اسرار الرحلة الباريسية للدكتور محمد مهدي البصير

اسرار الرحلة الباريسية للدكتور محمد مهدي البصير

علي كاظم الكريعي
أصبحت فرصة إبعاد محمد مهدي البصير، عن الساحة السياسية العراقية ، سانحة لوزارة نوري السعيد ، وقد كان البصير، يشكل العنصر الصلب والجريء في الحركة الوطنية العراقية ، ولعل الحكومة قد أرادت أن تفتت الحركة الوطنية ، من خلال إبعاد البصيرعن العراق ، مستغلة حبهُ للعلم والمعرفة ، ليتسنى لها التخلص من المعارضة تدريجياً، فقررت إيفاده الى مصر.

أوفد محمد مهدي البصير، بناءاً على القرار الصادر من مجلس الوزراء بتاريخ 30 حزيران سنة 1930م الى مصر. ضمن أفراد البعثة العلمية لمديرية أوقاف العراق. لأجل القيام بما أسموه((بتتبعات علمية وأدبية وأجتماعية ودينية)).
وروى البصير موضوع سفره قائلاً ً:ـ ((كنت متفقا مع المسؤولين أولاً بالذهاب الى أوربا..ولكنهم قالوا لي ،قبل أن تذهب الى أوربا عليك ان تمضي سنة دراسية واحدة في مصر ،تدرس فيها اللغة الفرنسية ،وتطلع على الحركة الأدبية فيها ،فوافقت على ذلك المقترح)).
غادر البصير، بغداد في الأول من تموز سنة 1930م إلى سوريا ، ومن هناك إلى مصر ، حيث أمضى فيها سنة دراسية واحده ، درس فيها مبادئ اللغة الفرنسية
على يد أستاذ خاص ، فأتقنها بطلاقة مذهلة ـ ومن الجدير بالذكر إن البصير، اتقن اللغة الأنكليزية فضلاً عن اللغة الفرنسية ـ وحضر محاضرات الأساتذة في جامعة
القاهرة ، وكان البصير، على اتصال دائم بكبار الشخصيات الأدبية في مصر ، مثل هيكل ، العقاد ، طه حسين ، محمد علي علوبة ، حافظ إبراهيم ، أحمد شوقي ، منصور فهمي ،علي عبد الرازق وعبد الرحمن الشهبندر الرئيس السوري المعروف ، حيث أقام لهُ حفلة تكريم ، دعى إليها كبار الأدباء ، وكانت الحفلات تتوالى والبصير ضيفها الدائم ، وكانت أكثر لقاءاته في مصر مع طه حسن ومنصور فهمي وشخصيات أدبية أُخرى كانوا يتفضلون بزيارته في محل إقامته .
كرس محمدمهدي البصير جهده في مصر، على دراسة اللغة الفرنسية ، وأقام في موضع إكرام وتكريم ، يتصل ويناقش ويتلقى مبادئ اللغة الفرنسية .
أبحر بعد ذلك البصير، بعد مضي سنة دراسية في مصر، على ظهر سفينة أقلتهُ من الإسكندرية إلى مرسيليا في فرنسا في أوائل حزيران سنة 1931م ، بزي أوربي، بعد أن تخلى عن ((العمامة)) حاملاً معه مادة وفكر عن "بعث الشعر الجاهلي" وبحوزته كتاب ((الأدب العربي قبل الإسلام)). وهو مجموع المحاضرات التي ألقاها على طلابه في دار المعلمين العالية ببغداد بين عامي 1925-1930م. على أمل أن يحوله إلى إطروحة حول الموضوع نفسه ، يبين فيه حقيقة وجود الأدب العربي في تلك الحقبة ، تلك الحقيقة التي أراد طه حسين إنكارها .
أمضى محمد مهدي البصير، في فرنسا سبع سنوات مفارقاً وطنه ، منكباً على
دراسة الأدب الفرنسي في جامعة ((مونبليه)) أدت إلى إحرازه على دبلوم الدراسات الفرنسية العليا في شباط سنة 1933م .
وشاءت الأقدار أن يلتقي البصير، بالآنسة الفرنسية ((إيفون أُوجين أديمون)) التي جاءت الى جامعة مونبليه ، لغرض إكمال دراستها العليا ، وقد جمع بينهُ وبينها حبهما للأدب ، فتزوجها بتأريخ الأول من كانون الثاني سنة 1934 م . فكان لهذه السيدة أثر واضح في نجاحه في دراسته ، حيث كانت تساعده كثيراً من خلال
اختيار الكتب وقراءتها لهُ ، وقد أشاد البصير فيها قائلاً :ـ
((لولاها لما استطعت أن أعمل شيئاً ، أو أن أوفق في دراستي في فرنسا ، فكانت تساعدني كثيراً)).
وقد كان للبصير سكرتيرٌ خاصٌ يعمل عندهُ ، وهو أحد طلاب كلية الطب في جامعة مونبليه ، يعمل على مساعدته في دراسته ، وكان هذا قبل زواجه من السيدة إيفون ، وهو مصري الجنسية مقابل مبلغ معين يدفعه له البصير كل شهر، ولكن لم يتسنى لنا معرفة اسم هذا السكرتير.
كان البصير يقضي معظم وقته في المكتبات ، منكباً على الدراسة والبحث . وفي بعض الأحيان يتردد إلى حلقات بعض المتشرقين ، فقد كان يتتبع دروس ثلاثة منهم : وهم كل من الأستاذ وليام مارسيل ، دي مون بين وماسنيون ، وكان هولاء من كبار المستشرقين الفرنسين ، وأكثرهم علماً ، وأوسعهم شهرة ، فكان مارسيل يدرس رسائل الكسائي، فيقوم الطالب بقراءة بضعة أسطر من الكتاب ، ثم يقوم الأستاذ بتفسيرها باللغة الفرنسية ، وأحياناً باللغة العربية ، ولايعلق عليها إلا نادراً ، أما الأستاذان دي مون بين وماسنيون ، فقد كان أولهما يدرس الغزالي ، بقراءته في كل درس نبذة من كتاب أحياء علوم الدين وترجمتها الى الفرنسية ، وثانيهما يفسر سورة(( يس)) التي إستغرق تفسيرها السنة الدراسية كلها .
وعلى الرغم من ضيق وقت البصير، إلا إنهُ كان يعمل على تتبع الحركة الفكرية والأدبية في الأقطار العربية ، فكان يقرأ بعض الصفحات للريحاني من((أنتم الشعراء)).
وعندما كان البصير، يدرس في فرنسا ، أمر رئيس الوزراء ، نوري السعيد بقطع مخصصاته ، حيث كان البصير يمقتهُ ، وسبق وأن ندد بسياسته وتزلفه للبريطانيين ، وتعاونه معهم . وقد أكد البصير ذلك قائلاً:ـ
((فقد كان ذلك المسؤول يأمل أن أكتب اليه مستعطفاً ومعتذراً . ولكني فضلتُ أن أجوع في بلاد الغربة ، بدلاً من أن أكتب اليه)).
وقد عقب البصير بالأبيات الشعرية التالية:ـ
إن للذين بذلـت نفسـك دونهـم
عند اشتداد عظائم الأهوالِ
بخلو عليك بأن تعيش كطالب
جم المتـاعـب واسع الآمال
فأغفر لهم زللاً قد أحتملوا به
سخط العصور ونقمة الأجيال
أخذ البصير يوجه طموحه ، الى نيل شهادة الدكتوراه في السوربون ، فقام بإخبار سكرتارية عمادة كلية الآداب في جامعة باريس ، بكتاب شرح فيه نيته حول إعداد الأطروحة المذكورة آنفاً، فوافقت الجامعة على مقترحه ، فبرم البصيرالعزم على ذلك ، وسافر الى العاصمة باريس ، وبدأ محاولات عدة اتصل بالمستشرق الفرنسي ((ماسنيون)). حيث أفصح له البصير عن نيته ، بانهُ قادم لوضع إطروحة يرد فيها على طه حسين ، يبين فيها إثبات الشعر الجاهلي وبأحسن صورة ، في الوقت الذي ينكر طه حسين هذا النوع من الشعر بقوله " إن الشعر الجاهلي منحول كله أو معظمه" . فرد عليه ماسنيون بقوله :" أننا لا نسمح بهذا ، لا تقول إن الأدب العربي كان موجوداً قبل الإسلام". وهكذا رفض ماسنيون موضوعه هذا بشدة ، بعد أن وضع العراقيل في طريقه، وذلك لأن هذا الموضوع يخالف رأي المستشرقين في الشعر الجاهلي0 كان المستشرقين آنذاك ، على قمة ظلالتهم في إنكار الشعر الجاهلي ، وكانت قياداتهم في القمة من معاداة الوطنيين الذين اشتغلوا بالسياسه لخدمة وطنهم حرباً على الاستعمار.
ويؤكد البصير ذلك قائلا ً:ـ
((علمتُ بعد ذلك ، ان الخطه الثقافية للمستعمرين الفرنسيين ، تقتضي بتعليم الشعوب العربية المستعمرة ، مبدأ نفي التراث الحضاري ، وحقيقة إستمراره في تأريخ الأمة العربية ، ومن هذا المبدأ يعتبر الفرنسيون عبد الحميد الكاتب ، هو
الكاتب الفني الأول في الأدب العربي ـ هو من أصل فارسي ـ أما الكاتب الثاني ،
فهو عبدالله بن المقفع وهو أيضاً من أصل فارسي ، بينما ينكرون وجود الشعر الجاهلي والصفة الأدبية في نثر القرآن الكريم ، وخطب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). وهكذا حتى يستنتجون إن أحسن ما جاء به الأدب العربي ، أنتجه كتاب من إصول غيرعربية)) .
طوى محمد مهدي البصير، الفكرة بسبب المعارضة القوية للموضوع ، وأخذ يبحث عن موضوع فرنسي ، فوجدهُ فيما لا يخطر على بال ، بما في ذلك بال القارىء الفرنسي ، أو الباحث الفرنسي نفسه.
عاد البصير، مرة أُخرى الى جامعة مونبليه، وإتصل بأستاذه المشرف على إعداد الإطروحه المسيو ((جوردا)) وعرض عليه البصير، موضوعاً فرنسياً صرفاً وهو((شعر كورني الغنائي)) .
لقد كان كورني، الشاعر الفرنسي الكبير، الذي إختار البصير شعرهُ الغنائي ماده لإطروحته وغايتها الفلسفيه من الأدب ، ومكانته من الحركه الفكريه الفرنسيه ، موضع أسئله لاتحصى . أما أن يتقدم طالب ليدرس غنائية كورني فتلك إلتفاته يتحمل مسؤليتها .
شرع البصير، بكتابة إطروحته ، وكان يقضي معظم وقته في المكتبات ، منكباً على الدراسه والبحث ، حتى انتهى من كتابتها ، وتم مناقشتهُ يوم 17 كانون الأول سنه 1937م . وإنتهت المناقشه بمنحه شهاده((الدكتوراه)) في الأدب الفرنسي. وبدرجه مُشرف جداً . وهي أعلى درجه تمنحها الجامعه لأي دارس دكتوراه.
وبعد نجاح البصير في إطروحته ، طبعت جامعه مونبليه ، الإطروحه على شكل كتاب سنه 1937م باللغة الفرنسية ، فظل كذلك ويبدوا إنهُ سيبقى هكذا ، فلم يكن في رأي البصير، أن يترجم الى العربية ، لأن القاعدة التي قام عليها ، هي أشعار كورني، وهي لا تعرف تمام المعرفه إلا بلغتها الفرنسيه ، ووزعت الإطروحه هذه على جامعات العالم كافه.
وأكد البصير ذلك قائلاً :ـ
((لقد استغرقت مني جهداً كبيراً ، الحصول على الدكتوراة ، بدرجة مشرف جداً ، وقيام جامعه مونبليه بتوزيع تسعين نسخه من الاطروحة ، على جميع جامعات العالم المهتمه بدراسة الأدب الفرنسي)).
ولابد من الإشاره هنا ، الى أن محمد مهدي البصير، قد تخلى عن(( لحيته)) في فرنسا ، بعد أن نزع عنه العمامه في مصر ، قائلاً :ـ
((لقد غادرت بغداد الى مصر بزي أوربي ، ففي مصر نزعت عني العمامة ، وفي باريس حلقت" لحيتي" وهي آخر ما تبقى من علائم رجل الدين العراقي)) . أما عن الحياه في فرنسا فقال : ((لقد توافقت مع الحياة الفرنسيه بكل سرور)).
غادر محمد مهدي البصير فرنسا ، بتأريخ 24 كانون الثاني سنة 1938م ، بعد أن أنهى رحلته العلمية الشاقة ، عائداً الى وطنه العراق ، بعد فراق دام ثماني سنوات ، وكان دافع الشوق الملح بين جنبيه يحفزه الى لقاء الأهل والأصحاب ، ولاستنشاق هواء الوطن العزيز ،والاستظلال بظله ، خير حافز وأقوى مؤثر في عودته الى بلده الحافل بأمجاد الماضي ، وبما أفاض على العالم ردحاً من الزمن من نور العلم وآيات الأدب ،حاملاًمعه شهادة الدكتوراه بالأدب الفرنسي من جامعة مونبليه على ظهر الباخره وبرفقة زوجته الفرنسيه أيفون. وصل البصير، بغداد يوم الثلاثاء الموافق 8 شباط سنة 1938م . فأستُقْبل إستقبالاً حماسياً رائعاً شعبياً وحكومياً، إشترك فيه مديرالدعاية والنشر، نائباً عن رئيس الوزراء ووزير المعارف . وكان من بين مستقبليه محمد الصدر والعديد من أخوانه، وأصدقائه وطلابه والمعجبين بروحه الوطنية الوثابة ، ومن زملائه في الجهاد الوطني والنهضة العراقية المباركة ، المقدرين نبوغه
الممتاز.
وبعد ثلاثة أيام ، توجه البصير، الى مدينة الحلة ، مستغلاً القطار المسافر الى الفيحاء ، فقام بزيارة والده الشيخ محمد ، فعانقهُ عناقاً شديداً ، كما أستقبلهُ أهالي الحلة إستقبالاً رائعاً . وفي الساعة الرابعة من مساء يوم الجمعة ـ وهو يوم
وصوله ـ حيث كان موعد حفلة التكريم التي اقامها له شباب الفيحاء ووجوهها ، في نادي الموظفين . وكان النادي على رحبة ردهاته وسعة حديقته ، غصا بالناس على إختلاف طبقاتهم ، كما حضرها محافظ الحلة عبد الجبار الراوي ، والقيت فيها العديد من الكلمات للشخيات التالية أسماؤهم على الترتيب : محمد علي الفلوجي ، عبد الأمير ناجي ، يوسف كركوش الحلي ، كما ألقيت في هذه الحفله قصيده ألقاها حسين راجي نيابةً عن محمد حسن كمال الدين . ولم يشأ الطلبة من أبناء الحله ، إلا أن يساهموا في هذه الحفلة ، بلسان زميلهم الطالب جميل حميد النعمان. وعزعلى الأستاذ محمود عبد الحافظ ، المدرس المصري بثانوية الحلة ، إلا أن يشارك في هذه الحفلة بكلمة مناسبة .
وهنا نهض البصير، شاكراً للجميع شعورهم الفياض ، ثم حدثهم عن نهضة الأمة العراقية ، عامة و الحليين خاصة ، و أنشد قصيدة وطنية ، كان قد نظمها في مونبليه في فرنسا ، لتكون نشيداً قومياً للعراقيين .
ثم عاد البصير، الى بغداد صباح يوم السبت ، مودعاً من أهل الحلة بمثل ما استقبل به ، من حفاوة وتكريم . وبعد هذا ، أستدعت البصير وزارة المعارف ، فعين في 16 نيسان سنة 1938م ، في دار المعلمين العالية ، وأسند اليه تدريس مادة الأدب العربي ، فاحتفظ بهذا المنصب الى أواسط تموز سنة 1959م .

وتحدث البصير عن ذلك قائلاً :ـ
((والحق إنني لم أكن أرغب في التدريس ، كنت أنوي الإشتغال في التأليف والصحافة والترجمة ، ولكن المسؤولين لم يوافقوا على رغباتي في ذلك الوقت . وهكذا أضطررت على قبول تعييني أستاذاً في الكلية المذكورة . أدرس فيها الأدب العربي)).
وعلى هذا الأساس . قرر البصير التريث في التأليف ، وذلك لما عُرف عنهُ من قوة الإرادة والإبتعاد عن الشهرة ، وليقل إزاء ذلك الذين يختلقون الزلات ما يقولون
((إن المهم أن تؤلف كتاباً ترتضيه فيه شخصيتك ، وفيه فكرك ، وتقدم للقارئ جديداً أصيلاً ، وليس المهم أن تلقي في السوق كتاباً)).
انصرف البصير الى التدريس ، فأ خذ يعمل على إعداد محاضراته ، والقيام
بواجب المهنة المقدسة التي كلف بها بإزاء جلال الأدب العربي في نفسه ، وبإزاء أبناء الأمة الذين سيتولون حمل الرسالة معه وبعده ، وقد يلقي بين حين وحين أحاديث من الإذاعة ، ويكتب مقالات للجرائد و المجلات . ثم شرع البصير يترجم جريمة ، ((سلفستر بونار)) و((أميل)). كما ترجم للأميرتين قصيدتي ((البحيرة)) سنة 1938م و((الخريف)) سنة 1939م ، ولكنهُ توقف ، ولا سيما عندما رأى أن وزارة المعارف غير جادة في تبني المشروع.