من دعاة اصالة الفلسفة الاسلامية: مدني صالح الفيلسوف الزاهد

Wednesday 4th of February 2015 07:35:19 PM ,

عراقيون ,


د. عارف عبد فهد
أحد أعمدة الفكر الفلسفي في العراق المعاصر وقمة من قمم الثقافة العراقية والعربية المعاصرة على حد سواء،سيشدوا به أهل الفكر العربي والعراقي بوجه الخصوص زمنا"0 فيلسوف ومتصوف زاهد لما في أيدي السلطان قبل الذي في أيدي الناس،أكاديمي من الطراز الخاص قل نظيره،أديب يتميز بأسلوب رمزي غاية في التعقيد(سوريا لي)

لم يبالي في الأضواء فاتته صاغرة تطلب الصفح لاقتحامها عالمه الخاص دون استئذان وقطعها لعزلته (خلوته)التي بلا شك خلفها أسرار وإسرار لا يدرك كنيتها الاهو نفسه،التي تضع بكشفها أمجاد كبرياء الصمت التي تغني عن جميع أمجاد سحر البيان على حد قوله

0 فكل إنسان يحده قيد إن لم يكن قيود ألا هو فقد تحرر من كل قيد،له إبداعه واستقلال شخصيته،بداء حياته في المساجد مرورا" بالفلسفة لينتهي على تقديرنا متصوفا" زاهدا"في كل شيء الجاه و السلطان والصولجان والمجد فاق في زهده كثير من الزهاد كونه لم يركن إلى الدنيا وأهلها كما الفارابي رضى بالقليل وانقطع عما في أيدي السلطان والناس،كان متحصنا"في قلاع الاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير ،وكان ممن يرفضون الجوائز كلها ما استطاع إلى الرفض سبيلا"ألا إن تكون الجائزة تاجا"مجدا"عرشا"هدية من العشاق المعاميد الفقراء الصعاليك0
غير خطابي ،غير منبري ،غير احتفالي ،وانه اقل ميلا"للتباهي والمباهات من الفقيه الواعظ ومن السياسي الخطيب زاهدا"بالذي يريده السياسي الخطيب والفقيه الواعظ،وانه اقل عصبيه من السياسي الفيلسوف والفيلسوف السياسي،انه عظيم من العظماء كما برنادشو وبرتراندرسل وسارتر حديثا" ومع ابن عربي والجنيد والبسطامي والحلاج وأفلاطون والفارابي قديما" وجميعهم أصحاب أحوال لااصحاب أقوال وأصحاب مواقف ومبادئ وافعال0
لقب بمؤدب الفلسفة ومفلسف الأدب ،مسالم محب جميل ودود على الجميع ،صاحب أدب فني رمزي سوريا لي،من هو اذاعلمت انه ولد في هيت وعاش في بغداد ودفن مابينهما في مقبرة الكرخ (العظماء بعد أن وارى الثرى فيها)في أبي غريب مابين بغداد وهيت،فعاش معتدلا"وسطا"ودفن في منطقة وسطى لايسار ولايمين ،بالرغم من انه كان ثوريا"متمردا"على العلم والبرتوكولات والنزوات وسحر الصولجان والشهره،سعى إلى ثورة في الفكر والسلوك وجسدهما"فكرا"وعملا"0
اتسم سجله الأدبي والفلسفي والاجتماعي بالرمزية حيث توشحت بها حياته في كافة مناحيها ،في البيت والجامعة وفيما سطره يراعه من مؤلفات ومقالات ومقامات وفي لقاءاته مع الإعلاميين ومع تلامذته وزملائه ومحبيه،فقد عاش حياته بإسرار لم يدرك كنتها اقرب الناس إليه ،عاش أسطورة ومات أسطورة ،بالرغم من انه كان كتابا"مفتوحا"ولكن يقرأ وفق الصفحات التي يرغب بفتحها هو لا الأخر،حيث تميز بآداب فريدة وسلوك خاص قل نظيره بين نظرائه
فقد كان الوحيد بينهم يمتلك حق السيادة الكاملة في زمن القوة والمال والبارود التي حصل عليها بالعلم والفلسفة وبالزهد بما في أيدي السلطان والناس،فكان اكبر ديكتاتورا"لااكبر منه في العلم والأدب والفلسفة ،عاش بهم خالدا"كما عاشت أثينا ومات غيره كما ماتت اسبرطة لأنها نهجت سبيل اللاحياة سبيل البارود،وهكذا هو حال العلم وأهله وكذلك حال القوة وأهلها،ففرض سيادته ،حظوته ومحبته حيا"وميتا"بالعلم والأدب والفلسفة والسلوك والرمزية0وبالرغم من انه كان صناعيا" يستثمر ماعنده من فنون وأداب كان رجل عملي هادئ مستعينا" بالصبر والتقشف ( والرياضات الروحانيه ) من اجل التفوق على الذات ومن أجل الحقيقة لكل البشر ومن أجل السعادة لكل الناس . وفرق كبير بين من يلتزم جانب الحق بأسم الحقيقة لا بأسم سيادة الإمبراطوريات والديكتاتوريات العقلية منها والمتشحة بالدين .ويمكن إن نقول انه ضمير لوجدان
التاريخ المتمني السعيد ،انه مدني صالح لا احتفالي ولا خطابي ولا منبري ولا تصفيقي ولا يضع كلامه حيث يكفيه صمته ، ولا يطلب غنى من ذات غير نفسه حيث تغنيه ذاته .
ويرى مدني أن الغزالي قد أحدث أعظم زوبعة إعصار نقدي في تاريخ الفلسفة كله ، فلم يخلص منه لا أرسطو ولا أفلاطون ولا الفارابي ولا ابن سينا ولا أبو حنيفة. وانه صاحب أشهر كتاب فلسفي نقدي في تاريخ الفلسفة ( تهافت الفلاسفة ) في القرون الوسطى حتى مجيء ديكارت وبداية العصر الفلسفي الحديث وبعده ، ويعده كذلك مرحلة فلسفية نقدية خطيرة بين مرحلتين في تاريخ الفلسفةالإسلامية المرحلة التي سبقته والمرحلة التي جاءت بعده مثلما كان سقراط مرحلة فلسفية نقدية بين مرحلتين في تاريخ الفلسفة اليونانية ما قبله وما بعده ، ومثلما صار ديكارت مرحله فلسفية نقدية في تاريخ الفلسفة الأوربية مرحلة ما قبله وما بعده. ومن خلال الغزالي يؤكد على جانب من جوانب أصالة الفلسفة الإسلامية في المنهج لديه ، فيذهب في وصفه إلى القول انه : ((كان منهجيا" مؤسسا" للشك المنهجي في العصور الوسطى ولمناهج البحث ونظريه المعرفة تأسيسا" لم يكن لأحد غيره من أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة إلى رنيه ديكارت وفرنسيس بيكون في العصور الحديثة )). مؤكدا" في ذلك أن الغزالي قد سبق ديكارت في تأسيس المنهج الشكي (اليقين الرياضي ) الذي جاء ديكارت ليطلبه بعد ستة قرون في كتابه – مقال في المنهج . ليضاف إلى الكتاب الثاني في الطريقة والشك والمنهج للغزالي وهو كتاب المنقذ من الضلال بعد أفلاطون . مشيرا" إلى انه (( لم يكن في العصور القديمة كلها أرقى في نظرية المعرفة من أرسطو وأفلاطون ، ولم يكن في العصور الوسيطه كلها أرقى من نظرية المعرفة والشك المنهجي من الغزالي )) .
ويرى أيضا أن الأكويني من كبار فلاسفة العصور الوسطى ( المسيحية) قد ـ تأثر أيضا بالغزالي وأخذ عنه بالرغم من إنكاره ذلك وعدم الاعتراف بفضله . فيذهب إلى القول : أن توما الأكويني قد أعتاش عليه(يعني على الفيلسوف الغزالي) ، في تأليف كتابه الشهير- خلاصة اللاهوت – فأخذ عنه أدلة حدوث العالم ، والبراهين على وجود الله ضد القائلين بقدم العالم ، والمنكرين وجود الخالق بإنكارهم ضرورة وجود علة في علة خالقة لهذا الكون )).
وقد حظي ابن طفيل وقصتة حي بن يقظان باهتمام خاص من قبل أستاذنا مدني صالح وقد أفرد لها كتابين أحدهما بعنوان : ابن طفيل وقصة حي بن يقظان نظرية ومنهج وتطبيق ، والثاني : ابن طفيل قضايا ومواقف فضلا عن بعض المقالات ، يرى فيها أنها خلاصة قصة تداخل دوائر الثقافة وقصة تطور الفلسفة كلها ، وأنها واحدة من الروافد التي أوحت لدانيال دوفو بقصة روبنسن كروزو. ولقد كان للقصة أثرها الكبير في الأدب الأوربي في العصور الوسطى ويعد مدني صالح من الكتاب العرب الذين كشفوا عن هذا الأثر ودور القصة في رفد الأدب الأوربي ، ولمدني بحث بعنوان : ابن طفيل من اللاهوت المسيحي إلى الرواية الانجليزية ،لعله أوسع ماكتب عن ترجمات كتاب حي بن يقظان إلى اللغات الأجنبية حتى اليوم كما أشار إلى ذلك فاروق سعد في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن طفيل قصة حي بن يقظان .
و يعد مدني صالح أحد الكتاب العرب الذين أكدوا على فضل الفلسفة الإسلامية على الفكر الأوربي وأصالة الانجاز في كتابه ابن طفيل قضايا ومواقف وهو مستل من رسالته الجامعية للدكتوراه وأيضا" في كتابه ابن طفيل وقصة حي بن يقظان نظرية ومنهج وتطبيق ، فضلا" عن تأكيده على التداخل الحضاري الثقافي بين الحضارات كافة ولكل حضارة دورها في أثراء الفكر الإنساني ومن تلك الحضارات الحضارة الإسلامية ، فالتراث الإسلامي مرتبط بالتراث الإنساني مبينا" أثر الفلاسفة في الإسلام على فلاسفة الغرب وعلمائه في العصور الوسطى في مختلف الجوانب الثقافية والعلمية والأدبية والطبية والفلسفية ، وهذا ما أثبته مدني صالح بالبحث والاستقصاء .
فلقد اثبت بما لا يقبل الشك تأثير ابن طفيل في قصته حي بن يقظان على دانيال دوفو في قصته روبنسن كروزو وأنها أحد الروافد التي أوحت أليه بفكرة قصته ، وهذا الأثر الواضح من خلال البحث والاستقصاء العلمي يتجلى الأثر الذي تركته القصة العربية في القصة الانجليزية من خلال المقارنة بين الكتابين فقد كتبت الثانية على نمط الأولى كما أشار إلى ذلك العديد من المستشرقين والكتاب العرب ومنهم مدني صالح الذي أكد على الدور الإبداعي للفلاسفة في الإسلام ومنهم الغزالي وابن طفيل من خلال تأثير الغزالي على ديكارت في المنهج وأيضا أثره على توما الأكويني ، وكذلك من خلال تأثير ابن طفيل في قصته حي بن يقظان في الأدب الأوربي وخصوصا" قصة دانيال دوفو روبنسن كروزو .
وتعد قصة حي بن يقظان لابن طفيل من وجهة نظره عمل أدبي روائي فلسفي متميز وعلامة من علامات الأصالة الأدبية في الفكر الفلسفي في الإسلام ، فهل منها الكتاب الانجليز بلا حساب أثناء ازدهار بواكير الرواية الروبنصية التي انتفعت برائعة ابن طفيل ومهدت لأخرين جاؤوا بعدها انتفعوا بها وبعضهم سرقوا منها بل سرقوها جملة وتفصيلا" كما فعل المؤلف المجهول لقصة حياة وعجائب مغامرات دون انطونيو دوتريزانيو كما كشف عن ذلك مدني صالح.
وانها خلاصة جوهر الصراع بين النور الإلهي ( الوحي ) والنور الطبيعي الذي هو العقل البشري المنبثق من داخل الإنسان ، وتمثل القصة تطور الحياة العقلية في الإسلام ، واستعراض نقدي بارع للصراع بين التيارات الفكرية العامة فلسفة وتصوفا" وأشرقا" وعلم كلام . مؤكدا من خلالها أن الفلاسفة في الإسلام لم يكونوا مجرد ناقلين للفلسفة اليونانية وإنما كان لهم إبداعهم وابتكاراتهم وإضافاتهم الأصلية في الفكر الإنساني ، دون التنكر لتأثر الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية لكن لم يكونوا مجرد مقلدين وإنما كانوا يختلفون أحيانا" معها فضلا" عما أضافوه أليها . ونرى في ذلك محاكاة من مدني صالح لابن طفيل في الحرية التي مارسها من خلال اللجوء إلى أسلوب رمزي ظل درة غالية في تاريخ الأساليب ، وهو يرى أيضا" أن فلسفة ابن طفيل لم تكن أرسطية قط وأن منحاه اللاهوتي لم يكن إسلاميا" بالضرورة ألا بقدر تعلق أمر التصوف بدين دون دين ولعل في ذلك صورة مدني صالح .
ونرى انه بذلك يبين مدني صالح من خلال دراساته في الفلسفة الاسلامية المتمثلة بالفيلسوفين الغزالي وابن طفيل سوء الفهم الذي وقع ويقع فيه بعض الباحثين ممن يذهبون إلى الفلسفة الإسلامية أنما هي تكرار للفلسفة اليونانية ، وانه لا يمكن التنكر لأصالة الفلسفة الإسلامية وأثرها في الحضارات الأخرى و الفلسفات في مقدمتها الفلسفة اليونانية دون التنكر لما أضافته تلك الحضارات والفلسفات إلى الفكر الإسلامي أيضا" .