الهامش يتقدّم .. قوسين متباعدين للشاعر الخفاجي

Wednesday 21st of October 2015 05:44:12 PM ,

عراقيون ,

عدنان عباس سلطان
صدر للشاعر الكبير محمد علي الخفاجي مجموعته الشعرية المختارة ..والقارئ للنصوص الشعرية في هذه المختارات او على الاقل هذا ما احسسته على الاقل بان الهامش وان كان يتقدم لكنه يتوارى فجميع القصائد الموجودة في الاصدار قد اختيرت بعناية فائقة ترضي احساس الشاعر في هاجس ما كان ينتابه بقوة

حيث كان يختبئ في ملاذه الآمن واقصد مرابع الصبا والطفولة ما استطاع عن حقيقة غامضة تتولاه بقسوة ربما، فكل تلك الارتجاعات باقية في دائرة الطفولة وملاعب الصبا واستذكار وحدات جغرافية من البساتين والسواقي والحارات التي عاش فيها الشاعر، كذلك الحكايات الراسخة في المخيلة فجرت بصورة رائعة ومؤثرة في شعره العذب، ولعل اول تلك الذكريات تتجلى في حضن طفولته التي عاشها في كنف والده وامه ساقية الحنان والمحبة فعلى ذكراها يندلق الحزن والاسى بل انه ينتحب في كل كلمة من كلماته الملتاعة:
بيضة انا من بيضها.. وضعتني على حجر ناتئ فانكسرت..وخرجت من الظل .. اسعى الى درج اخضر..فاستدارت الي بجراتها..وارتني على الصدر..كوزين من لبن.. وعلى كل كوز لها وردة..فانتبهت..وسرت في الغصون الرياح..سرى في الشفاه الحليب..سرت رفة في الجناح..صار لي حضنها جنة .. وفضاء له سعة الكون..كلما انشدتني..تطير الفراشات من فمها ..كلما سمعتني اتمتم..اصغت الى قلبها..
هي تغمرني بنهار من القطن ..هي تدفعني لاخضراري .. وانا كنت ادفعها كل يوم الى كبر السن.
فحين دعاها المنادي لترحل..قامت على عجل..لذا نسيت عندنا ظلها.
ثم يقول ايضا: يالبؤسي.. يالبؤسي..سرقت صباها واسرفت..خذوني لها اقطف من وجهها عنبا..واجمع ما نسيته عليه السلال..
كذلك مايشكله الاستذكار لصاعود النخل والبساتين من تشبث عنيد بالطفولة وهو يصف والده عندما يرتقي النخل:
غالبا ما اراه في بساتينه..يرتقي نخلة ..ويغلغل في السعف منجله .. السلاح الوحيد الذي لايلام..لحظة القطع او لحظة الاقتحام.
غالبا مايرى نخلة يتوعدها بالقصاص..لاغرابة فهو زعيم قبيلتها..اذ تجيء له صاغرة..تفرش حضنها ..وتقدم فتنها ليسامحها فيسامحها..
ثم في قصيدة اخرى عند النهر نهر العلقمي الذي هو كل الانهار التي كان يقف عندها، وطواها الزمن وماتت وانطمرت تحت الارض:
مهره ابيض وشذاه بليل..من ترى يتذكر ذاك الفرات الجميل..ملك وسرادقه عشب اخضر والمخدات طين.. وله الكاس مترعة حد ما يشتهيها.. في الصباح.. الورود على شاطئيه..وفي الليل يمثل بين يديه النخيل.. ماله اليوم يسال عن جرار السبيل.
ثم ينتقل الشاعر بصورة معاكسة تماما عن شروق الميلاد ليدخل الغيمة التي تشكل هاجسه وربما خوفه الذي لا يدانيه خوف آخر وكانه ينعي ذاته عبر نعيه لآخرين واول هؤلاء كان اباه حيث يكتب: لكنه وبعد عقد من السنوات او بعد جيل من النخيل..صرنا نراه ..جالسا قرب اوجاعه ..ورماد سجائره حوله..يتذكر ايامه ورحيل شذاه .. حين مرت عليه السنون..فتثلم منجله وتثنت يداه..
وينعي الشاعر الخفاجي صديقه الراحل القاص جليل القيسي ثم يعرج على الحرب التي تمثل في ذهنه الفناء ثم الشاعر الكردي محمد البدري والشاعر كزار حنتوش باعتبارهم من مجايليه.هذا التعاكس الكبير في مختارات محمد علي الخفاجي قد الغى الفترة الممتدة بينهما الى درجة انه كان كمن يقفز هذا البون الهائل ذهنيا فيعتم على مرحلة زمنية واسعة هي الملغاة بين الميلاد وخريف النهاية فهل كان الخفاجي ينعي نفسه في هذا النحيب الخافت ويلوذ في طفولته السعيدة خلاصا من ثقل الاحساس الذي يتولاه او الذي تولاه حين كان يختار لمجموعة اشعاره الرائعة التي ضمها اصداره (الهامش يتقدم) وما هو هذا الهامش الا يمكن ان نقول عنه انه يشبه القول (ان في العمر بقية)والبقية هذه مازالت تمارس النماء والعطاء؟..
ففي رثائه لكزار حنتوش يقول: كل ما يشبه الصبر يشبهنا ..ملمس الفجر صار مخيفا..ولم يبق منه ..سوى مزقة في العيون..الهوادج مثقلة بالارامل..والبكاء.
وهكذا يتلمس القارئ حزن الشاعر واللوعة التي يكابدها في رقيق كلماته الشعرية المنسابة من اعماق نفسه ودخائله العميقة ويصورها تصويرا رائعا اخاذا في كل جملة وفي كل كلمة سطرها على البياض.
يالهذا اللقاء الاخير ..يالهذا الحنين المباغت..والانين الذي يتسرب في الصدر..من كاتم الصوت.. يالهذي البساتين/ هذه الفراديس..كانت لنا ملجأ اخضر.. كلما اقفز الدرب من مخمل.. . عرقا باردا..طالما اسعد الاجر ذاك الاجير.. تهب على صبا من حليب الرياحين.. لكنني الآن منطفئ..رؤى تضطرب..واوسمة ميتة ..فوق صدر خرب..اجنب روحي مزيدا من الحرث ..فقد صار بيني وبين البساتين..مابين حقل ومنجله..مابين حزن واشواكه.. ولذا..اقف الآن معتذرا..اقف الآن معتذرا..اقف الآن
الهامش يتقدم للشاعر الكبير محمد علي الخفاجي جزء يسير من ابداعه الشعري الذي لن اتصدى له في هذا التقديم لانني لا احب المغامرة بمبلغ كبير اكون متاكدا من الخسارة الواضحة فيه