بمناسبة صدور مذكراتها في العراق وسوريا عن دار (المدى)..قصة أغاثا كريستي في العراق

Sunday 25th of October 2015 05:57:01 PM ,

ذاكرة عراقية ,

جبرا ابراهيم جبرا
في أواخر أيلول عام 1948 بعد تفاقم النكبة الأولى في فلسطين انتدبت رسميا للتدريس في المعاهد العليا (أي الكليات الجامعية) في العراق فغادرت أهلي في بيت لحم وجئت إلى بغداد وفي حقائبي قليل من الثياب وكثير من الكتب والأوراق وعدد من اللوحات الزيتية التي جعلت أرسمها على قطع صغيرة نسبيا من الخشب المعاكس لسهولة نقلها من مكان إلى آخر.


وبعد أن عينت مدرسا للأدب الانكليزي في الكلية التوجيهية.التي كانت قد أسست للتو. ووصفت بأنها نواة. جامعة بغداد المزمع آنذاك أنشاؤها أعطيت غرفة للسكني في الكلية التي اتخذت مقرا لها في مبنى ضخم حديث في الأعظمية قرب ساحة عنتر صار فيما بعد ومازال مقرا لكلية العلوم وكنت أحد أساتذة فلسطينيين ثلاثة أعطينا غرفا في مبنى الكلية. لقاء قيامنا ببعض واجبات الأشراف على القسم الداخلي الذي كان يحوي قرابة مئة طالب جاؤوا من أنحاء العراق كلها بعد أن تم اختيارهم لأنهم الأوائل في مدارسهم لكي نهيئهم بالدراسة والتثقيف لإرسالهم في بعثات إلى الجامعات الأوربية والأميركية.
وكان زميلاي الآخران الشاعر محمود الحوت. واللغوي فهد الريماوي. وكان يدرس معنا أيضا المؤرخ الفلسطيني زهدي جار الله. إضافة إلى أربعة أساتذة انكليز كان أبرزهم شخصية دزموند ستيورات , وقد جاءنا مباشرة بعد تخرجه من جامعة أوكسفورد في الآداب الكلاسيكية – وهو في الرابعة والعشرين من عمره , ومثلنا يكتب النثر والشعر. ويطلب شهرة الأديب. وبسبب الصداقة الحميمة التي قامت بيننا في تلك السنة , والسنوات التالية , أهتم بالقضية الفلسطينية , ومن ثم القضايا العربية , وكتب كثيرا , وحظي بشهرة واسعة في انكلترا وأميركا كروائي. وكخبير في القضايا العربية التي ناصرها بحرارة وذكاء في كل ما كتب طوال سنين حياته اللاحقة ، في يوم من تلك الأيام الأولى لاستقراري في الكلية كنت في "مكتبة مكنزي" أستطلع أخر ما وصل إلى بغداد من كتب انكليزية , وأتحدث إلى صاحبها كريم , وهو عراقي شديد اللطف ورث تلك المكتبة عن أصحابها الانكليز لأنه كان يعمل معهم في أدارتها منذ أيا تأسيسها قبل الحرب العالمية الثانية , وغدت له خبرة بما يستجد في عالم الكتب الأجنبية مضيفا إلى ذلك تعامله مع بعض الكتب العربية , التراثية منها والعراقية الحديثة. وقد أضحت مكتبته هذه في شارع الرشيد (الشارع الأهم في بغداد يومئذ) ملتقى للمثقفين من عراقيين وأجانب وكلهم على صلة شخصية بصاحبها الذي يتابع اهتماماتهم الفكرية. ويحاول بعناية تلبية ما يطلبون بكتب وقد بقيت تسمية المكتبة بـ (مكنزي) لشهرة التسمية وتميزها حتى بات هو نفسه تجاوزا. يعرف بكريم مكنزي. وبقيت المكتبة معلما من معالم المدينة.
رفعت عيني عن الكتاب الذي بين يدي وإذا بي أرى إلى جانبي رجلا يمد يده إلى كتاب آخر. وينظر في الوقت نفسه ألي متسائلا فهتفت " روبرت " وأجاب " جبرا ".
-. ماذا تفعل هنا؟.
-. أنت ماذا تفعل هنا؟.
-. أنا ادرس هنا في كلية.
-. وأنا اعمل في الآثار.
وأستمر السؤال والجواب بيننا فقد كان ريتشارد هاملتون باحثا اركيولوجيا. وكان لبضع سنوات مديرا لمتحف روكفلر للآثار الفلسطينية في القدس حيث كنا نلتقي كثيرا ويجمع بيننا ولع الآثار الفلسطينية والتاريخ القديم وكذلك حب الموسيقا والفن. وبخاصة النحت أو ما كان متوفرا منه في متحف القدس القائم خراج الأسوار. قرب باب الساهرة وبجوار الكلية الرشيدية التي كنت أستاذا فيها لأكثر من أربع سنوات حتى مقدمي إلى بغداد ويبدو أنه في أوائل عام 1948 غادر القدس وانظم إلى بعثة الآثار البريطانية في بغداد وهي مؤسسة تعود إلى بدايات العشرينيات كان من أبرز شخصياتها السيد آرثر وولي الذي أكتشف في جنوبي العراق مدينة أور أو بالأحرى المقبرة الملكية فيها في حفريات تواصلت من أواسط العشرينيات حتى أواسط الثلاثينيات وكانت من أعجب ما أكتشف من آثار في العالم بما فيها بقايا الملكة العجيبة شبعاد ووصيفاتها العديدات بكامل حليهن الرائعة وألف كتابا مشهورا عن حفرياته تلك بعنوان أور الكلدانيين فلفت أنظار العالم إلى أهمية تلك المدينة العريقة في تاريخ الحضارة الإنسانية.
قال هاملتون: أتعرف ماكس مالون؟
قلت: لا
قال: يجب أن تتعرف عليه أنه شخصية فذة لعلك لا تعرف الكثير عن الآثار العراقية. ماكس مالون يعيد اكتشاف نمرود وأنا اعمل معه. سألته عن نمرود فأجاب: عاصمة الأشوريين في وقت ما. في الشمال كان أسمها القديم كالح مكان ليس كغيره من الأمكنة تعال وزرنا هناك. قلت: " ياليت! ولكنني جديد هنا وبغداد تشغلني بما يكفي "
قال: " أسمع سنتعش غدا في دار مالون لماذا لا تتعشى أنت أيضا معنا؟ سأخبر السيدة مالون اليوم. وسوف نتحدث كثيرا عن نمرود..."
ولما وافقت على دعوته , سألته: " أين الدار"؟. قال: أنها دار الملك علي. أتعرفها؟ في كرادة مريم. على شاطئ النهر مباشرة. أنها دار تركية تعود الى العهد العثماني , ومن أجمل بيوت بغداد القديمة. وأعطيته ورقة رسم لي عليها خارطة تعينني في الوصول إلى هذه الدار القائمة على الضفة الأخرى من نهر دجلة وقد كانت لمدة ما في العشرينيات مسكنا للملك علي أخي الملك فيصل الأول. فأطلق اسمه على الدار ملكا بدون مملكة.
في الساعة الثامنة من مساء اليوم التالي دخلت بوابة الدار إلى باحتها المتميزة بطرازها المتميز البغدادي العثماني. والباحة محفوفة بالأشجار والأوراد في وسط بناء من طابقين يصعد إلى الأعلى منهما بدرج خشبي خارجي يؤدي إلى شرفة ضيقة طويلة تمتد مع امتداد الواجهة الداخلية. وتطل عليها أبواب الغرف العليا , كان احدها مفتوحا ومضاء في انتظار القادمين.
صعدت الدرج الخشبي وعلى كل درجة أصيص مزروع في الحال خرج إلي واستقبلني رجل مربوع القامة في أواسط الأربعينيات من عمره نشيط الحركة بادي الذكاء وقال لي على الفور السيد جبرا؟ تمام؟ أنا ماكس مالون. وجرني من يدي إلى الداخل ليعرفني على سيدة الدار المسز مالون. التي صافحتني بدورها وقدمتني إلى رجلين آخرين في الغرفة قائلة: " المستر روبرت هاملتون , الذي تعرفه وقد أفرحني انه دعاك ألينا هذا المساء والمستر سيتون لويد مستشار دائرة الآثار العراقية ". وعندما صافحته مأخوذا بشيء من المفاجأة سألته. هل أنت زوج النحاتة هايدي لويد؟ فأجاب عجيب أتعرفها؟ قلت: التقيتها قبل أكثر من ثلاث سنوات في القدس ولم أنسها وقد قالت لي أنها في بغداد وان زوجها أريكولوجي. قال: والمسز مالون ترمقنا مبتسمة كأنها تنتظر فراغنا من أوليات التعارف , أنه حقا عالم صغير , حدثتني هايدي عنك. عند عودتها من القدس يومئذ وقالت أنك تكتب الشعر وترسم صحيح؟ أعذرني لأنني لم أعرف أنك المقصود عندما ذكر لي روبرت أسمك ولكن من كان يظن اننا سنلتقي هنا. في بغداد.
وسألته " أين السيدة لويد؟ " قال: حاليا في لندن كفت عن التدريس في معهد الفنون الجميلة منذ مدة. وسألتني المسز مالون وهي تأخذني إلى مقعدي ما الذي جاء بك إلى بغداد؟
فقلت بإيجاز: حب قديم ومأساتنا في فلسطين قالت " آه نعم. نعم. تعال حدثنا انت على الأقل شاهد عيان ". ويسألني ماكس مالون ماذا أشرب ثم جاءني بالكأس. وقد عادت زوجته إلى كرسيها الوثير وأرجعت النظارة المعلقة حول عنقها إلى طرف أنفها , والتقطت شلة الصوف والقطعة المحاكة التي ما كادت تجلس حتى راحت تعمل عليها بسناريتها. ومرة أخرى " نعم حدثنا ما الذي بالضبط جرى للقدس العزيزة ".
خيل ألي أنها في أواخر الخمسينيات من عمرها على شيء من السمنة ومتانة الجسم. عريضة الوجه وعلى ثقة من نفسها مع تواضع المضيفة الكريمة واسترسل الحديث بنا عن فلسطين وركزت على ما جرى فيها من قتل وتشريد واغتصاب للأرض من قبل الصهاينة بحيث أخذت السيدة الفاضلة تكرر. وهي تحوك الصوف هذا كله يجب أن يعرفه العالم وبالتفصيل.. يجب أن يكتب المؤلفون عن هذه الفضائع. عن هذه اللا إنسانية التي كنا نقول أن الحرب العالمية ستضع حدا لها أردنا من الحرب أن تنهي الحرب كلها – ولكن يبدو أننا رحنا من جديد نزرع البذور لحروب كثيرة قادمة ما هكذا تصفي الإمبراطورية البريطانية نفسها." ولم تكن السيدة الفاضلة تعرف أنني وزميلي دزموند ستيورات. بالاشتراك مع علي حيدر الركابي نذيع في الليالي من إذاعة بغداد أحاديث منتظمة باللغة الانكليزية عن هذه المآسي بالذات. ونستصرخ ضمير العالم ومن له ضمير حي فليسمع وليقل كلمة حق معنا.
وتحدثنا عن علاقة فلسطين بالعراق منذ أقدم العصور وحدثوني عن أعمال الحفريات المستمرة في نمرود وعلمت أن سيتون لويد كتب كتاب عنوانه أرض النهرين ترجم إلى العربية قبل سنوات كما كتب كتابا مشهورا آخر عن العراق عنوانه أسس في التراث اشتريت نسخة منه من مكتبة مكنزي. وتعلمت منه الكثير عن تعاقب الحضارات القديمة في وادي الرافدين وتبين أنه على وشك مغادرة العراق لاستلام وظيفة اثارية أخرى في أنقرة ووجدت ان علماء الآثار الثلاثة الذين كانت السيدة مالون تبقي على الحديث بيني وبينهم متواصلا وممتعا كلهم يكتبون الأبحاث الأركيولوجية التي تنتشر في انكلترا , وبعضها ينشر في مجلة " سومر " التي تصدرها دائرة الآثار القديمة ببغداد وشعرت أنني حتى تلك اللحظة. وقد دخلت التاسعة والعشرين من عمري. مازلت أصارع تلك الحمى الرهيبة. حمى الكتابة. منذ مراهقتي ولكنني لم أنجز ألا روايتين قصيرتين لم أنشرها وبضع قصص قصيرة بعضها لم يتكامل بعد. وكثيرا من الشعر أحتفظ بمعظمه لنفسي. وعددا من المقالات إضافة إلى ما كنت أذيعه منها بالراديو بدأت أنشرها في الأشهر الأخيرة ولكنها لا ترضي كثيرا وقلت لنفسي حين شرعنا بتناول العشاء أن الشخص الوحيد في تلك الغرفة الذي لا يعاني من حمى الكتابة ولا يعرف تاريخها وعذاباتها باستثناء الخادم الذي كان يأتينا بأطباق الطعام باحترام كبير هو المسز مالون حسبها أنها تثير هذا النقاش حول الاحداث المعاصرة والغابرة وطبائع البشر وتكتفي بأن تحوك بولوفر لزوجها(الأصغر منها سنا. حتما)تقيه البرد وهو يستعرض الطبيعة القاسية وهو يستخرج بعناد المحب شواهد التاريخ وأسراره المحجوبة في الأعماق من تلال الشمال – تلك التلال الجرداء التي انطوت أحشاءها على غوامض من منجزات الإنسان لم يبق لنا منها غاليا حتى ذكرها.
وكانوا جميعا بما فيهم المسز مالون على وشك السفر إلى الموصل. لاستئناف التنقيب في نمرود. متممين بذلك أعمال الحفريات التي كان هنري لايارد قد بدأها منذ عام 1845 ظن خطأ أن نمرود هي نينوى وأدهش العالم بما اكتشف يومذاك من روائع النحت وحقائق التاريخ.
التقيت ماكس مالون وزوجته بعد ذلك مرة أو مرتين في مناسبات عامة. ولفت نظري ان السيدة مالون شديدة اليقظة لما يجري حولها , ولمن ترى من أناس وفي شهر نيسان من ذلك العام 1949 أقيمت حفلة تمثيلية باللغة الانكليزية في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب حاليا) وفي مناسبات كتلك كنت ترى حولك معظم مثقفي بغداد من عراقيين وأجانب لأن المدينة لم تكن بعد قد اتسعت كثيرا عمرانا وسكانا وكان المرء يشعر أنه يكاد يعرف كل من يستحق أن يعرف في المدينة وأنه بالمقابل معروف لديهم جميعا. وكان أساتذة الكليات والخريجون الجامعيون (القلائل بالنسبة لما تحقق بعد ذلك بعشرين سنة) تجمعهم بأعداد كبيرة المناسبات الثقافية كالمحاضرات العامة أو المعارض الفنية (على ندرتها) أو حفلات الموسيقا الكلاسيكية التي تقدمها الفرقة السمفونية العراقية الناشئة أو المسرحيات التي تقدمها بوجه خاص الفرق الزائرة وفي تلك الحفلة في فترة الاستراحة خرجت مع رفيق لي إلى قاعة المرطبات كغيري من المتفرجين وإذا نحن أمام مالون وزوجته نشرب القهوة لم تكن البيبسي أو الكوكاكولا قد دخلت العراق بعد.وعلقنا على ما رأينا من تمثيل تعليقا عابرا وتسألنا عن نقطة أو نقطتين ولما عدت إلى الكاونتر لأضع عني فنجان القهوة قابلني دزموند ستيوارت وسألني متفكها هل وجدتم حلا للجريمة؟ لم أفهم قصده وقلت أية جريمة؟ أجاب: جريمة من اختراع السيدة التي رأيتك تتحدث أليها.
فقلت: أسف لا أفهم قصدك.
قال: ألم تكن تتحدث إلى اغاثا كريستي؟
أدهشني سؤالك وحسبته مازال يتندر وقلت ببساطة: كنت أتحدث إلى ماكس مالون وزوجته وهتف ظننتك تعلم المسز مالون هذه هي كاتبة الروايات البوليسية أغاثا كريستي.
-. مستحيل!!.
-. أذهب أليها وتأكد..ولكن أفراد الجمهور بانتهاء فترة الاستراحة كانوا قد عادوا إلى مقاعدهم في المسرح وعدت إلى مقعدي وأنا لا أصدق ما سمعت أهذه حقا أغاثا كريستي التي قرأت لها الكثير من الروايات البوليسية منذ سني حداثتي أزورها وأناقشها ولا يخطر ببالي لحظتين أنها أمسكت يوما قلما بيدها لم استطع متابعة النصف الثاني من المسرحية في انتظار نهايتها وبدت كأنها لن تنتهي إلى ان أسدل الستار أخيرا وتحرك الناس مغادرين مقاعدهم بعد التصفيق بينما تركت رفيقي وأسرعت من بينهم باحثا على المسز مالون إلى أن لمحتها عند الباب الخارجي واقفة مع زوجها بانتظار سيارتهما ذهبت أليها وسألتها مباشرة , هل أنت حقا أغاثا كريستي؟ ضحكت السيدة الفاضلة وأجابت ببساطة , نعم. قلت: يؤسفني جدا أنني لم أكن اعلم بذلك. قالت: أحسن! أحسن! متى تزورنا في نمرود؟.
بعد ذلك عرفت أن مؤلفة الروايات البوليسية المشهورة كانت قد احتفظت بالاسم الذي اكتسبته منذ ما قبل العشرينيات عن زوجها الأول الكولونيل كريستي وبعد أن هجرها ثم مات كانت شهرتها أوسع من أن تجعلها تتنازل عن هذا الاسم كلما أصدرت رواية أخرى من رواياتها التي راحت تتوالى بانتظام وسرعة تترجم إلى لغات العالم , وتدر عليها أرباحا طائلة , ولما تزوجت العالم ألآثاري ماكس مالون بعد لقائهما في العراق وبالتحديد في أور أخذت ترافقه إلى أقطار الشرق العربي حيث كان يعمل وقيل أنها كانت تنفق من أموالها الخاصة على بعض مشاريعه الأركيولوجية وجعلت من بعض تجارها في هذه الأسفار خلفيات لعدد من " الجرائم " المثيرة في رواياتها التي كان يحل ألغازها بين الحين والآخر البطل الذي ابتدعته لأول مرة عام 1920 المفتش البلجيكي هركيول بوارو – كما في جريمة في قطار الشرق السريع (1934) و موت على النيل (1937) وغيرها.
وكان الموسم الذي تقضيه مع زوجها في العراق منذ سنوات يبدأ في أواخر الشتاء وينتهي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة في أواسط الربيع. ولم تكن تطيل البقاء عادة ببغداد , بل تفضل الوجود بين الحفريات وتلالها وأكوام ترابها. والعمال والباحثين واللقى الثرية التي يعثرون عليها بين أونة وأخرى. وهناك تكتب وقد عزلت نفسها بشكل غريب وغير متوقع عن المدينة المعاصرة وحياتها لتحيا في جو العلاقات والأماكن والشخصيات التي يختلقها خيالها بعيدا عما يحيط بها كل البعد , مكانا وزمانا وأناسا , بحيث بقي عالمها الروائي عالم سنوات العشرينات بل شكلا معينا منه رفضت أن تغير شيئا فيه , رغم التغييرات الكاسحة والسريعة التي عرفتها المجتمعات والعادات في لندن وعواصم العالم كلها طوال الثلاثينات والعقود التالية ذلك لأنه العالم الذي يخدم حاجتها الخيالية الملحة عليها استطاعت أن تجعل منها متعة مطلقة ولعبة ذهبية مثيرة. للملايين من الناس. وقد قرأت لها أيامئذ روايتين تقع أحداثهما في العراق. هما , جريمة في وادي الرافدين و جاءوا إلى بغداد فوجدت أن الأجواء والشخصيات في كليتهما لا تختلف كثيرا عنها في رواياتها الأخرى ذوات الخلفيات الانكليزية اللهم باستثناء بعض الوصف لأسواق البصرة في الواحدة وبعض الوصف لفندق " زيا " وصاحبه ببغداد في الثانية فهي لا تدعي أن همها في ما تكتب هم اجتماعي أو سياسي أو تسجيلي أنما هي الحبكة البوليسية البارعة تطالبها بتحريك شخوصها ضمن حدود لعبتها الذهنية الأساسية ولا يبقى للجو المحيط بالحدث شأن يتعدى ما يقدمه من دور الخلفية غير المحددة لهذه اللعبة. التي تكاد تكون رياضية صرفا في تركيبها ومنطقها على العكس بالضبط مما فعل دزموند ستيوارت في سنوات الخمسينات وما بعدها في رواياته التي تجعل أحداثها في العراق ثم لبنان وأخيرا مصر فضلا عما فعله في متابعة الخلفيات المكانية المتباينة جدا في ثلاثيته السلالية تعاقب الأدوار.
بعد سنتين وبالتحديد في 22 آذار 1951 أتيح لي أخيرا أن أرى نمرود / كالح عاصمة الأشوريين في أحدى فتراتهم العظيمة في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد وكانت قد تأسست قبل ذلك بحوالي أربعة قرون وقضى عليها الميديون نهائيا حرقا وتدميرا عام 612 ق.م حين سقطت نينوى عاصمة الأشوريين التالية على يد القائد البابلي نابوبولاصر والد الملك نبوخذ نصر وكان قد مضى على نمرود / كالح حوالي ستمئة سنة من العمران.
ومازلت أذكر تاريخ تلك الزيارة بالضبط. لأنها جرت في اليوم التالي لأول أيام الربيع وأقترن اليوم في ذاكرتي بتجربة عميقة الأثر في نفسي عند مشاهدتي أطلال حضارة من أروع حضارات التاريخ العربي القديم فنا وعمرانا. وكان رفيقي ودليلي في تلك المنطقة الجميلة من العراق الصديق المرحوم زيد أحمد عثمان الذي توثقت عرى المودة بينه وبيني عن طريق الشاعر بلند الحيدري منذ عام 1950 وأراد لي أن أرى الشمال. برفقته فهو يعرف كل زاوية فيه وكل بلدة وقرية معرفة المواطن الخبير والعاشق لوطنه. وكان احد النواب الشباب في المجلس الوطني وقد كان والده قبله شخصية مرموقة من شخصية الأكراد ورئيسا لبلدية أربيل وعضو في مجلس الأعيان وشعرت ان زيد احمد عثمان يقتضي خطى أبيه مع المزيد من حس للمعرفة والمعاصرة.
عند وصولنا إلى موقع الحفريات. استقبلنا روبرت هاملتون بحرارة وبدأ في حالة غريبة من الإثارة والفرح وبادرته بالقول بأنه على غير حاله المعتاد فقال وهو يقتادنا إلى بقعة من العمل طبعا لقد عثرنا هذا الصباح على لوحة (ستبلا) هائلة انها صور شلمانصر الثالث واقفا بامتداد قامته ها هي أنها تحفة , تحفة ثمينة جدا أتريان هذه الرموز هذه الكتابة. كان شلما نصر الثالث أبن أشور ناصر بال الثاني الفاتح الكبير الذي نقل العاصمة من مدينة أشور إلى نمرود في القرن التاسع ق. م وكان أول من دأب على تخليد أعماله في جداريات من النحت الناتئ في الرخام المحلي وقد حفرت ببراعة مذهلة بتفاصيلها الدقيقة لكي تبطن جدران القصر وأروقته بمساحتها الكبيرة المسترسلة إضافة إلى التماثيل الضخمة وأستمر أبنه على غراره بحيث امتلأت نمرود بأعمال فنية متفردة تصور حياة تلك الفترة ومنها العاجيات البديعة النقش التي اكتشفت الكثير منها ماكس مالون في بئر عميقة في ركن من أحدى باحات القصر يبدو أنها كانت قد ألقيت فيها. حفظا لها من أيدي الأعداء عندما هاجموا المدينة.
لم تكن اللوحة الرخامية التي اكتشفت ذلك الصباح كبيرة ولكنها في حالة ممتازة فضلا عن دقة وجمال نحتها والتراب مازال عالقا على حوافها ومما كدت أمد يدي طالبا لمسها حتى منعني هاملتون هاتفا. لا , لا أرجوك! يجب معالجتها علميا قبل أن يلمسها أحد.
سألته مازحا عن قيمتها فأجاب. لا تثمن بمبلغ.. مليون دينار على الأقل وستكون في الأرجح من حصة المتحف العراقي ببغداد. في هذه الأثناء جاءنا ماكس مالون مبتهجا ومنفعلا كزميله , وقال " أنتما أول مشاهدين علمائيين لهذه اللقية المدهشة و الآن تفضيلا معنا فالمسز مالون في الانتظار.
وتحت ظليلة معدنية السقف ممتدة وجدنا أغاثا كريستي ومعها سكرتيرتها و اثنان أو ثلاثة آخرون من الأركيولوجيين من ضمنهم الأستاذ وأيسمن الخبير بالمسماريات , وكان قد قرأ الكتابة المنقوشة في لوحة شلمانصر. وتبين أنه يقرأ النقوش المسمارية كمن يقرأ العربية أو الانكليزية وكانت الروائية الكبيرة قد هيأت الشاي الانكليزي مع شيء من الحليب البارد و المعجنات و الزبدة و المربى كأية سيدة في منزلها في لندن. وشاركناهم جميعا في الاحتفال باكتشاف مهم آخر يضيف تفصيلا جديدا إلى معرفتنا بتاريخ هذا الوادي العظيم.
ويومها رأيت لغرفة الصغيرة المبينة من اللبن المجفف بالشمس التي جعلت منها أغاثا كريستي كتبتها وملجأها بين الأطلال وتماثيل الثيران المجنحة والجداريات الرخامية المنحوتة التي كانت بعض بقايا القصر الملكي وعلى مرأى من رأس مرمري هائل الحجم ملقى على الأرض قال مالون أنه كان من أول ما اكتشف لايارد من تماثيل هناك عام 1945 حين راح العمال الحفارين يقفزون ويتصايحون حال أخراجه من التراب قائلين أنهم اكتشفوا رأس نمرود الجبار.
ولا بد من القول أنني يوم زرت نمرود للمرة الثالثة أو الرابعة في صيف عام 1986 أي بعد هذه الزيارة بخمس وثلاثين سنة وفي عز الشمس " آب اللهاب " مع أعضاء رابطة نقاد الفن في العراق ز أصبت مع زملائي بالنشوة القديمة نفسها لرؤية بقايا تلك المنحوتات المذهلة أبدا. وزرنا غرفة مغلفة فتح لنا بابها الخشبي البدائي احد حراس الموقع. وإذا هي غرفة أغاثا كريستي الصغيرة إياها وقد حفظت كما كانت في الأربعينيات والخمسينيات وقد جعلتها المؤلفة غرفة انكليزية رغم ضيقها الشديد بما فيها الموقد الانكليزي (فايريلبس) مع رفه التقليدي (مانتل بيس) وفي الموقد تحرق الاحطاب في الليالي البارد ة وهي تخترع ضوء مصباح نفطي تلك التداخلات والعلاقات الخفية والظاهرة في جرائم تجعل لحبكتها المعقدة سحرا يتخطى الزمان والمكان. وأغلب الظن أنها في ربيع تلك السنة بالذات (1951) كتبت في تلك الغرفة الطيفية الصغيرة مسرحيتها التي سمتها (المصيدة) والتي أفتتح موسمها بعد ذلك بسنة واحدة في لندن. فنجحت نجاحا عجيبا وبقيت فيما بعد تمثل كل ليلة طوال خمسة وثلاثين عاما. فحطمت كل رقم قياسي في العالم بهذا الشأن.
في أوائل الستينات وقد تخطت الكاتبة السبعين من عمرها وكانت زيارتها لبغداد قد جعلت تتناقص سألتها يوما كم رواية كتبت حتى الآن؟ فقالت: أحصيتها منذ مدة فوجدت أنها اثنتان وخمسون رواية. ولكنني قبل أيام قرأت مقالة عني أنني كتبت ستة وخمسين رواية أعتقد ان صاحب المقالة أقرب إلى الصواب مني , ثم أضافت مستضحكة. في الواقع , عندما تتخطى الرقم الخمسين لا يعود للرقم أهمية.
فقلت: سيدتي المهم هو أن يكون لدى المرء دائما ما هو جديد يريد أن يقوله ويستحق القول وعندما سألتني بمكر لطيف وأنت كم كتابا كتبت حتى الآن؟
هززت رأسي ضاحكا ولم أجب.

جبرا ابراهيم جبرا في مقال عن ذكرياته ببغداد نشر عام 1984 في جريدة الجمهورية