بولونيا هتفت من أعماق نفسي قائلا: هنا يكمن مستقبل العالم ! فاني لم اجد فيها تلك المناظر البشعة التي توجد عادة في البلاد الرأسمالية فليس فيها جموع العاطلين الذين لا يجدون عملا او الاف الفقراء الذين يسكنون في بيوت لا تليق بالبشر، او حشود الواقفين الصابرين الذين ينتظرون وسائل النقل تحت وطأة الحر والبرد، او المرضي الذين لا يجدون من يداويهم، او الاطفال الذين يعملون في الاعمال المضنية بدلا من دخول المدارس إلخ. ان الهدف الرئيسي للماركسية هو ازالة استغلال الانسان لأخيه الانسان، وتوجيه الانتاج العام نحو مصلحة السواد الاعظم من المواطنين. واشهد ان الماركسية سارت في الطريق الي هذا الهدف خطوات واسعة. ولكن مشكلة الماركسية انها لم تكتف بالسعي نحو هذا الهدف الاعظم، بل رأيناها تتدخل في امور هي في غنى عنها، حيث انكرت وجود الله، واستهانت بالاديان وحاولت تفسير التاريخ والمجتمع وطبيعة الانسان حسب خطة ثابتة لا يجوز الخروج عليها، وبذلك خلقت الماركسية لها اعداء كان من الممكن ان يكونوا اصدقاء لها.
عاش ماركس في جو فكري كان الاتجاه السائد فيه يميل الى تفسير جميع ما في الكون بنظرية واحدة حيث يشمل بها طبيعة الكون والانسان والتاريخ والمجتمع معا. وقد جرى علي ذلك الفيلسوف الكبير هيغل، ثم جاء ماركس من بعده فسار علي سنته. ومن الجدير بالذكر ان ماركس كان في بداية امره هيغلياً، وقد استمد اخيرا من هيغل نظريته في الديالكتيك غير انه جردها من نزعتها المثالية وجعلها مادية.

مشاهدات في البلدان الاشتراكية
قد يصح القول ان (الشمولية) في نظرية ماركس كانت من عناصر القوة لها في زمانها، اذ هي كانت تمثل التيار السائد انذاك. ولو لم تكن نظرية ماركس شمولية لما كتب لها النجاح والانتشار تجاه النظريات المنافسة لها. ولكن هذه الشمولية اصبحت فيما بعد من عناصر الضعف فيها، فان اتباع الماركسية وخاصة المتعصبين منهم جعلوها عقيدة كالعقائد الدينية، واعتبروها مفتاحا يفسرون بها كل شيء، ولا يكادون يرون احدا يخالفهم في رأي حتي يسرعون الى توجيه شتي التهم اليه، كالرجعية والغيبية والبرجوازية والامبريالية وما اشبه، وتلك تشبه تهمة (الكفر) و(الزندقة) لدى المتعصبين من اهل الاديان.
اني بعد مشاهدتي للبلاد الاشتراكية وقراءتي لكتابات الماركسيين توصلت الى نتيجة هي ان الماركسية في التطبيق تختلف اختلافا كبيرا عنها في التنظير. فالماركسية في التطبيق تدعو الى الاعجاب حقا ــ كما ذكرته آنفا ــ اما الماركسية في التنظير فهي تدعو الى التقزز احيانا لما فيها من نصوصية جامدة وقوالب فكرية تكرر مرة بعد مرة الى مالا نهاية له، كأنما المقصود بها هو التلقين والتحفيظ وليس التطلع الى حقائق جديدة.
كثيرا ما سألت نفسي عن سبب هذا الفرق الكبير بين الماركسية في التطبيق والماركسية في التنظير. ويبدو لي ان قادة البلاد الاشتراكية مشغولون بمعالجة المشاكل العملية التي تواجههم دائما، وهم يسعون نحو حل تلك المشاكل بما ينفع الناس بغض النظر عما ورد في الكتب من نصوص جامدة. فانهم لو التزموا بالنصوص لفاتهم القطار، وهم مضطرون الي اتباع طريق التطوير والابداع لكي يتمكنوا من النجاح في خضم المعترك العالمي. اذكر في هذه المناسبة ما حصل للزعيم الماركسي المعروف لينين، فقد أراد هذا الرجل تحقيق مرحلة الاشتراكية في روسيا عقب ثورة اكتوبر عام 1917 فعرضه في ذلك الكثير من الماركسيين اذ اعتبروا عمله مخالفا للنص الماركسي الذي يقول بان الاشتراكية لا يمكن تحقيقها إلا في البلاد التي وصلت فيها الرأسمالية اقصى نموها، وقد اتهم هؤلاء لينين بانه محرف للماركسية او مارق عنها، فرد عليهم لينين حيث اخرج كتابه المشهور: مرض الطفولة اليساري في الشيوعية . انقل فيما يلي نبذة من الكتاب توضح موقف لينين من النصوصية الجامدة، حيث قال:
قال ماركس وانجلز ان نظريتنا ليست عقيدة جامدة، بل هي هادية للعمل، ان اعظم غلطة واعظم جريمة ارتكبها الماركسيون (من الماركة المسجلة) امثال كارل كاوتسكي واوتو باور، ومن في شاكلتهم، هو ان هؤلاء لم يفهموا هذا الامر ولم يستطيعوا تطبيقه في اللحظات الفاصلة من ثورة البروليتاريا..
ولقد دفع الثوريون الروس، من عهد تشيرنيسفيسكي ضحايا لا تحصى جزاء تجاهلهم او نسيانهم هذه الحقيقة، ينبغي ان نسعى باي ثمن كان لنمنع الشيوعيين اليساريين والثوريين في اوروبا الغربية وامريكا، ممن كرسوا انفسهم للطبقة العاملة من ان يدفعوا لاستيعاب هذه الحقيقة مثل الثمن الباهظ الذي دفعه الروس المتأخرون .
من المؤسف ان هذه الصرخة من لينين لم يستنفذ منها سويا القليل من الماركسيين فان الذين كانوا يلتزمون نصوص ماركس وانجلز من قبل جاء بعدهم اناس ساروا علي خطتهم غير انهم اضافوا الى النصوص الاولى نصوصا جديدة هي التي جاء بها لينين نفسه..
يمكن القول ان التنظير الماركسي في وضعه الحالي يحتوي علي صنفين من الاخطاء صنف وقع فيه مؤسسو الماركسية، اي ماركس وانجلز ولنين ومن في مستواهم، فهم ببشر كغيرهم من الناس يصيبون ويخطئون ونحن حين ننقد اخطاءهم لا يعني ذلك اننا أعظم منهم تفكيرا، فان المفكرين العظام قد يتورطون في اخطاء لا يمكن اكتشافها إلا بمرور الزمن.

حول العامل الاقتصادي
اما الصنف الثاني من الاخطاء فهو الذي يقع فيه اتباع الماركسية اذ هم يخالفون ما جاء به المؤسسون احيانا بينما هم يحسبون انهم سائرون في طريقهم. وهذا أمر لا ينحصر في اتباع الماركسية وحدهم، بل هو ظاهرة اجتماعية عامة نلاحظها لدى جميع الاتباع في كل زمان ومكان، وقد رأينا امثلة واضحة عليها لدي المسلمين في عهودهم المتأخرة اذ هم يظنون انهم سائرون علي سنة النبي واصحابه بينما هم في حقيقة امرهم علي النقيض منهم في كثير من الامور.
سأحاول فيما يلي من هذا الملحق وفي الملاحق التالية مناقشة بعض الاخطاء الماركسية من كلا الصنفين حسب تصوري لها، او بمقدار فهمي لها ولست ادعي الصواب في ذلك، فربما كان فهمي لتلك الاخطاء مغلوطا ــ اي ان الخطأ ربما كان في ذهني وليس في النظرية الماركسية واني ارجو من المتفقهين في الماركسية ان ينوروني عنها.
يعزا الى ماركس فضل توجيه الفكر البشري لاول مرة في التاريخ الى اهمية العامل الاقتصادي في الحياة الاجتماعية، فقد كان المفكرون قبله لا يعيرون هذا العامل الاهمية التي يستحقها وجاء ماركس أخيراً فوجه الانظار اليه بشكل مركز شديد بحيث جعله المحور الاساسي في المجتمع والمحرك الاول للتاريخ.
ان هذا التركيز من ماركس على اهمية العامل الاقتصادي قد ادى لدى بعض الاتباع الي التطرف فيه كما هو شأن المتطرفين من الاتباع دائما، وقد لاحظ انجلز بوادر هذا التطرف لدى شبان الماركسيين في زمانه فاعلن انتقاده له وشجبه ان انجلز يعزو قسطا من مسؤولية هذا التطرف الى نفسه والى رفيقه ماركس حيث يقول ما نصه:
"ماركس وأنا نحمل جزئيا مسؤولية كون الشبان يعطون الجانب الاقتصادي وزنا اكبر مما يجب. ففي مواجهتنا لخصومنا كان علينا ان نؤكد المبدأ الاساسي الذي ينكرونه. وفي هذه الحال لم نجد دائما الوقت والموضع والظرف الذي يتيح لنا اعطاء العوامل الاخرى التي تشترك في الفعل المتبادل مكانها.."
وقد ذكر انجلز كيف ان العوامل الاخرى لها اهميتها التي لا تنكر في تفسير الاحداث كعامل الحروب والسياسة والدين والافكار وغيرها. وهو يقول في ذلك: "اذا ما قام احد بتشويه هذا الموقف بمعنى انه جعل العامل الاقتصادي العامل المقرر الوحيد فانه بذلك يحوله الى جملة فارغة مجردة حمقاء"
ويأتي انجلز بامثلة من تاريخ المانيا كظهور الدولة البروسية أو كيف تشكلت الامارات الصغيرة التي كانت قائمة في المانيا حينذاك. او كيف انقسم الالمان في لهجاتهم تبعا لمواقع سلاسل الجبال. فهذه أمور لا يمكن تفسيرها في رأي انجلز بالعامل الاقتصادي وحده. بل لابد من ان تكون هناك عوامل اخري تعمل عملها.

تطور المجتمع
خلاصة رأي ماركس في المجتمع البشري انه يقوم على اساس مادي اقتصادي. فالبشر حين يعملون في انتاج المواد الضرورية لحياتهم يدخلون في علاقات تنظم انتاجهم، وان مجموع هذه العلاقات يؤلف القاعدة التي يبني عليها المجتمع. ويقوم علي هذه القاعدة ما يسميه ماركس بــ (البناء الفوقي) وهو الذي يتكون من جميع مظاهر التراث الاجتماعي كالعادات والتقاليد والعقائد والقوانين وقواعد الاخلاق والفنون والفلسفة وما اشبه، ان البناء الفوقي يستمد جذوره من القاعدة التي يقوم عليها، وهو يتغير بتغيرها. وفي رأي ماركس ان التاريخ البشري هو نتاج الصراع بين الطبقات ويفسر ماركس هذا الصراع بانه نتيجة التناقض الذي يحصل بين القوي المنتجة وعلاقات الانتاج، فالقوي المنتجة تتألف من البشر الذين يعملون في الانتاج مع ادواتهم، وهذه القوى تسير في سبيل التحسن والتطور بمرور الزمن، ولكن علاقات الانتاج لا تستطيع ان تماشي هذا التطور في القوى المنتجة، ومن هنا ينشأ التناقض بينهما حيث يظهر الصراع بين الطبقة المستغلة (بفتح الغين) والطبقة المستغلة (بكسر الغين) ــ مرة اخرى عبر التاريخ.
ويعتقد ماركس ان المجتمعات البشرية تمر في تاريخها بمراحل أو انظمة خمسة هي: المشاغبة البدائية، الرق، الاقطاع، الرأسمالية . الاشتراكية. فكل مرحلة من هذه المراحل تعد تقدمية بالنسبة الى المرحلة السابقة لها. وذلك لحصول الانسجام فيها بين القوي المنتجة وعلاقات الانتاج. ولكن هذا الانسجام لا يدوم الي الابد. ولابد ان يتضاءل بمرور الزمن ليحل محله التناقض. وبذا يبدا الصراع وتنشب الثورات التي تؤدي في نهاية المطاف الى قيام مرحلة جديدة.
سُميت هذه النظرية بـ (المادية التاريخية) وهي كانت في الواقع اعظم نظرية اجتماعية في حينها وقد لقيت رواجا كبيرا في اوساط المثقفين التقدميين في اوربا، واعتبرها انصارها صنوا لنظرية داروين تلك لعلم الاحياء وهذه لعلم الاجتماع. مشكلة هذه النظرية تكمن في اتباعها وليست فيها فقد اراد لها ماركس ان تكون مرشدة للعمل. ولكن اتباعها ــ او بعضهم على الاقل ــ جعلوها عقيدة ثابتة لا تقبل الشك او التغير. لقد اصبحت فرضية المراحل الخمس التي جاء بها ماركس بمثابة (المسطرة) يلجأ اليها الاتباع كلما أرادوا دراسة مجتمع من المجتمعات او دراسة تاريخية، فليس عليهم سوى وضع تلك (المسطرة) علي المجتمع ليروا اية مرحلة هو فيها، ثم يبدأون بعدئذ بالبحث عن القرائن والادلة التي تؤيدهم في ذلك. ان هذا هو ما فعله كوتلوف في كتابه عن ثورة العشرين، فهو لكي يدرس تلك الثورة وجد من الضروري ان يضع (المسطرة) على المجتمع العراقي في زمن نشوب الثورة. وقد توصل كوتلوف الي نتيجة هي ان المجتمع العراقي كان حينذاك يعيش في مرحلة الاقطاع. ولهذا كانت ثورة العشرين في رأيه نتاج الصراع بين طبقة الجماهير الكادحة كالبدو والفلاحين والحرفيين من جهة، وطبقة الاسياد المستغلين لهم من الجهة الاخري. نحن لا ننكر اهمية الصراع الطبقي في تفسير احداث التاريخ، ولكننا مع ذلك لا يجوز ان نحشره في كل حادثة وفسر به كل شيء. فان المجتمعات تختلف بعضها عن بعض في نوع الصراع القائم فيها. كما ان الاحداث التي تقع فيها تختلف واحدة عن الاخرى في طبيعة الدافع الرئيسي لها،
خذ ثورة العشرين مثلا، فهي اذا كانت نتاج الصراع الطبقي على نحو ما قال به كوتلوف فمعني ذلك ان الصراع يجب ان يكون بين الشيوخ وأفراد عشائرهم باعتبار ان الافراد كانوا الاقنان الكادحين، وان الشيوخ كانوا المستغلين لهم، هذا ولكن الواقع الذي شهدناه كان علي النقيض من ذلك.

نشرت هذه المقالة كملحق للجزء السابع من كتاب لمحات اجتماعية وفيه يرد علي الوردي على المنهج المادي في كتاب التاريخ