المرأة التي خذلت النساء والطبقة العاملة في بريطانيا..جرترود بيل نصبت الملوك ورسمت الحدود

Sunday 21st of February 2016 06:52:37 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د.امل بورتر
في هذه الالفية الجديدة التي طلت علينا ـ أخذت الضبابية تعم الحوادث التاريخية التي غلفت حوادث الحرب العالمية الاولى، التي ادت الى تفكك وقطع اوصال الامبراطورية العثمانية.
كل ما حدث افقدت بريقه حوادث ما تلاه من ايام وطوته الذاكرة بين اوراق صحف عتيقة صفراء او بين الوثائق السرية المباحة الان في المكتبة البريطانية.


نظرا لما يدور من احاديث وحوادث وعودة العراق الى الاضواء الكاشفة وبدا العراق مهما بشكل واخر وربما لاسباب غير الصحيحة.
دفعني ذلك الى العودة الى الماضي لمعرفة بعض خبايا ما دار في اروقة فنادق فرنسا ومصر وقاعات مجلس العموم او الخارجية او وزارة الدفاع في بريطانية او ربما في الصحراء الواسعة التي تغطي معظم الاراضي التي تمتد من وسط وشمال الجزيرة العربية وتصل شمالا الى جنوب (ما بين النهرين)* او (وادي الرافدين)* (مسوبوتيميا)* حيث كانت هذه التسمية هي الشائعة عند الحديث عن العراق وهو الاسم الذي يطلقه عليه ساكنيه والدول المجاورة له من زمان سحيق مضى.

تعود بي الذكرى الى ايام طفولة غنية ومثيرة وتتكرر امامي اسماء ومنها اسم مس بيل ويشمئز والدي من هذا الاسم ويتجنب الحديث عنها ويتكلم عنها بالانجليزية وهو ما يفعله دائما عندما يفقد اعصابه.

تصر والدتي على الحديث عنها وتتجاهله تماما وكان يخيل الي من نبرة صوتها ان هناك نوع من الاعجاب المشوب بالحسد والغيرة.

لصغر سني لم اعرف من تكون (مس بيل) احيانا كنت اتصورها معلمة، لاننا كنا ننادي معلماتنا باسم (مس) واحيانا اخرى اعطيها وظيفة اكبر، لم لا تكون مديرة المدرسة التي درست فيها امي…؟

عندما كنا نخرج ونمشي من منزل جدي في المربعة / محلة الحاج فتحي لنصل شارع الرشيد-السنك كانت دائما والدتي تعلق قائلة هدموا بيتها كان عندها حديقة جميلة. يعود lمخيالي ليصورها امرأة طويلة ضخمة تلف رأسها عصابة سوداء مثل جدتي وتترك عباءتها تنزلق من أعلى راسها مغطية ظهرها وأكتافها فقط.

تمر السنين مسرعة واطوي اسم مس بيل في ركن قصي من ذاكرتي وادعها منزوية هناك، وتختارني الظروف لأعمل في المتحف العراقي في قسم النشر واعثر على صور فوتوغرافية ونسخ زجاجية سالبة، مهملة وموضوعة في صناديق كارتونية بهت لونها واخذت ذرات تشبه الرمل تتساقط منها وكتابة على واجهتها تقول صورمواقع اثرية- قصر الاخيضر- مس بيل.

احاول مجددا العودة الى خيالات مس بيل وانزعها عنوة من بين طيات النسيان ولا اجد سوى صور طفولية مشوشة، حينها والدي كان قد توفي واستعنت بوالدتي حدثتني عما تتذكره عنها والحديث كان سطحيا غير مهم لا يزيد عن شكل مس بيل الحقيقى، ليس الذي رسمته في خيالي امرأة ترتدي عصّابة وعباءة جدتي بل امراءة انجليزية ترتدي تنورة طويلة وبلوزة بكمام طويلة دائما وياقة محلاة بالدنتيلا او مطرزة بالبرودري قمصان قطنية او حريرية الوان انكليزية محايدة ومحافظة رمادية او الوان مكسورة وليست اصلية.
الح على والدتي بالاسئلة، ترد قائلة كنت صغيرة عندما رأيتها لم اكن اتجاوز العاشرة من العمر كنت اتمنى ان اكون مثلها عندما اكبر.... سافرة... و اركب الحصان…..واسبح في دجلة.. عرفت بان حدسي الطفولي كان صحيحا..... اعجاب مشوب بالغيرة واماني قوامها الحسد.... مع تطلعات طموحة يصعب تحقيقها في مجتمع بغداد في اوائل عشرينات القرن الماضي.

واعود الى مكتبة المتحف العراقي، التي كانت غنية بمصادرها، ابحث عن مس بيل واجد الكثير، اقرأ واترجم ما اقرأ، و ارفض ان انشر رغم الحاح الاستاذ صادق الحسني مدير قسم النشر لن انشر اي شئ في وسائل الاعلام التي يسيطر عليها البعث قرار اتخذته في اوائل السبعينات والتزمت به.

تشاء الصدف ان استقر في مدينة في شمال انكلترا حيث يسكن النصف الانجليزي من عائلتي والتي احمل اسمها واحضى منها بالكثير من الرعاية والاهتمام، وفي هذا الركن الانكليزي ولدت جرترود بيل.

تمر الايام وفي يوم مضى عليه سنوات طويلة بعد ان التحق بالجامعة لاتم دراستي العليا، تقع عيني على ملصق اعلاني للجامعة يعلن ندوات وورش عمل ومنها محاضرة عن مس بيل اطلق عليها امرأة شمالية شرقية تنصب ملوك وتقرر حدود للاستاذ جيم كروJim Crow.
احضر حينها المحاضرة لاعرف المزيد الذي اتعطش له، يدور نقاش وادلو بدلوي. نقاش علمي صرف، حينها كنت بعيدة عنه اذ معلوماتي لم تكتمل وتنضج، الا انني كنت ابنة البيئة التي يتحدث عنها المحاضر ولم يعشها، فبحت لهم بذلك قلت لهم لقد كانت جارة لبيت جدي حيث عاشت والدتي، تحلقت العيون حولي وتبحلقت بي، قلت بكل صدق وإخلاص لا أعرف عن المرأة الا ما كتب عنها من معلومات شحيحة، وما سمعت من همسات غيرة من والدتي وصيحات غضب من والدي.

لكن كلامي لم يقنع الحضور لم تهمهم المرأة بل جو بغداد الاسطوري وقصر الاخيضر وعملى في الاثار ومقتل العائلة المالكة التي نصبتها جرترود بيل. و.و...حينها كانت على الابواب... مسالة احتلال الكويت الوشيكة حسب كل الاستقراءات في الصحف البريطانية.

كل ما كنت قد ترجمته عن جرترود بيل كنت قد تركته مع بيتي وكتبي وكل ما املك في بغداد عشية خروجي المفاجئ والاضطراري وحتى بدون حقيبة سفر …ولم تبقى الا تلك الكلمات التي عشعشت بين زوايا الذاكرة وكان لابد من العودة الى الكتب مرة اخرى ولكن الكتب تتحدث عن ما يجب ان يقال فقط وليس عن ماحدث فعلا، تنشر الكتب ما تريدنا ان نعرفه لا ما نريد نحن ان نعرفه، عدت الى المكتبة البريطانية بعد ان زال الحظر عن وثائق الحرب العالمية الاولى وبعض من وثائق الخارجية البريطانية (قسم الجاسوسية) (intelligence service)
وجدت تقارير الجنرال مود وتقارير حول احتلال الشعيبة كلها حربية وسياسية كانت قد كتبتها جرترود بيل ولم اقتنع فالموجود لا يروي الغليل ولا يبتعد كثيرا عما قد نشر الا في حدود التفاصيل الحربية والتي صنفت ضمن الاسرار العسكرية، اذا لابد من ان هناك وثائق اخرى مخبأة في اروقة سرية لوزارة الخارجية البريطانية او وزارة الدفاع واحساسي يقول لي باننا لن نعرفها ابدا.

اعتقد ان الايام قد علمتنا نحن الذين عشنا تجارب مريرة ومتواترة ومستمرة في اي بلد عربي ان نقرأ بين السطور ونستشف ما سيجري وما جري ليس لاننا نملك ذكاء حادا لا يضاهينا فيه بشر.....!. بل لأن المثل يقول (اسأل مجرب ولا تسأل حكيم) والحكيم مجرد انسان قد خبر الحياة.

أعود الى الكتب في مكتبة جامعة نيوكاسل، مرة اخرى سلوتي وملاذي الابدي، اقرأ السطور ومابينها، في رسائل جرترود بيل الاصلية غير المطبوعة والمخزونة بكثير من الحرص في سراديب مكتبة الجامعة، احضى بها لساعات محدودة في قاعة مغلقة ومراقب القاعة بالقرب مني، اذ لا يتركون القارئ وحيدا منفردا برسائل جرترود بيل ابدا، اقرأ رسائلها الى والدها واترجم لكم ماقرأت ما كتبته جرترود بيل بالاسود على الابيض وعسى ان تجدوا ما وجدته بين السطور.

قبل الخوض في مقتطفات رسائل جرترود بيل لابد من الحديث عن خلفيتها الاجتماعية والعلمية، ولدت جرترود بيل عام 1868 لأسرة ترتبط بالمصاهرة مع الارستقراطية البريطانية و كذلك بالسّلم والتدرج و الموقع الاقتصادي والمالي، جدها منح لقب (Sir) والدها صناعي غني من منطقة Washington, Durham county وهي من النواحي التابعة الى مدينة نيوكاسل شمال شرق انكلترا، الى سن العاشرة تعلمت على يد مدرسة خاصة ثم التحقت باحدى المدارس لبنات الطبقة الراقية وبعد انهاء الدراسة درست التاريخ في جامعة اوكسفورد وتخرجت بدرجة ممتاز، عرفت بحبها للمناظرة والمجادلة والمناقشة والقراءة تقول: ان اسعد الناس في العالم من يقضي اكثر من ثلاثة عشر ساعة في المكتبة.

جرترود كانت تتكلم الفرنسية والايطالية والالمانية والفارسية والتركية والعربية بطلاقة الا ان التركية كانت تصعب عليها لعدم ممارستها للغة باستمرار.

ترجمت ونشرت اشعار حافظ عن الفارسية الا ان العربية كانت عشقها الحقيقي، رغم اننا لحد الان لم نقرأ لها اي شئ بالعربية، ربما يوما ما ستنفتح تلك الدهاليز ليخرج منها القمقم باسرار السياسة البريطانية الخفية لنجد ما قد كتبت مس بيل بالعربية. حينها قد تفتح
مكتبة جامعة نيوكاسل ايضا ادراجها المغلقة عن اسرار جرترود بيل.

تسافر جرترود الى ايران حيث قريبها الذي يعمل بالسلك الدبلوماسي.
ثم سنة 1897تسافر في جولة حول العالم مع اخيها موريس الى جزر الهند الغربية والمكسيك ثم سان فرنسسكو هونولولو
واليابان الصين سنغافورة البحر الاحمر ومصر واليونان والقسطنينية
وفي رحلات العائلة الى اوربا يتولد لدي جرترود حب تسلق الجبال وتتسلق الالب وتصبح متسلقة جبال لها مكانتها في هذا المجال.

وثقت جرترود بيل كل رحالتها بالرسائل التي كانت تبعثها الى اهلها خاصة والدها الذي كانت تربطها به صلة حميمة، لقد تبادلا الرسائل الصادقة، حدثته بكثير من التفاصيل عن مجريات حياتها العملية والخاصة، كانت دقيقة الملاحظة تسجل كل شاردة وواردة وتعلق بكثير من الصميمية والذكاء على كل ما يسترعى انتباهها.

تسافرمرة اخرى في رحلة حول العالم مع اخ لها غير شقيق 1902، ثم تعود الى انجلترا في حزيران من عام 1903 واول رحلاتها عام 1900 الى فلسطين ومنطقة سوريا ولبنان وتقول في رسائلها لا اريد شيئا في العالم غير تعلم اللغة العربية.

عام 1904 تقرر نهائيا ترك تسلق الجبال وترى ان الصحراء والاثار هما ولعها وهوايتها ومستقرها!

ترحل عبر الصحارى وما اكثرها في الارض العربية وتنقب وتستطلع البيئة و الاثار والناس، هذا السطر يثير اهتمامي كثيرا، هذا التاريخ بالذات، إذ دراستي للتاريخ جعلتني اربط التواريخ والامكنة بالتطورات السياسية والاجتماعية وخاصة السياسات الخارجية للدول الاوربية في تلك الفترة المتصارعة سريا والحليفة علنيا، مثل انكلترا وفرنسا والمانيا، مع ربط ذلك بالدول الاخرى التي تشكل مواقعها ومخزوناتها الطبيعية المصادر الحيوية لأوربا.

يستقر المقام بجرترود بيل اخيرا بعد ان تجند لخدمة المخابرات البريطانية لتعمل في ما كان يسمى من قبل الحكومات الاوربية (ما بين النهرين) ومايسميه اهله وجيرانه العراق.
في بريطانيا، جرترود بيل، عارضت بشدة اي اصلاحات اجتماعية، طبقية او سياسية التي طالبت بها فئات معينة محرومة من الغالبية السكانية للشعب البريطاني.

ان فكر جرترود السياسي كان اقصى اليمين المحافظ والذي يرعى مصالح الطبقة العليا فقط التي تتحكم بالسلطة عبر الانتخابات التي تمنح حق الانتخاب لفئة محددة فقط. عارضت جرترود بيل ولم توافق على منح حقوق التصويت للمرأة البريطانية ولا تقليص ساعات العمل بالنسبة للطبقة العاملة خاصة عمال المناجم ومعامل الاسلحة او رفع الاجور او منح اي حق او امتياز او استجابة اي مطلب مهما كان طفيفا لتحسين الوضع الاجتماعي المزري حينها للطبقات العاملة اوالفقيرة و المعدمة والمراة.
كانت جرترود قد شجعت وانتمت الى لجنة شكلت لجمع التواقيع واقامة الحملات الدعائية وتحشيد الرائ العام البريطاني ضد كل ما تطالب به المرأة من حق الانتخاب وما يطالب به العمال من تحسين الاجور وظروف العمل، بذا كانت بحق وحقيق المرأة التي خذلت بنات جنسها، وعملت كل ما بوسعها لعدم منح عمال المناجم اي مطلب من مطاليبهم لتحسين ظروف العمل رغم ان تلك المطاليب لم تكن تتعدي اضافت قروش قليلة، أوتقليل ساعات العمل اليومي التي اذ كان يوم عملهم من الخامسة فجرا الى السابعة مساء. هنا يثيرني ما يدور حاليا في هذه الالفية في هذا الشهر شباط والى ايار من سنة 2015 علمت بان متحف تابع بشكل ما للجامعة يقيم لها معرضا يثمن انجازاتها واعمالها، اثار هذا المعرض الكثير من النقاشات بين مجموعات من المثقفين والادباء والفنانيين، رئيسة نقابة فناني انكلترا تيريزا يوستون اتصلت بي قائلة هل سنسكت ونقبل بتثمين تلك المرأة بدون بحث جوانب متعددة من حياتها واعمالها بدون تحيز وبشكل عقلاني واقعي نبين السالب والموجب منه؟ مساهمتها مع المخابرات البريطانية وتنصيبها الملوك وبحثها عن المواقع الستراتيجية في الاراضي العربية الممتدة من فلسطين وسوريا والعراق ومواقع قريبة من شبه الجزيرة العربية، ان ذلك لم يكن بحسن نية وهواية كانت تؤدي واجبها تجاه مستخدميها مكتب المخابرات البريطاينة وتهيئة الارض والمعلومات لحرب قادمة وارض معركة مقترحة، ايدت ما قالته صديقتي تيريزا ووعدتها بانني ساحضر خلال الكلمات التي ستلقى وساقدم لهم البحث الذي كتبته واناقش المتكلمين كلهم، اقدم لهم كل المستمسكات المدونة والموثقة والتي وجدتها في رسائلها مع قراءة موضوعية محايدة وبدون اخفاء الحقائق او تلميع بعضها كما يحدث الان. وكلها ستكون باللغة الانكليزية، كما وانني سارسل كل ذلك باللغة العربية لصحف عراقية.

هذه مقتطفات من رسائل جرترود بيل الى والدها

الرسائل اغلبها ارسلتها الى والدها او بعض المقربين وفيها تتحدث عن الكثير من مشاهداتها وعن رسمها الحدود.
تقول في احدى رسائلها:
لقد قضيت صباح هذا اليوم في عمل نافع جدا في مكتبي، اذ كنت اخطط الحدود الجنوبية ل*العراق* بمساعدة رجل من الحائل، هو صديق قديم وعزيز اسمه (فهد بك) رئيس عشائر العنزة، وهو مؤمن بقدراتي وفهمي الشديد للأراضي و للصحراء، اطراؤه لي على تلك المعرفة يجعلني احمر خجلا. وعندما يستفسر منه (كورنواليس) عن الحدود التى تسيطر او تعود لقبيلته، يرد قائلا له أسئل الخاتون فهي ادرى مني، ولكي ابقى عند حسن الظن هذا كان لابد لي من من تحديد بالضبط مواقع ابار الري التى تعود الى عنزة والاخرى التى تعود الى شمر، وبشكل او اخر استطيع ان اقول انني وفقت في تحديد ورسم تلك الحدود وارضيت رغبة عنزة وشمر.

في رسالة اخرى تقول:
يوم الخميس عقد في منزلى اجتماع مجلس الدولة اذ عرض السير بيرسي كوكس تشكيل حكومة محلية مؤقتة برئاسة النقيب،
يوم السبت زارني جعفر باشا لياخذ راي، ان كان سيقبل بالمنصب الذي سيوكل اليه، وكيف سينظراليه حينها على انه متعاون مع الانجليز وسيفقد سمعته كشخص قومي. هولاء الذين حاربوا في سوريا قد تزعزعت ثقتهم بنا تماما، بعد ان تخلينا عنهم وعن فيصل خلال احداث سوريا. جعفر اول واحد من وادي الرافدين (مسيوبوتيميا) الذي عاد الى البلد. اكدت له باننا يجب ان نختار امير للبلاد ويجب ان يكون احد اولاد الشريف ربما زيد او عبد الله.

تقول في رسالة اخرى لوالدها:
مر علينا اسبوع عصيب جدا ولكن يبدو ان الامور ستسير كما نأمل، يوم الاثنين تناولت العشاء مع الكابتن كلايتون والميجر موراي، وتضمن هذا العشاء اجتماع مع جعفر باشا خلال هذا الوقت تفتّح جعفر باشا بالحديث معنا مثل زهره يانعة، وتحدث عن قصة احداث سوريا، عن واقعة (الدير) (حينها كنا نستمع اليه والخجل يغمرنا) كيف سببت له هذه الواقعة الالم والحزن وتفطر قلبه لما وقع، وقلت له تفطر قلبي انا ايضا، وعقب قائلا بالنسبة لنا كانت اسؤ ما حدث، اذ كنا كل ما نأمل به منكم هو الدعم والمساعدة ولكنكم تخليتم عنا. اتفقنا كلنا على انه لو كان هناك تعاون بين شعب وادي الرافدين (المسوبوتيما) والسوريين لما حصل ما حصل، وتحدث عن صعوبة التعامل مع المتعصبين من القوميين السوريين قائلا: قلت لهم تريدون الاستقلال التام وهذا ما اريده انا كلنا نحلم بصبية ذات الاربعة عشر ربيعا وبشعر طويل مسدل يغطي نصف جسمها ولكن مثل هذه الصبية مجرد حلم لا وجود لها. ثم قال جعفر باشا قبل ايام كنت في باخرة تقطع دجلة متجها الى بغداد وعلى جانبي النهر كنت انظر الى الناس من رجال ونساء في غاية البؤس والجهل واقسمت لنفسي قائلا"لو لن استطيع رفع مستوى وتثقيف هؤلاء الناس فلتغرق هذه الباخرة بي".

يوم الثلاثاء أول من جاء كان السيد طالب محتجا على تعينه في منصب وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة برئاسة النقيب، قال"ان هذا المنصب لا يعليق بكرامتي وان النقيب رجل مسن وحالما يتوفى ساخذ انا منصبه وستوفرون لي حماية كافية من الرجال تليق بي"لم اعلق على هذا الامر وقلت له هذا القرار من اختصاص السير بيرسي كوكس.

اليوم التالي، حيث بدا لنا ان كل شئ يسير بشكل طبيعى، حدث ما لم نتوقعه اذ جاء ساسون افندي مع حمدي باشا بابان وأعلنا رفضهما القاطع لتولي المنصبين المناطين بهما، استغرق اقناعهما وقتا طويلا فلا مجال هنا للاستغناء عن دور هذين الرجلين ابدا (وهنا تتطرق جرترود بكثير من التفاصيل عن كيفية اقناعهما وشرحها لهما اهمية ان يكون للسيد طالب دور في هذه الوزارة لأعطائه الفرصة رغم عدم ثقتهم به وانه سياسيا سينتهي قريبا) واخيرا وافق ساسون افندي.

وفي اليوم التالي جاء جعفر باشا مستطلعا رأي حول قبوله المنصب في هذه الوزارة، وكيف ان ذلك سيشوه سمعته اذ يقبل العمل مع سيد طالب، ثم اردف ولكني ساقبل العمل لمجرد أن أساهم في افشال دور السيد طالب الذي وصفة بابشع الاوصاف، وانه لمن المخجل ان يكون شخص مثل هذا شخصا قياديا مهما في وادي الرافدين (مسوبوتيميا) فقلت له ان أهل وادي الرافدين نتيجة لخوفهم اعطوه الاهمية وعلى اهل وادي الرافدين سحب هذه الاهمية عنه.....! اما النقيب فقد اعلن باصرار عن منع قادة العصيان من اخذ اي دور في هذه الحكومة إلا حين تاسيس حكومة عربية رسمية، أليس هذا رائعا ان تاتي هذه الكلمات من قبل النقيب وليس منا، لتعش الحكومة العربية، اعطهم المسؤلية ودعهم يصفون حساباتهم فيما بينهم، وسيفعلون ذلك افضل منا الف مرة، بالاضافة الى انهم عند توليهم مسؤلية الحكومة فانهم سيدركون ان مسؤلية الدولة ليست فقاعة هواء ساخنة بل عليهم الاحتكام الى العقل والرشد.

ومن رسالة اخرى لها الى بلفور تقول:
نحن بامس الحاجة الى بعض الرجال من شعب وادي الرافدين (مسوبوتيميا) من الذين خدموا مع فيصل في سوريا رجال عرب اقحاح، يتملكهم الشعور العربي القومي اذ لم نجدهم فسنقع بين الثيوقراطية الشيعية والبيروقراطية التركية، اما التهديد القومي التركي المتحالف مع البلشفية فسيبقى الخطر الاعظم الذي يهددنا ويبقى معنا دائما، اه يا فرانك ياللورطة التي نحن فيها ولكن بشكل او اخر نحن على وعي بما يدور اكثر من العرب انفسهم.

امس كنت في زيارة الى القبائل التي قتلت (لجمن) قبل حوالي الشهرين. الان كل شئ قد تغير تماما اذ قابلوني بكثير من الحفاوة والكرم والترحيب، كم كنت اتمنى الا يقع ما وقع، ولكن الم نكن نحن الذين كنا نقصف بني ال هاشم بالقنابل لمدة عام او اكثر و ياترى من يتحمل مسؤلية هذا الخطأ، هم ام نحن......؟
اما عصيان ديالى فلقد كان عملا غوغائيا مدعوم بتعصب ديني عماده السلب والنهب، هم مجرد متوحشين تصرفوا بوحشية ولكن لا زالوا مستمرين...........!

ومن رسالة الى والدها تقول:

زارني صباح اليوم احمد باشا قادما من البصرة لتسلم منصبه، لقد قبل بهذا المنصب بكثير من التردد وهو يكره بغداد واهلها وكل ما بها، وهي اول زيارة له الى بغداد ويصف اهل بغداد بالجهل والغباء في حين يصف اهل البصرة بالحكمة والتعقل ويزدري كل الهراء الذي يتفوه به اهل بغداد.
يقول"قبل دخول الانجليز الى البصرة كان علي استخدام 20 شخصا لحمايتي ومرافقتي لتفقد بساتين النخيل ولم يكن السلاح الناري يفارقني ابدا اما الان فأن البصرة آآمن من لندن.......! أما خط سكك الحديد والذي كان حلم كبير وتحقق جاء العرب ودمروه في العصيان...... لم لا يبقى الانجليز في البصرة وتهمل (وادي الرافدين) (مسيوبوتيميا) لتغلي بغداد باهلها وافعالها....؟"
لكنني شرحت له قائلة ان الماء الذي سيغلي اهل بغداد سرعان ما سيطفح ويصل الى اهل البصرة، لذا فأن من واجبه المشاركة بهذه اللعبة ومن الافضل له لو بقى فترة اطول في بغداد.

وفي رسالة اخرى تقول:
اصر الجنرال همبرو على عدم تسليم بناية السرايفي مركز بغداد والتي تحتلها القوات الان كما امرت بذلك (دائرة الحرب.(WAR OFFICE انه لمن السخف ان نؤجل تاسيس حكومة عربية والا نلتزم بالاوامر لمجرد عدم وجود مكان، حاليا الجيش البريطاني يشغل بناية السراي ولا يوجد مكان خال ليشغله الموظفون الاداريون العرب، كما وان الالسنة الطويلة يجب ان تخرس، ولن تخرس الا بمنح اصحابها الوظائف التي يرجونها، اذ حينها سيتوقف النباح والعوعوة اللذان يدوران في مقاهي بغداد حاليا......!

مقطع من رسالة الى السير فلانتاين كيرول
اجتمع المجلس الحكومي اليوم برئاسة النقيب، لم يحصل ما يستحق الذكر، ولكن اخبار العشائر التي اعلنت العصيان تقول انهم يتنافسون على الاستسلام للقوات البريطانية نظرا لقوة الجيش البريطاني وليس نتيجة للصلوات او لمحاولات الاقناع من المجلس العربي.
ان (مستر فليبي) يؤدي عملا عظيما حقا بكونه مستشارا للسيد طالب.
هل تعتقد انني لا اعرف عظم المشاكل التي تواجهنا؟ ولكننا على الاقل جلبنا هنا لهم معنا النزاهة والصدق ولكننى اعترف بانني اشعر بالضيق حول المؤامرات التي تحاك حول البترول......!
وعلى الاقل علينا مواجهة حقيقة، ملاحظة ابداها جعفر باشا حينما قال لي (يا ستي الاستقلال يؤخذ ولا يمنح).!

ومن رسالة الى الدها تقول:

علمت مؤخرا ان جعفر باشا يتفاوض مع الضباط العرب في الجيش التركي، من الذين لم ينضموا الى جيش فيصل في سوريا، هم على الاغلب موالون لتركيا ولديهم اعتقاد بأن تركيا يجب ان تعود لتحكم وادي الرافدين (مسيوبتيميا) فان من حكم وسيحكم هذه المنطقة يجب ان تكون لدية السيطرة على الممرات الشمالية. من المؤسف ان التاريخ السئ الذي مر بالمنطقة يدعم هذا القول، خلال الفترات البابلية والاشورية والسلوقية والفرثية وحتى الى ايام حكم الخلفاء...لا بد ان هناك حقيقة ستراتيجية تدعم هذا الرأي.!

علينا اذا امكن و بالسرعة المستطاعة القيام بالانتخابات وتشكيل مجلس وطني مهما تضمنت هذه الانتخابات من عدم كفاءة او مهازل، فانا متأكدة من ان الاغلبية ستطالب بان يكون احد ابناء الشريف حسين اميراً والسبب ان النقيب رجل كبير في السن و اولاده كلهم وهذه حقيقة لا تخفي، لا قيمة لهم ابدا وحتى في بغداد حيث يتغاضى عن الالتزام التام بالامور الخلقية، فان اولاد النقيب معروفون بالفساد، في الشرق وخاصة هنا العلاقة بالنساء ليست بالخطب الجليل ولكن الاسلام لن يغمض عينا عن العلاقة الشاذة بالصبيان وشرب الخمر. هذا امر مقزز ولكنه الحقيقة عن اولاد النقيب. ولكن فيصل ابن الشريف وفق كل الاعتبارات انسان على خلق عال ولا اعرف شيئا عن عبدالله.........!

من رسالة الى والدها
الوزارة التي يتراسها النقيب تطالب الان بعودة جميع المنفين في زمن ا.ت. ولسن خلال فترة تامرهم ضدنا، قسم منهم سذج والقسم الاخر مغفلين ولكنهم سيكونون شوكة في جنب اي حكومة. لكننى لن اتصور عودة الجميع ولحسن الحظ فان يوسف السويدى والقادة الاخرون المحرضون قد هربوا، وان النقيب خطه واضح وصارم بعدم السماح لهم بالعودة ومن حسن حظه انهم اختفوا.

نحن الان في ازمة وزارية، السيد طالب استقال من الوزارة، وطلب السماح له بالسفر الى انجلترا مع اولاده، وجاء باعذار واهية تماما، لكن نواياه الحقيقية هي كما يلي على ما اعتقد، اذ انه تقدم الى الوزارة بمطالب مطولة حول منح العفو العام واعتقد بان النقيب سيرفض وبذلك سيظهر هو بمظهر الوطني الذي حاول التعاون مع الانجليز، لكنه وجد ذلك صعبا جدا. الحقيقة هو انه يريدنا ان نفرضه على الشعب هنا كأمير، وضد رغبة الشعب، وهذا ما لن نفعله ابد، لكن جعفر باشا وساسون افندي تقدما باقتراح شبه مماثل لاحتواء مطالب السيد طالب، وكلنا اجمعنا الراي على ان استقالة السيد طالب شئ يدعو للاسف وستسبب الاستقالة نوعا من الزعزعة للوزارة التي هي اصلا غير مستقرة، ولكننا في نفس الوقت لو غادر السيد طالب الوطن وبدون شك سيكون في هذا فائدة كبيرة لنا اذا ما استطعنا الوقوف بوجه الضجة التي ستخلق نتيجة لهذه الاستقالة.

الان في سنة 2016 ماذا اقول لابد ان جرترود بيل خدمت وطنها بريطانيا بعملها في المخابرات البريطانية خلال الحرب الاولى ولكن هل فعلا خدمت بريطانيا وشعبها ام خدمت مصالح فئة طبقية معينه؟ هل رفضها لمنح المرأة حق الانتخاب ومساواتها بالاجور في المعامل ورفضها القاطع لمطالب الطبقة العاملة والطبقات المعدمة كان خدمة لبريطانيا ام لطبقتها فقط؟ هل يمكن ان اعتبر اي انسان يتجاوز على حقوق الاخرين في بلده يستطيع ان يخدم بلد احنبي غريب عنه؟ لا انكر شكري وعرفاني لها بتأسيس المتحف العراقي هل فعلت ذلك نتيجة للشعور بالذنب وهل تناولها جرعة زائدة من المنوم كان نوع من جلد وعقاب الذات؟

واعلق هل ان التاريخ يعيد نفسه بكل تقلباته، كما نراه الان في سوء ادراك القوى الاجنبية المتحكمة وتصرف المراهقة السياسية لرجال الحكومة والعملية السياسية والمحاصصة المذهبية التي تسيطر على العراق الان بكل نزواتها ونزقها وحماقتها.

واخيرا ان كانت الخاتون لا تبال بل وترفض اي مساعي لتطوير حياة مواطنيها وان توفر لهم ادنى الامكانات الخدمية الملزمة كبشر عامل منتج،فهل ستهتم وتحرص على مصالح رعايا دولة اجنبية وغريبة عنها، لم تستنشق عبير مياهها وهوائها؟ لمن ستكون اولوياتها للعراق ام للخاتون؟