دينامية النزعة الصوفية في ديوان (عيناكِ .. وشبه الجملة )

Saturday 9th of January 2016 06:35:23 PM ,

ملحق اوراق ,

أياد خضير
تعد التجربة الشعرية للشاعر خالد صبر في ديوانه الشعري ( عيناك وشبه الجملة ) تجربة ذات مستويات متعددة وهذا يرتبط بثراء تجربة الشاعر الحياتية والمعرفية وتجلياتهما في فضاءات نصوصه الشعرية ذات المضامين المختلفة والرسائل المتعددة والتي قدمها لنا في الشكل العمودي للقصيدة أو الحر ( التفعيلة ) لكن في كلتا الحالتين كان الشاعر متمكناً من أدواته التعبيرية وقادراً على خلق الشكل الشعري

الذي يبث من خلاله نوازعه وخلجات روحه العاشقة ورؤيته الفلسفية للأشياء وكينونات الوجود فنجد في نصوصه تناغماً بين توهج العواطف الجامحة لعاشق صوفي يتلاشى في محبوبته وبين الحكيم الذي يمسك بعقال مشاعره المتوثبة :

فتعالي
كي أدخل فيك وتخفيني
عن زمن في صورة تنين
يحمل حشد سكاكينِ
أني ألقتني الأمواج الثلجية عريان على الساحل
ابحث عن غابة يقطينِ
فتعالي غوري في أعماقي موقد دفء
وأنا بالحب عن الزمن السكيني سأخفيك
في سري سوف أناجيك ص50
ليقدم لنا من خلال نصوصه توازناً بين شطحات العاطفة الصوفية البعيدة عن التجسيد الحسي الشهواني إلى تعميق رمز االمحبوب وتجريده أحياناً إلى ما يشبه المثالية الأفلاطونية فهو شاعر متشبع بالمعرفة وأيضاً يتفشى في ثنايا روحه لهب الشعر :
ثملت كل جروحي
وغنائي قد مشت أوتاره بين غابات غرام خضل
بل تلاشيتُ
تلاشيتُ
تـ لا شـ ي ........
تحت ثوبي أنت لا لن تجدي
غير سكري وطقوس الخبل ص12
لكنّ ما يلفت وعي القارئ الفاعل والمنتج في مجمل نصوص هذا الديوان هو تلك النزعة الصوفية وديناميتها التي تبث تجلياتها في جغرافيا النص المتعددة الطقوس والمتمايزة الخرائط الشكلية فتتجلى ومضات القاموس الصوفي في ثنايا النصوص لتشكل مراكز بؤرية مشعة بفيوض دلالية عميقة المغازي وثرية الدلالات ، فالشاعر لم يكن مجرد عاشق ولهان يغرق في تفاصيل معشوقه جسدياً بقدر ما كان يهيم في وهج روح من يحب ويتلاشى في استغراقٍ صوفي في كينونة من يعشق ويهوى فهو يفتش عن منابع الجمال المطلق الذي يكون مأخوذاً في هالته المضيئة :
بعدما استخلصت منها كل ما تحويه من خمر وشهد
بهواك ابتدأ التاريخ عندي
راهباً صرت
تراتيلي يشفّ الليل فيها من مناجاة ووجد
معبدي العشق وفيه اذبح القلب له قربان أشواق وافدي ص 40
إنّ النزعة الصوفية هي ليست آلية مصطنعة أو مقحمة في نسيج النص الشعري بقدر ما هي حالة معرفة عميقة بجوهر الأشياء ورؤية سابرة لما وراء الهيئات ، وليست ترفاً شعرياً أو بذخاً تعبيرياً لأنها طاقة فلسفية لا تتهيأ لكل شاعر إلا لمن كانت مجساته الشعرية على قدر كبير من تشريح الحالة وقراءة معانيها العميقة باستغراق متسلح بمعرفة تؤهل الشاعر لالتقاط مكامن التوهج في ذات المحبوب والتصوف هو ليس بمعناه السطحي بقدر ما هو فلسفة تقرأ من خلالها ذات المحبوب وتستغرق في تلك الذات وتتلاشى ذات الشاعر :
عندما المعشوق في معبد وجدي تجلّى
ركضت تفاحة القلب إليه
وهي بالأشواق حبلى
غلقت من حولها الأبواب
لكن جنوناً رقصت رغبته نشوىً وجذلى
أشرع الشبّاك في الروح ومن ثم أطلا ص15
فعندما نستقصي إجرائياً تجليات المفردة اللغوية التي تنتمي إلى القاموس الصوفي نجد أن الشاعر يمتلك ثراءً في توظيف هذه المفردات والتي كانت مكامن تعبيرية متوهجة لها امتداد وجذور ممتدة إلى الموروث وتكون بذات الوقت تؤدي وظيفة دلالية بحسب نظام النص الذي تموضعت فيه فالشاعر لم يقدم لنا نصاً صوفياً بقدر ما استثمر ثراء هذا القاموس الثري لجعل حالاته وأطواره مع من يحب ذات مغزى عميق وليس سطحياً مجوفاً فمثلا هذه الألفاظ التي كانت تتجلى في قصائد المتصوفة والعاشقين كالحلاج وابن عربي وابن الفارض ( مأخوذ ، تلاشي ، تحت ثوبي ، المعشوق ، معبد وجدي ، تراتيلي ، صلى ، أوغل ، مناجاة ...) :
إن الكلمة في ثانية قد تنبئ عن فن وخيال
كالنظرة في عين ولهى قد تخلق سحراً وجمال
هل أنت النقطة أم حرف أم أنت الكلمة !
أم أنت النور اللابس ثوب العتمة !
أم أنت البرق المخبوء وراء الغيمة !
أم أنت الخمرة لا يدركها السّكّر في العنقود ؟!
أم أنت الدرب المغلق والباب الموصود ؟!
أم أنت الشاهد والمشهود ؟!
أم أنت اللغة المجهولة والمعنى النائي والمقصود ؟! ص21
وهذا ما يسترعي انتباه القارئ المنتج من حيث تركيب الجملة الشعرية ذات البعد الفلسفي والتي تكون ذات قيمة فنية عالية لما فيها من ثراء وبذات الوقت هذه الجمل التي تسطع في فضاء النص تشكل عنصر جذب للقصيدة في توازنها مع الجملة الشعرية ذات التجسيد المرئي أو الحسي فالجملة الشعرية التي تتموضع فيها الرؤية الفلسفية الصوفية كان لها مركز ثقل في النص ولم تكن متناشزة مع التراكيب الشعرية الأخرى ضمن النسيج الشعري بل من ثراء المفردة الصوفية وإشعاعها تتكون أيضاً جملة شعرية ساطعة بفيوض العشق الصوفي :
اذهبي إن شئتِ أو شئتِ تعالي
أنت في الحالتين عندي حاضرة
أنا ألغيت شؤون الذاكرة ص32
إنّ اتساق المفردة الصوفية ضمن الجملة الشعرية وطاقتها التوليدية الهائلة شكّل عنصراً دينامياً ذا طاقة دلالية متوهجة لما تمتلكه هذه المفردات من سيميائية مرجعية متعدّدة الاتجاهات وذات جذور عرفانية في الوعي الجمعي فهذه المفردات الصوفية خرجت من إطار المحيط المعجمي لتكون ضمن قاموس اصطلاحي فجر فيها كوامن دلالية مغايرة لمرجعيتها المعجمية المحددة وهذا ما جعل الشاعر يضعها في فلك قصائده لتشكّل عناصر جذب ممغنطة بدفق دلالي يكمن في فجوات النص ويوّلد طاقة إيحائية متناوبة في فضاء نصّه الشعري :
فلتكنْ فوق رمال العمر – يا معشوق – أغصاناً و وبلا
آه ما أشهى قميصاً يحتوي فيك من الحسنِ حريراً
فوق نبض الحسن صلى ؟!
هل من الجرم إذا ما قدّه من دبرٍ أو قُبَلٍ عاشق حسنٍ
يبتغي دفئاً وطلّا ؟! ص16
إنّ التجربة الشعرية لدى الشاعر خالد صبر في ديوان ( عيناكِ .. وشبه الجملة ) هي تجربة تجتمع فيها بؤر ثقافية متعددة وموروث ثر وغني من حيث مرجعياته التاريخية أو الدينية أو الثقافية المتنوّعة وهذا ما يؤكده خصب ذاكرة الشاعر وتبلور بعض تمفصلاتها في مخياله الشعري للتجلى في فضاء نصّه الشعري كنقاط جذبٍ حاثة ومتوهجة بمستويات دلالية متعددة تتناغم مع وعي القارئ في إنتاجية نص كامن موازٍ للنص المقروء كترميز قصة النبي يوسف في قصيدة ( ما تيسر من بوح العشق ) أو توظيف معادل لقصة النبي يونس عند خروجه من بطن الحوت في قصيدة ( تعالي نختبئ ) لكن من هذا الثراء المعرفي المخزون في ذاكرة الشاعر سلطنا الضوء على جانب دينامية النزعة الصوفية في فضاءات بعض النصوص مما جعلنا نستخلص معرفة بعض شفرات النص وترجمتها فالشاعر ليس شاعراً صوفياً بقدر ما هو شاعر متوهج العاطفة استطاع أن يوظف بعض المفردات الصوفية وبعض التراكيب ليجسّد تفاصيل هيامه في ذات من يحب ويهوى .
ديوان (عيناك وشبه الجملة) صادر عن دار كلمة / مصر - القاهرة من القطع المتوسط في خمس وسبعين صفحة.