من ذكريات محمود صبحي الدفتري عن سلاطين وولاة الدولة العثمانية

Sunday 23rd of August 2015 06:49:57 PM ,

ذاكرة عراقية ,

مير بصري
كاتب راحل
ان الآستانة وجزرها الحالمة وقصورها الشاهقة وسلاطينها الذين دانت لهم الدنيا عهداً طويلاً وتقاليد البلاط والدواوين المشربة بالبهرج والفخفخة والفخامة قد سحرت الشاب الأديب وبهرته. ومن الذكريات التي طالما رددها محمود صبحي ورواها حضوره تشييع جنازة السلطان محمد رشاد الخامس الذي توفي في 3 تموز 1918 وتنصيب أخيه محمد وحيد الدين السادس في قصر يلدز المنيف :

لقد اصطف الوزراء ورجال الدولة والعلماء والمشايخ في البهو العظيم مرتدين ملابسهم الرسمية ومتقلدين أوسمتهم وسيوفهم ، وسار الموظفون والحشم والخدم في أجنحة القصر واروقته على رؤوس اصابعهم في صمت مهيب. وجاء السلطان الجديد مرفوع الرأس حاد الملامح ، يحف به الجلال والوقار.

وفجاة ارتفع صوت خفي من وراء الستار يشق السكون وصوت هادئ النبرة، طويل النفس ، بدأ خافتا ثم أخذ يتعالى و يتعاظم شيئاً فشيئاً وكانه آت من عالم بعيد ، بل كانه هابط من ملكوت السماء .وتملك الجمع الروعة والخشوع ، فاطمأنت أنفسهم واغرورقت عيونهم بالدموع ، وأصغوا الىالهاتف يقول ويردد ترديداً بلغة تركية قديمة قدم الأجيال : " أيها السلطان ، أنت عظيم ،لكن الله أعظم منك . أيها السلطان ، أنت عظيم،لكن الله أعظم منك … " .
من الطرافة أن نذكر ،في هذا الصدد ، ما روته قصص الف ليلة وليلة على لسان السندباد البحري في رحلته السادسة عن ملك جزيرة سرنديب أنه ، حين يخرج من قصره ، بجلس على عرش يوضع له على فيل . ويقف أمامه على نفس الفيل ضابط يحمل رمحاً من الذهب ، ووراءه آخر يحمل صولجاناً ذهبياً على راسه زمردة نفيسة . ويحف بالموكب الوزراء والأعيان ويمشي بين يديه وخلفه الآف الحرس على الأفيال لابسين أبهى الحلل.
وحين يسير هذا الموكب بين جموع الناس يصيح الضابظ الواقف أمام الملك بين الحين والآخر:
" هذا هو الملك العظيم الجبار سلطان الهند ، المفروش قصره بالياقوت والذي يملك ألوف التيجان من الجواهر . هذا هو الملك المتوج أعظم من سليمان واكبر من مهراج… " ،
فاذا فرغ الأول من هذا الكلام صاح الرجل الثاني الواقف وراء الملك :
" إن هذا الملك الجبار العظيم يخضع للموت، يخضع للموت ، يخضع للموت " ! .
ويجيب الأول قائلاً.
" سبحان الحي الذي لايموت ، سبحان القيوم " ! .
وضعت الحرب أوزارها واحتل الحلفاء عاصمة آل عثمان ورابطت جيوشهم على ضفاف البوسفور ، فعاد محمود صبحي مع أبيه الى بغداد سنة 1919 . ولم يلبثا ان رايا عاصمة العراق تعج بالفورة الوطنية ، فالناس متلهفة الى الحرية والاستقلال ، والنفوس هائجة مائجة كما لم تهج ولم تمج منذ عهد هولاكو وشراذم المغول ، والكهول والشباب المثقف كلهم مأخوذون بالحماسة اللاهبة لا يقر لهم قرار . ودخل فؤاد الدفتري وابنه محمود وقريبه رفعت الجادرجي في المعمعان ، فقبضت عليهم السلطات العسكرية في 28 آب 1920 وزجتهم في السجن ثم أشخصتهم الى الآستانة عن طريق الهند . ولبثوا هناك سنة وبعض السنة ، حتى سمح لهم بالعودة بعد اعتلاء الملك فيصل عرش العراق ، فآبوا الى بغداد في 7كانون الأول 1921 .
جدد محمود صبحي صلته بأصدقائه من رجال الفضل والأدب في العاصمة التركية في اقامته الثانية بها . وعاد الى بغداد ، فعين مشاوراً حقوقياً لأمانة العاصمة ( 13 آذار 1923 ). وانتخب نائباً عن لواء الدليم في المجلس النيابي الاول ( تموز 1925 ) ، ثم ناب عن ديالى في المجلس الثاني (ايار1928) .
وعين اميناً للعاصمة في 8 نيسان 1930 واستمر في منصبه الى 5 ايلول 1931.ثم عهدت اليه رئاسة كلية الحقوق (تشرين الثاني 1931 ) ، غير انه اثر الاستقالة . وعاد الى الوظيفة مديراً عاماً للطابو ( 28 كانون الاول 1932 ) فاميناً للعاصمة للمرة الثانية ( 26 تشرين الاول 1933 ) فمدير البلديات العام ( تشرين الثاني 1936 ) ، وقد استقال في كانون الثاني 1937 .
وعين عضواً بمجلس الاعيان ( 17 تشرين الاول 1937 ) . واصبح وزيراً للعدلية في الوزارة السعيدية الثالثة ( 25 كانون الاول 1938 ) . واحتفظ بمنصبه في الوزارة السعيدية الرابعة ( 6 نيسان 1939 ) الى 18 شباط 1940 . ثم اشترك في الوزارة السعيدية الثامنة وزيراً للخارجية ( 25 كانون الاول 1943 – 3حزيران 1944 ) .
وكان له في مجلس الاعيان الذي استمر عضواً فيه الى 17 تشرين الاول 1945 مواقف وخطب ، ابرزها معارضته لتعديل القانون الاساسي في حزيران 1943 مستنداً الى ظروف الحرب وتقييد حرية الاجتماع والكلام .
وكان من ارائه الصائبة ان الحكومة قد ارادت بتعديل الدستور معالجة امور طارئة وغاب عن بالها ان الدساتير لا تشرع لمعالجة الثورات بل لتثبيت الاسس والقواعد الدستورية ، وانما تعالج الحوادث بالاصلاح الإداري والكياسة والحزم .
وقد اعتزل محمود صبحي الحياة العامة بعد ذلك وانصرف الى اشغاله الخاصة . وله مكتبة تضم اكثر اثار الادب التركي
والتاريخ والوثائق العائلية والرسمية والسالنامات ( التقاويم ) التركية وغيرها من الاسفار والمخطوطات النادرة . وهو ، الى ذلك ، اعلم رجال عصره بالاصول والمراسم ( الاتيكيت ) وتقاليد الدواوين وخطوطها ، واخبار الاسر والبيوتات الكريمة ونوادر الرجال النابهين من عراقيين واتراك ، ممن سمع بهم وقرأ عنهم او عرفهم وخالطهم على مر السنين . وهو سياسي لبق ومحدث ساحر يطيل في سرد ذكرياته ومشهوداته الرائعة ، مسترعياً اسماع الحاضرين . ولكم يتقمص دور الاستاذ او المحاضر ليجلو صفحة ادبية او حادثة تاريخية وليروي الفائق من الشعر او النثر وليترجم لجلسائه عن التركية او الفارسية طرفاً وتحفاً تبدو كمخلوقات عجيبة من عالم ذهبي . قد غاب في الامس البعيد .

ذكريات عن سلاطين آل عثمان
كان حديث محمود صبحي عن سلاطين آل عثمان اشبه بالمحاضرات التاريخية الممتعة ، فقد رسم صورة حية للسلطان مراد الرابع فاتح بغداد ، ذلك الفتى الجسور الى حد التهور ، القاسي القلب الذي لم يعرف معنى التردد والتراجع ، فرض نفسه بحوله وطوله على وزرائه والجيش والشعب ، واصبح حاكماً بأمره في العشرين من سنه وقضى نحبه في التاسعة والعشرين .
اما خلفه السلطان ابراهيم المجنون فحديثه عجيب غريب ، فقد كان منصرفاً الى العبث واللهو ، تاركاً مقاليد الاحكام الى والدته. وكان يصف المئات من جواريه الحسان عصر كل يوم في حديقة قصره المطل على بحر مرمرة ليرقصن بين يديه عاريات. فلما قيل له ان اصحاب القوارب المارة في البحر يتفرجون على هذا المشهد الخليع ، امر بمنع سيرالسفن والزوارق عند الاصيل ! . وكانت خاتمته ان تمرد عليه الجيش وفتك به فتكاً .
والدفتري يقدر السلطان عبد الحميد الثاني ويعجب بوقاره
وعظمته . ويذكر له موقفين يدلان على رباطة جاشه وقوة شكيمته: الموقف الاول حينما حاول الارمن اغتياله في اب 1905. وكان من عادة السلطان ان يذهب الى صلاة الجمعة في موكب عظيم ، فاذا خرج من الجامع وقف له الناس وصعد الى عربته التي يجرها جوادان مطهمان ، اخذاً العنان بيديه ليعود الى القصر . وكان وقت الخروج وسير الجوادين المدربين معيناً بدقة واحكام لا يتاخر دقيقة واحدة ، فوضع ارباب المؤامرة قنبلة زمنية في طريق العودة من الجامع موقتة لتنفجر عند مرور المركبة السلطانية . لكن حدث لحسن حظ عبد الحميد انه في ذلك اليوم المقرر تاخر دقائق قليلة عند خروجه اذ شاهد الشيخ ابا الهدى الرفاعي واقفاً ، وكان قد ابل من مرض طارئ ، فوقف هنيهة يساله عن صحته . وهكذا انفجرت القنبلة قبل مرور العربة بلحظات قليلة فسمع لها دوي هائل وبلغ من عنفها ان قتلت جمعاً من الناس والجند . ومرّ السلطان بين الاشلاء الممزقة والاعضاء المتناثرة لا تطرف له عين وبلغ قصره هادئاً ثابت الجنان .

اما الموقـف الثاني فكان في قصر " يلدز " في قاعة العرش
يوم العيد ، وقد جلس السلطان على اريكته الرفيعة ووقف الامراء والوزراء ورجال الدولة والمشايخ عن يمينه ويساره بالبستهم المزركشة . وفي جانب القاعة شرفة مرتفعة ضمت الجوق الموسيقي العسكري يصدح بالانغام الحماسية . وحدث فجاة ما لم يكن في الحسبان .
قال الدفتري : حدثني عبد المحسن السعدون ، وكان مرافقاً للسلطان يقف وراءه مع سائر افراد الحاشية ، فاذا بهزة ارضية تزلزل اركان القصر . فساد الهرج والمرج وعمت الفوضى وهرب ارباب الدولة يتسابقون في الخروج من الابواب والنوافذ ويتعثرون بقلائد اوسمتهم وحمائل سيوفهم . اما السلطان عبد الحميد فلبث على عرشه لا يحرك ساكناً . وتقدم منه شيخ من اجلة الوزراء فقبل ذيل معطفه الفضفاض ، وخاطبه قائلاً : ليتفضل مولانا السلطان بالخروج لئلا يعرض نفسه للخطر . لكن السلطان ركله برجله . وكان الزلزال قد هدأ ، فرفع يده وأومأ الى الجوق الموسيقي بمواصلة العزف . وعاد الامراء والكبراء الى اماكنهم مخفوضي الراس ، يجرون اذيال الخيبة والخجل ، ليتابعوا مراسيم التهنئة والخضوع .
ان رباطة جأش السلطان عبد الحميد في مواقفه الحرجة لا يضاهيها سوى موقف نابوليون الأول امبراطور الفرنسيين حين دخل منتصراً الى موسكو عاصمة روسيا القيصرية .
كان ذلك في 14 ايلول 1812 . دخل نابوليون الى
موسكو ، ولكن أين القيصر ، أين الجيوش ، أين سكان
المدينة ؟. وجد الشوارع والدور خالية تنعي من بناها وكأنها بلدة مسحورة تسكنها الأشباح. ومضى الى قصر الكرملين ، تحف به حاشيته وقواده ، وسار في الدهاليز الفخمة والحجر الباذخة والقاعات الأنيقة ، أثاثها من الذهب والأرجوان ، ومجالسها من الحرير والدمقس ، وزينتها تبهر العيون بنفاستها ورونقها . وهذه قاعة العرش، لكنها خالية خاوية كغيرها من الغرف والممرات والقاعات.
ونظر العاهل الذي أذهله العجب وعقد لسانه ، نظر من النافذة فلم ير إلا السكون الذي أناخ على المدينة بكلكله الكثيف الثقيل . وفجاة ، وقد حل الليل ولف البلدة المهجورة بظلامة الدامس ، ارتفعت في أقصى الجهات الأربع ألسنة النار ؟ . ماذا ، أيحرق الروس عاصمتهم العظيمة ، أم تلك أحلام كاذبة تنسجها أيدي الخيال ؟.
لكن تلك لم يكن الا الحقيقة التي لا ريب فيها . وقد جاء الضباط والجنود يتراكضون ويقولون ان النار قد شبت في البيوت والطرق واحاطت بالمباني والميادين ، وهي تقترب من قصر الكرملين بسرعة فائقة . وارتبك بعض افراد الحاشية ، لكن الامبراطور – كما قال مرافقه الكونت دي سيغور – لم يفقد رشده. ثم قيل ان القصر ملغم وعما قليل ينفجر ، فهلع بعض الحاضرين ، ووقف الضباط جامدين ينتظرون قرار قائدهم . وافتر ثغر الأمبراطور عن ابتسامة غريبة وهو غير مصدق للنبأ . وجاءت الريح بالدخان ، وتطايرت ذرات الرماد في الهواء ، وحاول الأمراء الأقربون جر سيدهم واخراجه من هذا الجحيم الذي يطبق عليه لكنه لم يحرك ساكناً . وصاح صائح ان النار قد شبت في اركان القصر ولم يزد الأمبراطور على ابداء اشارة الغضب وعدم المبالاة. ثم سار بخطى ثابتة ، ونزل السلالم ، وخرج الى الشارع ، وامر ان يمضوا به الى خارج المدينة الملتهبة .وكانت النار قد أحاطت بالبلدة وسدت المنافذ ، وبعد لاي وجد طريقاً بين الضخور يفضي الى النهر مر منه العاهل يتبعه اصحابه وجنوده ، وهو محتفظ بهدوئه وجلادته !.

نوادر ولاة بغداد
ان معرفة الدفتري بولاة بغداد واخبارهم لا يدانيه فيه مدان ، وقد عرف فريقاً من متأخريهم معرفة شخصية.ومن الولاة الذين سمع بهم وعلم احوالهم تقي الدين باشا آل المدرس الحلبي الذي ولي امور بغداد مرتين ، وقد نشأ – على ما اخبرنا استاذنا الدفتري – نشأة دينية واصبح مفتي حلب . كان لبقاً فطناً جريئاً الى حد لا يتفق وحرمة الافتاء ، فعزله الوالي . وقرر الشيخ تقي الدين ان يشخص الى الاستانة ليشكو والي حلب الى الصدر الاعظم، لكنه راى الذهاب اولاً الى المدينة المنورة ليتبرك بزيارة قبر الرسول الاعظم ثم يعرج من ثم على دار الخلافة .
ولما وصل اليها بعد مضي وقت طويل ، سال عن الصدر الاعظم فقيل له انه نفس الوالي الذي تركه في حلب وقد استدعي خلال ذلك الى العاصمة وقلد منصب الوزارة . ولم يفت ذلك
في عضد الشيخ فطلب مواجهة الصدر الاعظم وقال له : يا
سيدي ، لقد عزلتني بغير حق . وقد جئت الى الاستانة لأشكو امري الى الصدر الاعظم بعد ان زرت قبر النبي ، فالان اشكو اليك والي حلب سائلاً اياك النصفة والعدل .
فابتسم رئيس الوزارة وقال : ايها الشيخ، انك اصلح للادارة منك للقضاء ، فهل ترضى ان تخلع العمامة والقفطان فتكون متصرفاً؟. قال : نعم . وعين تقي الدين بك متصرفاً واظهر في منصبه الجديد مقدرة وكفاءة ، ولم يمض طويل وقت حتى عين والياً في بغداد ، وعمره نحو 35 سنة .
وبلغ من ذكاء تقي الدين باشا انه كان يزور الاستانة ذات مرة فدعي الى مقابلة السلطان عبد الحميد . فلما مثل بين يديه وانحنى ليلثم اذياله سقط الوسام المعلق على صدره ، فما كان من الوالي الا ان قال : " ان الوسام يقبل اقدام مولانا صاحب الجلالة ويساله الترفيع " . فامر السلطان بمنحه وساماً اعلى درجة .
ومن الولاة الذين اعجب بهم الدفتري مصطفى عاصم باشا الذي كان له شأن في ولاية بغداد والشام . ابدى حزماً وصولة وقرر مرة ان يهين النقيب السيد سلمان لخبر بلغه عنه ، غير عابئ بمكانة النقيب لدى السلطان عبد الحميد . بيد ان بعض اشراف بغداد قد تمكنوا من تدارك الامر واعلام النقيب بتجنب حضور اجتماع مجلس الولاية حتى انجلى الامر .
ويروي الدفتري ان عبد الوهاب باشا الالباني الذي تسنم منصب ولاية بغداد بعد ذلك ، وكان منسوباً الى مصطفى عاصم باشا ، كان يلعب الشطرنج مع اسماعيل الدفتري جد محمود صبحي ، فتوقف عن اللعب وساله : هل عرفت الوالي مصطفى عاصم ؟ . قال اجل ، وقد كنت رئيس البلدية في عهده . فقام الوالي عبدالوهاب وعانقه وقبله قائلاً : لقد كان رجلاً عظيماً حقاً . كنت متصرفاً في بعض الالوية التابعة لولاية الشام وعزلتني الدولة لامر بدر مني ، لكنه ابرق الى استانبول متحملاً التبعة هو نفسه وطالباً ابقائي في منصبي ، فبقيت …
وعرف محمود صبحي رئيس اللجنة الاصلاحية ووكيل الوالي ناظم باشا – وهو غير فريق حسين ناظم باشا الشهير الذي صار والي بغداد بعد ذلك . فقد عين كاتباً بدائرة الولاية في زمانه وعهدت اليه مباشرة الامور السرية. وكان ناظم باشا هذا من رجالات الدولة القديرين ، اصبح بعد ذلك وزيراً للعدل في استانبول.
وخلف في ولاية بغداد نجم الدين الملا ، وكان معمماً في نحو الاربعين من عمره ( 1908 ).
ولم يطل امد ولايته اكثر من اربعة اشهر ، اذ استدعـي الى
العاصمة التركية وقلد وزارة العدل . واستمر الدفتري يعمل كاتباً سرياً له في الولاية .
قال الاستاذ الدفتري : استدعاني نجم الدين بك ذات يوم الى غرفته ودفع الي برقية رمزيه واردة من استانبول واخرج مفتاح الرمز من الصندوق الحديد وكلفني ان احل رموزها على مكتب في زاوية الغرفة . ولم اكد اجلس واشرع بالعمل حتى دخل سكرتير وقال للوالي : ان قنصل روسية القيصرية العام يريد مواجهته ، فاذن له بالدخول . وقمت انئذ اخرج بصمت ، لكن نجم الدين بك اشار الي بالجلوس ومواصلة العمل .
دخل القنصل ، وكان معروفاً بالشدة والشراسة، فكلم الوالي بشأن من الشؤون واذا به يضرب على المنضدة بجمع كفه ويصرخ قائلاً : انني ممثل صاحب الجلالة القيصر ولا ارضى الاباجابة مطلبي !.. لكن تلك الوسيلة لم تخف الوالي ، فضرب وهو ايضاً بشدة على المنضدة ورفع صوته يقول : وانا ممثل السلطان الاعظم في هذا البلد ولا اسمح لاحد ان يتكلم على هذا المنوال بحضوري . وكان هذا الجواب كافياً لردع القنصل الذي قال بصوت هادئ الان نستطيع ان نتفاهم …
وكانت صلة الدفتري بسليمان نظيف الوالي الاديب وثيقة ، بدأت في بغداد وتطورت في الاستانة حتى اصبحت صداقة
ومودة . جاء هذا الوالي الى بغداد في اثناء الحرب العامة ، ولما استقبل الموظفين والمدرسين للتعرف عليهم ، استرعى نظره مدرس الادب التركي الشاب فاستبقاه لديه واخذ يباحثه في الشؤون الادبية . وكان الوالي يجلس للناس في صباح الجمعة فيحضر لديه اشراف بغداد وعلماؤها وادباؤها ، وفي مقدمتهم جميل صدقي الزهاوي، وقناصل الدول وغيرهم. وفي احد ايام الجمعة، والمجلس غاص بالزائرين ، دخل السكرتير واسر في اذن الوالي ان الرجل قد احضر . فقام سليمان نظيف بك الى الغرفة المجاورة وامر بضرب الرجل ضرباً مبرحاً ولما عاد الى مجلسه اتجهت اليه الانظار متسألة فقال : ان السلطة العسكرية قد امرت بالاخبار عن الحبوب والبقول التي لدى الاهلين لتموين الجيش ، وهذا الرجل على ما علمت دأبه ترصد الفقراء والارامل وذوي الحاجة ورفع الأخبار عما قد يكون في حوزتهم من قمح وأرز قليل لمعيشتهم ، فلم ار بداً من تاديبه على الوجه الذي رأيتم…


عن كتاب ( اعلام التركمان )