رواية بوصلة القيامة للروائي هيثم الشويلي.. شهادة تأريخية وبوابة الدخول الى العالمية

Saturday 31st of October 2015 07:37:42 PM ,

ملحق اوراق ,

2-2
خضر عواد الخزاعي
الجزء الأول يبتدئ من ساعة ميلاده، وحتى رحلته مع أمه سهيلة إلى الجبايش للقاء أهله والتعرف عليهم، فرحلته تلك التي ابتدأت بعد مخاض الولادة والتي أجاد فيها الروائي كثيراً. وكان حضوره فيها كسارد عليم حتى قبل ولادته وهو في أحشاء أمه، قد فرض الكثير من الانتباه والشد في ذهن المتلقي، من خلال مستويات متعددة ومترابطة من الصراعات، صراع بينه وبين نفسه،

وصراع الأم مع المخاض، وصراع الأب مع الوقت. "كانت أمي تصارع الألم وأنا أحاول أن أضجّ منتفضا عليها، لم أكن فضوليا لهذه الدرجة الكبيرة لأحاول استراق بصيص أملٍ من النور، بل الساعات القادمة كفيلة لأعانق النور رغما عن أنف القدر، أبي كان يطلب من أمي الصبرحتى غروب الشمس لئلا يقعا فريسة سهلة بيد الجلادين اللذين يبحثون عنهما.ص8"، فالثلاثة كانوا في حمى معركة صامتة يتسيّدها الزمن والانتظار والخوف. فالأب كان يعوّل كثيراّ على أن ينتهي مخاض زوجته عن ولادة سريعة ووليد معافى في وقت مبكر، ليتسنى له الرجوع الى بلدته الدجيل، كما تعود أن يتحرك خشية من ملاحقة رجال السلطة له، "كان ابي يتوسل بالزمن ان يتقدم بأسرع من الضوء، هو ينتظر قدوم الليل أكثر مني، فعند حلول الظلام يستطيع أن يتحرك بعيدا عن أعينهم فهم يبحثون عنه ويرصدون كل تحركاته.ص8". فيما كانت الأم في حمى مخاضها تعيش معاناة أخرى مع جنينها الذي يستعجل مفارقة احشائها،"كنا أنا وأمي نتشاجر ونتصارع، هي تحاول ابقائي متشبثة بي، وأحاول أنا تمزيق أحشائها لأخرج.ص8".
ومنذ الجزء الأول من الرواية، يستشعر القارئ بوجود عائق مهم يقف في سبيل سلاسة وصول الأحداث وتسارعها وانسجامها مع التقنيات السردية، وهذا العائق المهم والحيوي هو"اللغة"، فاللغة عامل رئيس من عوامل نجاح العمل الأدبي والروائي لأي كاتب، ويعتبر الناقد رولان بارت ان من أهم واجبات الأدب"الإطلاع على تعددية المجتمع من خلال إعادته لانتاج كلام هذا المجتمع، وقد أوكل الأدب لنفسه مهمة سابقة على كل رسالة، هيّ الاطلاع اطلاعاً مباشراً على وضعية الناس المعتكفين داخل لسانهم، وطبقتهم، وديانتهم، ومهنتهم، وميراثهم أو داخل تأريخهم"، من هنا حصلت الروايات المكتوبة بلغات محلية على ما تستحقه من مديات واسعة في الانتشار والعالمية، ولقد كانت اللغة سبباً مباشراً في أن تنال الكثير من الروايات شهرة عالمية، رغم انها كتبت بلغات محلية، سواءاً أفريقية أو يهودية أو آسيوية أو أوربية، وأبسط مثال على ذلك هو نتاجات الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ وما نالته رواياته من منزلة عالمية وعربية أوصلته إلى الفوز بجائزة نوبل للآداب في العام 1988 . رغم أن نجيب محفوظ قد كتبها باللهجة المصرية مثل رواية"أولاد حارتنا" و"زقاق المدق"و"الثلاثية" ولم يكن في كل ما كتبه مجبراً على توصيف أو شرح بعض المفردات الصعبة، التي لم تكن مفهومة لغير المصريين، كذلك تحصل الكاتب اليهودي الاسرائيلي شموئيل يوسف عجنون على جائزة نوبل للاداب في العام 1966 رغم انه كتب رواياته باللغة العبرية، وفي واحدة من فروعها الصعبة هي "الميشناه" . لكن في رواية هيثم الشويلي "بوصلة القيامة" نقرأ الكثير من الهوامش المرافقة للمفردات والجمل التي كتبت في العامية رغم قلتها، وكانت تثقل النص وتبعد القارئ عن فحواه ومتابعة أحداثه كما في"ياحمد يبني ..لمن سأدخر هذا الحليب الذي بصدري، لمن سأنشد "دللول يالولد يبني دللول"، "ردتك ذخر لايام شيبي" كانت تنشد مواويلها بصوتٍ جنوبي ذي شجون، اهازيجي والمواويل بعدك لمن سأدخرها، وتصرخ مكررة سأدخر كل هذا لمن.ص19" في مقابل ذلك حاول الكاتب الشويلي أن يزاوج بين لغة السرد التي جمعت بين الفصحى والعامية، وبين لغة الحوار الفصيحة أو تلك التي تعرضت للشرح، فلم يكن موفقاً في كليهما، كما في حوار سهيلة وجديً أحمد جليل"ياحاج..صدقني أنت تتحدث عن شخص لا أعرفه، ولم أسمع به، لعلك تبحث عن منزل آخر أيها الشيخ؟.ص38" فيجيبها الشيخ "يابنتي كيف لاتعرفين جليلاً ..النقيب جليل كيف لاتعرفينه؟"ثم في مقطع آخر قريب من المونولوج نقرأ مايسطره الروائي عن مشاعر الشيخين بلسانهما، كقول الأب:"يابويه ياجليل. فيما تردد الأم: يايمه ياجليل.ص40" وكان الأجدر به أن يجعل لروايته الكبيرة لغة واحدة، هي اللهجة العراقية العامية الصميمية لتقال على السنة الشخصيات كلاً حسب بيئته ومدينته، فلقد كانت الرواية تتحدث عن ملحمة وطنية وكان على الروائي ان يؤطرها بلغة واقعية كما كان يفعل جيل الستينيات، من الروائيين، امثال غائب طعمة فرمان، حين كتب رائعته "النخلة والجيران" باللهجة العراقية، ونالت ما نالت من شهرة وحظوة لدى القراء والمتابعين من النقاد.
في هذا الجزء أيضاً وفي سن الثانية عشر تتفتح أولى بواكير الوعي المصيري لدى السارد أو البطل أحمد جليل، ولقد جاءت هذه الانفتاحات من التحديّات التي يفرضها المحيط الخارجي للبطل، حينما يُجابه لأول مرة بمجهولية نسبه، وهذا مايدفعه إلى الاحتجاج والسؤال" من أنا؟ص57"ورغم كل التبريرات والأكاذيب التي تغلفها أمه سهيلة بالدموع، وتقدمها له بالتوسل، إلا ان السؤال يظل يتردد على لسانه وفي ضميره"من أنا؟"، وفي هذه الجزء يفقد أحمد جدته بدرية التي كان تشاطره حياته وتبعث فيها الكثير من الدفء والإطمئنان، وفيها أيضا حدثت حربي الخليج الأولى والثانية وإذا كانت الحرب الأولى " حرب الثماني سنوات"لم تؤثر عليه بشكل مباشر لصغر سنه، فإن الحرب الثانية قد جعلته على مفترق طريق"كنت أنا فيها أقترب من الخدمة العسكرية الالزامية.ص78". كان ذلك في العام 1991 ، ومع عبء اقترابه من أداء الخدمة العسكرية وبحثه الدؤوب عن نفسه، كان هناك سبباً آخر يضاف لتعاسته،وهو الحصار الاقتصادي،بما تركه من ضائقة مالية واقتصادية على العراقيين،"كيف سيتسنى لي الذهاب وأنا لا أملك حتى أجرة السيارة للوصول الى مركز التدريب العسكري؟.ص80" وبعد ثلاثة شهور من المعاناة في مركز التدريب يقرر الهروب إلى خارج العراق عن طريق بعض الأصدقاء، ويخبر أمه سهيلة بقراره هذا، الذي يفاجئها، مما يدفعها للعمل على معرفة كل شيء عن أهله ومحاولة البحث عنهم من جديد حتى تمنعه من الهروب إلى خارج العراق، وتفاجئه ذات يوم "أحمد سنذهب غداً.. وحين يسألها: الى أين سنذهب؟ تجيبه: إلى عائلتك.ص92". ويمكن اعتبار هذا المقطع هو نهاية الجزء الأول، ونهاية لمرحلة عمرية وفكرية ونفسية عاشها أحمد جليل في ظرف يختلف تماما عن الظروف التي سيعيشها في الأجزاء اللاحقة.
الجزء الثاني والذي يبتدئ عند الصفحة 92 ويمكن اعتباره انتقالة بين مرحلتين فلقد كان مقدراً لبطل الرواية أحمد جليل أن يلتقي أهله في هذه المرحلة، ويعرف ما خفي من تفاصيل حياته، لولا ما رسمه الروائي لحبكته من تكنيك مُظلل للقارئ ليقوده حسبما يشاء، فهو بعد يوم واحد من زيارته لأهله، يُلقى القبض عليه من قبل رجال الأمن لتنقطع صلته بأهله ويدخل مرحلة جديدة وخطيرة في حياته.
الجزء الثالث الذي يبتدئ عند الصفحة 106 ، من لحظة اعتقاله في مسقط رأسه الجبايش وهو برفقة أخوته وقريبه، وينتهي عند الإفراج عنه من سجن أبو غريب في بغداد بعد أن قضى ما يقارب الثلاث سنوات من السجن، ويعتبر من أهم أجزاء الرواية فهو يفتح الأبواب السرية المغلقة على الواجهة التي حاول النظام تزويقها بالزيف والمداهنة، لغرض تسويقها للعالم الخارجي، في هذه المرحلة والتي كانت مفتتحاً للقائه بأهله وكان يمكن لها أن تغيّر حياته بصورة ايجابية، وفيها أيضاً بداية محنته مع أجهزة النظام القمعية الأمنية، للاشتباه بكونه يعمل لجهات خارجية معادية للعراق، بعد أن كسرت ذراعه وتعرض لشتى أنواع التعذيب والإهانات، في مراكز التحقيق والاعتقالات الأمنية، من مديرية أمن الجبايش وحتى مديرية الأمن العامة في بغداد"الحاكمية"، ولقد سجل الروائي هيثم الشويلي شهادته عن تلك الأماكن السرية والأجهزة المرعبة بكل صدق وأمانة وواقعية، وكأنه عاشها بكل تفاصيلها. "الزنانين تحمل ارقاما لتمييزها لكثرة الموجودين فيها، وأقدامهم تقترب، قد يقصدون السجن رقم(1)أو رقم(2) وربما السجن رقم(3) الذي أنا فيه، أو أي غرفة أخرى، فحين نسمع صليل المفاتيح وتقف أقدامهم عن المسير، نعلم أنهم يبحثون عن سجين ليس بسجننا، كان المساجين يسكتون كلهم عندما يسمعون صوت أقدامهم تخترق الممر الذي يربط الزنازين ببعض ليعلموا أي الزنانين يقصدون، كانوا يترقبون هذه الأصوات بحذر وخوف، ورأيتهم يتجمدون كلهم أجمعون لايجيدون الحراك أبداً، ربما أنا لم يساورني الخوف أبداً كما ساورهم هم، لأنني ما كنت أدرك حجم التعذيب، صوت الأقدام مازال يقترب وعند باب الغرفة رقم(3) توقفوا، صليل المفاتيح، وفتح الأقفال، عند باب غرفتنا.ص122" وبعد أحد عشر شهراً من التعذيب والقهر يحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وكانت تلك الشهور من أصعب ما مرً عليه في حياته"أحد عشر شهراً كانت أشد من الموت في قبرٍ مظلم،كم يملك هؤلاء من الظلم والجبروت الأمر الذي يجعلهم يستخفون أشد الإستخفاف بالبشر.ص126" لينتقل لقضاء محكوميته إلى سجن "أبو غريب" الشهير، وهناك أيضاً يسجل الكثير من مشاهداته اليومية عن معاناة السجناء وما يتعرضون له من تعذيب وقسوة، وماتركه خلفهم المحكومون بالإعدام، على جدران الزنازين من رسائل إلى أمهاتهم وحبيباتهم، لينتهي هذا الجزء بوداعه للسجن بعد أن نجح في الاختبار الإيماني الذي قام به النظام في حملته الإيمانية المزيفة لمن يحفظ القرآن من السجناء مقابل اطلاق صراحهم.
الجزء الرابع: والذي يبتدئ عند الصفحة 140 ،وفي هذا القسم من الرواية يتصل البطل أحمد جليل من جديد بأسرته الحقيقية ويعرف من والدته سعاد كل خبايا وأسرار حياته ومصيره الذي ظل معلقا لسنوات، وفيها أيضاً تتغيّر وجهته بمغامرة جديدة حين يُقدم على استخدام جواز سفرمزور باسم "حميد حسن قاسم"، أحضره له صديقه مثنى، ويتسلل هارباً تحت جنح الظلام إلى الأردن، وما يرافق هذا الهروب من مخاطر كادت أن تودي بحياته بعد تعرضهم لاطلاق نار كثيف على الحدود العراقية الأردنية" عندها أدركت أن الموت ملاقيني حين اقتربت مني رصاصة اخترقت طرف قميصي الذي يجذبه الهواء لتشعل بأطرافه النار والذي أرداني إلى الأرض، وقتها قلت لمثنى:اتركني وانج بنفسك، فأنا قريب من الموت.ص151"، لكنه ينجو بأعجوبة ليواصل حياته هناك في منطقة الزرقاء وحيداً ليعمل حمالاً في المنطقة الحرة لنتنهي هذه المرحلة من حياته، مع عرض صاحب العمل عليه أن ينقله ليكون وكيله في تجارته في لبنان في منطقة بعلبك فيخطط للسفر الى العراق أولاً لملاقاة أهله، وأخذهم ليعيشوا معه في لبنان.
الجزء الخامس والأخير، والذي يبدأ عند الصفحة 158 ، والذي شهد آخر رحلاته ومغامراته الخطيرة، لكن هذه المرة يقع بأيدي المخابرات العراقية، بعد الامساك به وهو داخل شاحنة كبيرة لحمل النفط بين الأردن والعراق، وبنفس الجواز المزور الذي استخدمه عند دخوله للأردن، "عند الرابعة والنصف صباحاً من العام 2000 كان هذا التوقيت بالضبط هو الوقت الفعلي لبداية ألم أكبر ولبداية هم لاينتهي، ولبداية موت جديد لا حياة بعده.ص159"، ومن جديد تعاد نفس السلسة القديمة من أشواط التعذيب الجسدي، والتحقيق المستمر، ثم الترحيل إلى بغداد للبت في مصيره، حيث يحول هذه المرة إلى سجن"ابو غريب" في قسم "الخاصة" سيئة الصيت والتي يودع فيها عادة من ينتظرون تنفيذ حكم الاعدام، المتهمون بقضايا خطيرة تمس أمن الدولة ومن يدخله لايخرج إلا ميتاً، لكنه أيضاً ينجو هذه المرة مع تقدم القوات الأميركية باتجاه بغداد وفرار القيادات الأمنية واختفائها المفاجئ"كنت حتى اللحظة أشعر بالخوف، لأن ثمة احساساً غريباً كان يراودني بأننا سنجتمع كلنا سوياً في قبر واحد، انفتحت الأبواب كلها، السجون الثقيلة والخفيفة بما في ذلك السجن الخاص، وخرجت من باب السجن اتلفت يميناً ويساراً لم تراودني لحظة صدق، وسقطت على الأرض مغشياً عليّ.ص171" .
إن الإنجاز الأهم لرواية"بوصلة القيامة" للروائي هيثم الشويلي، على المستوى الشخصي ليس لأنها حققت نتيجة طيبة وفوز كبير في مسابقة الشارقة، بل كونها شهادة تأريخية على مرحلة مهمة من تأريخ العراق، أما على المستوى الوطني، فإن هذه الرواية من الروايات القليلة التي سَتُمهد الطريق لجيل جديد من الروائيين العراقيين للدخول إلى معترك الرواية العالمية من أوسع أبوابه، وهو باب المحلية، أو الرواية العراقية الواقعية، لكن بلغة عراقية من صميم هذا الواقع ولتسجل للعالم كل ما خفي من أسرار مرعبة أثقلت كاهل المواطن العراقي لعقود من السنين، فشكرا للروائي هيثم الشويلي إنه أتحفنا بهذا المنجز الذي لا نقول عنه غير أنه منجز روائي كبير.