عبد الرزاق الحسني يكشف أسرار حياته

Sunday 11th of January 2015 06:19:51 PM ,

ذاكرة عراقية ,

كانت الساعة الخامسة والربع مساء وكنت خائفا، الخوف الذي يسبق المفاجأة!! لقد تأخرنا عن الخامسة ولابد انه ينتظرني.. ولكن اي عذر سأنطق به.؟ وفكرت: ان عبد الرزاق الحسني المؤرخ المعروف، وموظف رئاسة الوزراء سابقا ، رجل غريب.. اذن فسوف اتحدث الى رجل مختلف، و.. تذكرت اسماء الفنانين والادباء والمؤرخين الذين قابلتهم.. لم يكن احدهم يفعل كما يفعل الحسني كل يوم..

يقال انه لايدخن، ولم يدخن طوال حياته، لم يشاهد فيلما سينمائيا او مسرحية!.. لم يجالس احدا في مقهى، لم.. ومثلما تحدث لي بعض الزملاء عنه

كان هذا الرجل والصحفي والاديب ومدير خزينة بغداد سابقاً)، يعيش بحيوية رغم سبعيناته: يستيقظ في الصباح ليقطع الطريق بين داره الواقعة في منطقة بعيدة من الكرادة الشرقية وساحة التحرير راجلا.. بل انه يحب (التمشي) والحركة والبحث والكتابة و.. ربما يحب ايضا داره التي لم يفارقها منذ اربعين عاماً.
اذن كيف سيستقبلني؟.. فتح الباب، وسمعت اول كلمة قالها بصوت معاتب وحاد (قليلاً):
- ما هذا؟ لماذا تاخرتم؟ هل يصح ان تكون مواعيد الصحفيين..
- معذرة.. السيارة تاخرت عن.. صافحنا.. ورحب بنا.. ثم قطع معنا الممر المؤدي الى غرفته وهو يعاتب تأخرتم كثيراً.. كنت انتظر بدون جدوى! لابد ان تعرف منذ الان ان الحسني ينام في الساعة الثامنة والربع مساءا..
كررت للمرة العاشرة، معذرة "معذرة.. لم اكن اقصد التاخير". وبدأت مراسيم الضيافة.. ترحيب حار، كلمات مجلجلة، مازلنا انا والزميل المصور نقف في غرفته المليئة بالكتب المنتشرة على طاولاتها، في شبابيكها في ارضها، على احد المقاعد..
وجلسنا بينما كان الحسني مستمراً في اطلاق كلمات الترحيب بصوت يملأ المكان.. (كان دقيقا ايضا في تحديد محلات جلوسنا و...)، قبل ان اسأله تابع الحديث عن حياته ولكنه كان كمن يتحدث بيأس:
- لقد تقاعدت منذ ثمانية اعوام.. اقضي الان معظم وقتي في دراسة ما يتوفر في المركز الوطني لحفظ الوثائق من مستندات وفي الكتابة.
قلت: حسنا ليبدأ الحسني هذا الذي اعتاد ان يبدأ في كتبه جميعا من ابعد ماض ممكن، ليبدأ في الحاضر وهو يحدثنا عن حياته، قال انه ينام في الثامنة والربع مساءاً ويستيقظ في الثالثة والنصف من صباح اليوم التالي، بعدها يتوزع وقته بالشكل التالي: يصلي، يقرأ ويكتب حتى السادسة والنصف.. يستمع الى الاخبار الصباحية ويغادر البيت. في الثامنة والنصف يكون قد رافق بداية الدوام الرسمي الى صفحات الوثائق وعوالمها التي يقول انها غريبة (اذ تبدل صفات الساسة والقادة الكبار وتعدل مما اعتاد ان يعرفهم به الناس).. وبعد الغداء يعود الحسني الى كتبه واوراقه.
هناك جدول عمل آخر: الخميس والجمعة يجلس الى (مكاتبه) المستشرقين والعلماء وكافة مراسليه، ويزوره في اماسي الأيام الأخرى رجال ومؤرخون ووزراء سابقون (يعملون معه الان في شؤون التاريخ).. (انه يفيد منهم او يعدل ما انحف من روايات، وما باعد الصواب منها).

عاصر 13 رئيسا للوزراء!
واذا كانت هذه هي صورة الحاضر، فان الحسني ايضا يتذكر ماضيه ويسال عنه حتى انه اضطر الى تأليف كتاب عن حياته واهم كتبه ووزعها على من طلب معرفة سيرته من الباحثين والقراء والمستشرقين: قلت له:
- ارجو ان تحدثنا عن حياتك منذ بدايتها، حتى بدأت الكتابة ف التاريخ؟
كما يتحدث بينما يقلب كتبه، ويبحث عن وثائق قديمة كشواهد على هذه الحياة: ولادة بغدادية في محلة الشورجة عام 1903 من عائلة تتعاطى الأدب، تعلم في الكتاتيب ثم في المدرسة الجعفرية يوم لم يكن في العراق اكثر من 82 مدرسة.. وشهد الثورة العراقية الكبرى عام 1920.
ثم يتابع:
- وتخرجت من دار المعلمين وامتهنت الصحافة محرراً في جريدة المفيد ومندوبا متجولا لها، وطفت العراق من شماله الى جنوبه وقد لمس في ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي انذاك هذا النشاط فالحقني بلجنة الحدود التي اوفدتها عصبة الامم للبث في الخلاف العراقي التركي حول ولاية الموصل.
- وهل تركت الصحافة؟
- لا.. اصدرت بعد غلق جريدة المفيد جريدة ادبية علمية باسم الفضيلة دام صدورها سنتين.. وهي مدة قلما عاشتها جريدة ادبية في ذلك الوقت، ثم انتقلت الى الحلة واصدرت جريدة الفيحاء واسست مطبعة خاصة بها عطلتها وزارة جعفر العسكري الثانية، ولكن عطف الهاشمي علي اعاد لي المطبعة والحقني معاونا لمحاسب وزارة المالية وقد تدرجت في وظائف الدولة فشغلت منصب مدير خزينة في بغداد وعدد من الالوية، وكذلك في مديرية البريد حتى جاءت ثورة 1941 وفيها تم اعتقالي وامضيت في المعتقل 4 سنوات وضعت خلالها كتابي: "تاريخ العراق السياسي".
واخيرا يستقر الحسني الموظف الحكومي في ديوان مجلس الوزراء عام 1949 ليبقى في مديرا ومنظما لسجلات خاصة بتاريخ الدولة حتى عام 1964 حين احال نفسه على التقاعد بعد ان شهد تعاقب 13 رئيسا للوزراء.. وقد افادت هذه الفترة الحسني في الاطلاع على وثائق وسجلات الدولة واجتماعات نوابها واعيانها وقراراتها واوامرها سجلها في كتبه وخاصة في كتاب: "تاريخ الوزارات العراقية" ذي العشرة اجزاء.
كتابي الأهم:
سالته:
• هل حقا سنحتفل بعد ايام بمرور خمسين عاما على صدور اول كتاب لك.؟
- نعم هذا صحيح.. لقد كان كتاب الاول هو (المعلومات المدنية لطلاب المدارس العراقية) وقد صدر عام 1923 تتابعت بعده كتبي حتى بلغت (30) كتابا منها تاريخ الوزارات بعشرة اجزاء وتاريخ العراق السياسسي (3 اجزاء).
• كانت لد بداية مع الادب ايضا: كتبت رواية عن ثورة العشرين كما اعلم، اين هي الان.؟
- الرواية اسمها "تحت ظل المشانق" ولم تصل الى المكتبات لانها صودرت كما صودر كتابي (اسرار انقلاب بكر صدقي) من قبل الحكومات السابقة.
• ولماذا لا تعيد طبعهما الان.؟
- انهما مصادران فكيف اطبعهما؟!
قلت للاستاذ الحسيني، ان امر المصادرة قد الغي بعد زوال تلك الحكومات، ولكنه كان يرى العكس، انه امر حكومي فلابد من الالتزام به!! كما ان روايته عن ثورة العشرين قد اعاد كتابتها بشكل تاريخي منظم في كتاب الثورة العراقية الكبرى.
• يرى الكثير من القراء ان كتابك تاريخ الوزارات العراقية هو اهم مؤلفاتك، ما هو رأيك.؟
- قال الحسني بحماس وهو يشير علي ان اسجل ما يقوله بسرعة:
- لا يمكن ان يكون هذا الكتاب اهم مؤلفاتي، لانه لايتضمن تحقيقا علميا ولا دروسا عميقة في الاسباب والمسببات، انما هو مجموعة من الوثائق والمعلومات المتسلسلة اما اهم كتبي السياسية فهو كتاب "تاريخ العراق السياسي الحديث" الذي نال جائزة المجمع العلمي العراقي ومساعدة جامعة السوريون الفرنسية.

حول دور المؤرخ
• اسلوبك في كتابة التاريخ لايتعدى التسجيل الوثائقي، وبمعنى آخر انك لا تلتزم المنهج العلمي في الدراسة التاريخية..؟ ماذا تقول.؟ وكيف تحدد منهجك.؟
- هناك اسلوبان اتبعتهما في كتبي، الاول يكتفي بالتسجيل والسرد المتسلسل، والثاني يعتمد الدراسة والتحليل، وقد خضعت للاسلوب الاول في تاريخ الوزارات العراقية، لانني كنت موظفا في الدولة اعيش وعائلتي على راتب الحكومة، ولم يكن بامكاني ان اناقش احداثها وبياناتها وما جرى في ايامها من مناقشة عملية موضوعية لان رزقي متوقف عليها.. اما اسلوب الدراسة التحليلية العميقة فتجده في كتب اخرى مثل "تاريخ العراق السياسي الحديث" و"الثورة العراقية الكبرى".. ولو سالتني لماذا استطعت ان اخضع للاسلوب الثاني في هذه الكتب لقلت لك انها (الحوادث) التي مرت على العراق وطبيعتها، لقد اختفى ابطالها، وتوفرت اسرارها، وما عاد هناك حرج في قول اي رأي فيها.
• ولكنك مؤرخ وعليك مسؤوليات الصدق العلمي والشهادة الصادقة.
ضحك الحسني وهو يقول:
- لايمكن للمؤرخ ان يتعدى في ما يكتب عن حياة المعاصرين له دور الناقل للتسلسل الوثائقي ويصل الى العمل ما دام اصحاب العلاقة على قيد الحياة.
لاصراحة مع التاريخ!!
• لماذا توقف في كتابك "تاريخ الوزارات العراقية" عند نهاية العهد الملكي، الا تستحق الوزارات الحديثة ان يؤرخ لها؟
- سأجيبك كما اجبت مسؤولاً سابقا عندما سألني سؤالاً مشابها. انها الوثائق والمادة التي يحتاج اليها المؤرخ والتي لم تتوفر بعد عن الوزارات الحديثة، كما ان حوادث العراق السياسية منذ عام 1958 هي الاخرى قليلة الوثائق.
• وهل ستصبح اكثر صراحة لو كتبت عن العراق منذ عام 1958؟
- ربما.. اولا لانني رجل متقاعد منذ عام 1964.. هناك ضمانات تقاعدية، والسبب الثاني يتعلق بعمري الذي ادرك السبعين، لعلني في طريقي الى الموت، دعاني الحسني بود ابوي الى ان استمع اليه وهو يهمس "لا صراحة مع التاريخ اذا كنت معاصرا لابطاله".
ولعل هذا السبب هو الذي يدعوه الى اعادة النظر في مؤلفاته واضافة بعض الفصول الجديدة اليها وتصحيح بعض رواياتها وتبديل عناوينها ايضا كلما شعر ان الحكم الجديد يتيح مثل هذه الفرصة اسأله عن هذا فيقول:
- الوثائق الجديدة تنقض او تضيف الى الوثائق القديمة معلومات هامة يمكن ان تغير من موقف، او تبدل عن رأي، انني اجد كل يوم في المركز الوطني لحفظ الوثائق اسرارا خطيرة يمكن ان يفاجأ بها الناس لو نشرت!.
• هل يمكن ان تذكر لنا بعضها؟
- سأنشرها في كتبي (لاتستعجل).
اذن هل اقتنعت معي ان الصراحة والدقة الكاملة لايمكن ان تتوفر للمؤرخ مرة واحدة لابد له ان يتابع كل ما ينشر عن الاحداث التي يكتب عنها، وتكون له من المرونة والاستعداد للتخلي عن بعض رواياته لو صادف ووجد تصحيحاً مقدما.
الوثائق التاريخية، هل هي صحيحة؟
• ولكن ليس كل الوثائق صحيحة، فلو اخذنا مثلا ثورة العشرين، هناك من الانكليز من كتب عنها مدافعا عن موقفه وموقف بريطانيا، وهناك من رأي مواقف الثوار اكثر اقناعا؟ اي الوثائق ترجح؟
- الوثائق الرسمية هي المؤكدة، هذا ليس خاصا بثورة العشرين عندما تذكر الحكومة ان 25 قتيلا سقطوا في مظاهرة ويذكر المتظاهرون ان العدد 200 يكون الرقم الاول هو الصحيح.
• ولكن الحكومة قد تحاول تغطية جريمتها فتذكر هذا العدد القليل؟
- اذا ارادت ذلك فستقلل الرقم فتجعله (20).. ان وثيقتها اقرب الى الحقيقة. لايمكن للحكومة ان تكذب!!
• نعود الى ثورة العشرين...
- لقد ذكر احد الذين كتبوا عن شهداء الرارنجية ان عدد القتلى الانكليز يتعدى الالف، ثم جاء احد ضباط معركة الرارنجية الانكليز فذكر ان عدد الجنود والضباط الذين اشتركوا في المعركة من الانكليز اقل من 500 عسكري اسر الثوار بعضهم وقتلوا البعض الاخر، بينما نجا قسم ثالث، اي الوثائق تريدني ان ارجح؟
* لقد اهملت كثير من الحوادث التاريخية في العراق، وخاصة السياسية منها واحتلت اخرى كل الاهتمام، وباختصار افتقد تدوين التاريخ في بلادنا، الامانة، ماذا تقول.؟
- بالنسبة لي لم امتنع عن متابعة اية وثيقة ولم اهمل تسجيل اي حدث توفرت لي فرصة تسجيله، ولكنني كما قلت لك أؤمن بان كل ما اهمل من الحوادث يمكن ان يعاد له الاعتبار في وقت لاحق، وذلك متوقف على تطور البحث.
انا ضد الشعر الحر والهيبية
• وانتقلنا الى حديث آخر، سألته:
• من هم اهم المؤرخين العراقيين الذين استطاعوا اغناء هذا المجال بمساهماتهم.
تردد ولعله كان يستأذن نفسه، ثم قال:
- لا يحق للمرء ان يمتدح نفسه.. وانا كمؤرخ لا يجوز لي التفضيل، ولكل زهرة عطرها.. وملاحظتي عن الباحثين في مجال التاريخ الان ان الشباب الجامعي هو المعول عليه.

لقاء أجرته
مجلة الف باء 1973